الترا صوت - فريق التحرير
في حين كانت الموروثات الشعبية تحظى بأهمية بالغة، من ناحية كونها تقدم صورة عامة عن الجماعات الإنسانية، وتترجم خيالاتها وتطلعاتها ومخاوفها؛ فإن النكتة تحظى باهتمام بالغ لا يقل عما سبق، وربما يكثره. فهي بالإضافة إلى أنها جزء من التراث الذي يتخلّق بشكل جماعي، عبر سنوات طويلة، من دون فاعل واضح، فإنها أيضًا جزء من التراث الحي للجماعة الإنسانية، وليست فقط جزءًا من ماضيه.
تمثل النكتة السياسية جزءًا مما يطلق عليه عالم الاجتماع والأنثروبلوجي الأمريكي جيمس سكوت، خطابًا تحتيًا مناهضًا للسلطة، أو أحد أدوات "المقاومة بالحيلة"
تتفاعل النكتة المتداولة مع الراهن السياسي والاجتماعي، وتقع في قلب الأسئلة اليومية والمعيشية للناس، ورغم أنها قادرة بشكل لافت على التخلق ضمن بيئات وأدوات حديثة ومعاصرة دائمًا، مثل التلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي وغيرها، إلا أنها تبقى متمايزة عن الشعر والأدب والفن، من جهة أنها لا تعبر عن تجارب إبداع شخصية، مرتبطة بفاعلين محددين، وإنما تنطلق في الفضاء الاجتماعي بلا هوية، سوى هوية الجماعات الإنسانية التي تتبلور داخلها.
اقرأ/ي أيضًا: ملف خاص: المكتبات العامة في العالم العربي.. أعراض فقر التنمية
في هذه المجهولية بالضبط تبلورت النكتة السياسية، ومنها أيضًا اكتسبت قوتها، فتفاعلت مع سخط الناس ومع قضاياهم، دون أن يكون وراءها أفراد واضحون تستطيع السلطة محاسبتهم. وهي بالتالي لا تتبنى الهم العام كما تفعل أنماط من الأدب والفن النقدية مثلًا، ولكنها تتشكل داخله، وتتطور فيه.
تمثل النكتة السياسية جزءًا مما يطلق عليه عالم الاجتماع والأنثروبلوجي الأمريكي جيمس سكوت، خطابًا تحتيًا مناهضًا للسلطة، أو أحد أدوات "المقاومة بالحيلة"، كما سمّى المترجم العربي كتاب سكوت الشهير الصادر بالإنجليزية تحت عنوان "السيطرة وفنون المقاومة Domination and the Arts of Resistance". إذ إن الجماعات الخاضغة، تنشئ دائمًا خطابًا سريًا يُحكى وراء ظهور المسيطرين، كنوع من الانقلاب على الواقع الذي لا تصب فيه موازين القوة لصالحهم.
مع ذلك، لا تمثل النكتة السياسية جزءًا من الخطاب السري، لأنها تُقال سرًا، ولكن لأنها لا تقوم كما أُسلف من خلال فواعل واضحين، وكأن المجتمع جميعه، هذا الشيء الغامض والمجرد، ينطقها في لحظة واحدة.
اقرأ/ي أيضًا: ملف خاص: النقابات في العالم العربي.. جدل الصراع بين الفئوي والسياسي
كما سيتبين من المواد المرفقة من تسع دول عربية مختلفة، فإن النكتة السياسية لاقت ازدهارًا واسعًا بعد ثورات الربيع العربي، وهو ما قد يتحمل عديد التفسيرات. حيث إن تلك الفترة مرتبطة برواج وسائل التواصل الاجتماعي، والصورة الوردية التي حظيت بها أول الأمر، باعتبارها فضاءً بديلًا لا تسيطر عليه السلطة، ويمكن من خلاله البوح بما لا يتم البوح به في الفضاءات العامة التقليدية. وهي الصورة التي ستسقط لاحقًا مع تنبه أجهزة المخابرات العربية إلى هذه الأدوات الجديدة، ومع سن قوانين مراقبة المحتوى والجرائم الإلكترونية.
لا يمكن تفسير الازدهار في النكتة السياسية عربيًا، بمعزل عن الخيبة الجمعية، التي شعر بها المطالبون بالحرية والعدالة في دول عربية كثيرة، بعد عودة الأنظمة وانتصار الثورات المضادة
مع ذلك، فإنه لا يمكن تفسير هذا الازدهار في النكتة السياسية عربيًا، بمعزل عن الخيبة الجمعية، التي شعر بها المطالبون بالحرية والعدالة في دول عربية كثيرة، بعد عودة الأنظمة وانتصار الثورات المضادة. من هنا، كانت النكات التي تخترق المتداول العام في الوطن العربي، نوعًا من الانقلاب على هذا العجز، ومن التعبير عن هذه الخيبة، والتطلع ربما إلى زمن عربي جميل مرة أخرى، لا تنتصر فيه الأنظمة دائمًا.