لم يكن التّشكيلي والمصمّم الجزائري منير غوري (1985) يُدرك ما معنى النّصيحة التي قدّمتها له معلّمته في المرحلة الابتدائية، انطلاقًا من الأفكار "الغريبة"، التي كانت تصدر عنه حين قالت له: "التحقْ بمدرسة الفنون الجميلة حين تكبر". غير أنّ ذلك، كما يقول منير غوري "دفعني إلى أن أسأل عن معنى الفنون الجميلة، وهو ما برمجني على الرّسم منذ طفولتي".
الفنّ لا ينتقم مثل السّياسة، بل يحارب روح الانتقام أصلًا
لم تكن تلك الغرابة التي اعتمدت عليها المعلمة، في نصيحتها لتلميذها المشاغب، إلا ثمرة لغرابة اللحظة الجزائرية، في تسعينات القرن العشرين، حيث كان الأخ يقتل أخاه، والجار يشي بجاره، والتلميذ يذبح معلّمه، ولم يعد الغول يسكن الحكايات، كما في السّابق، بل بات يسكن يوميات الطفل وليلياته، "إذ كنت أتوقّع أن أموت أو أختطف في أية لحظة وفي أيّة زاوية"، وهي الخلفية النّفسية التي أثمرت لوحات وتصاميم ومنحوتات وفيديوهات فنيةً، تشير إلى بشاعة وانغلاق الفكر المتطرّف، حين صار هذا الطفل تشكيليًا.
اقرأ/ي أيضًا: فريد عمارة.. سحر البساطة
لم يفعل منير غوري ذلك انتقامًا من مرحلة سابقة، بل تحذيرًا من مرحلة قادمة، إذا استمرّت المنظومات المختلفة في استقالتها المعنوية والفكرية، في الإعداد لإنسان يؤمن بإنسانيته، وبقيم الحوار والتسامح والتعايش والاختلاف، "الفنّ لا ينتقم مثل السّياسة، بل يحارب روح الانتقام أصلًا، ويشير إلى مواطن الهشاشة والبشاعة، في التعاملات والأفكار الإنسانية، التي تملك القدرة على إنتاج إنسان مشوّه يستمتع بسفك الدّماء".
من هنا، يجد منير غوري متعة عميقة في الاشتغال على ملامح الجسد البشري، ليس بوصفه موضوعًا للّوحة، بل بوصفه اللوحةَ نفسها، فهو يتخذ من هذا الجسد الحيّ حقلًا لزرع رسائلَ إمّا تشير إلى موته أو إمكانية موته، ذلك أنّ التفاتًا عالميًا مبالغًا فيه إلى موت الرّوح أو تعليبها، في مقابل غفلة عن موت الجسد أو تعليبه، وهذا النّوع من التّعاطي، يُشكّل في جوهره إحدى الخلفيات العميقة والمسكوت عنها، لظاهرة تخريب الجسد انتصارًا لمقولات روحية متطرّفة.
أصبحت هذه الخلفية الفلسفية لدى منير غوري، مقدمة لأن يُقحم جسده أو عضوًا منه، في المشهد التّشكيلي الخاص به، ليشكل عليه/ به نصًّا يُقرأ، من خلال الاستعانة برمزية غرض من الأغراض المادية، قد يكون قماشًا أو ملعقة أو صحنًا أو عملة أو ولّاعة، أو من خلال عبارات مكتوبة أو مشاهد مرسومة أو رموز متعارف على معناها عالميًا. هنا يصبح المتلقّي شريكًا بالضّرورة، من خلال التفاعل والتّأويل.
عند منير غوري، يمكن للملعقة والمنديل وعود الثقاب أن تصبح رموزًا مشحونة برسائل إنسانية وفلسفية
ولأنّ الجسد/ اللّوحة لا يمكن أن يثبت على حال، فهو يستعين بفنّي الصّورة والفيديو لتخليد اللحظة، فتتحالف تقنيات التشكيل مع تقنيات التصوير، للقبض على لحظة الجسد في احتجاجه على الواقع الإنساني المفخّخ، فلا ندري هل نحن بصدد مشاهدة لحظة روحية أم جسدية، انسجامًا مع الحيرة التي يعيشها الإنسان المعاصر، في تعامله مع جسده وروحه.
مآل كلّ لوحة تشكيلية، عند منير غوري، هو صورة فوتوغرافية، وإلا كان عمرها من عمر الفراشة أو أقلّ، ممّا يجعل كلّ ما تراه العين قابلًا لأن يُستثمر فنّيًا، فالملعقة ليست للأكل فقط، والإناء ليس للشّرب فقط، والمنديل ليس للمسح فقط، وعود الثقاب ليس لتوليع النّار فقط، بل يمكن أن تصبح رموزًا مشحونة برسائل إنسانية وفلسفية، إذا أطّرها الوعي الفنيّ في وضعيات معيّنة، إلى جوار وضعيات أخرى، تتكامل معها في تحقيق تلك الرّسائل. يقول منير غوري: "عالمنا هو مجموعة من الرّسائل، التي تحملها مجموعة عناصره الصغيرة".
اقرأ/ي أيضًا: 9 تشكيليين رسموا الست.. تلوين صوت الزمن
من غرفة تتكوّن من ثلاثة أمتار مربّعة، ويعدّ جهاز الإعلام الآلي أهمّ العناصر الموجودة فيها، حتى أنّها لا تتوفّر على مصباح، بحكم أن العملية الفنّية هنا تقوم على التّصميم، ينطلق منير غوري إلى مدن العالم، حيث شارك في العديد من معارضها ومهرجاناتها وتظاهراتها المعنية بالفنّ المعاصر. "كلما كنت في غرفتي رغبت في السّفر إلى العالم، وكلما سافرت شدّني الحنين إلى غرفتي، فأنا أعيش بين عالمين: السّفر في تفاصيل الإنسان والمكان، والصور التي تقرأ تلك التّفاصيل".
من ذلك صالون الرّسم المعاصر (وهران، 2013)، ومعرض دونكيرك عاصمة الثقافة الإقليمية (فرنسا، 2013)، وغاليري باريس (2015)، ومعرض الشرق الأوسط للفنون الجميلة (بيروت)، ومعرض الفن المعاصر (واشنطن، 2017)، وورشة التشكيل (تونس، 2017).
اقرأ/ي أيضًا: