حتى وإن لم تكن مهتمًا كثيرًا بالمتابعات السياسية، إلا أنك على الأغلب قد سمعت بفضيحة ووترغيت السياسية، التي يقول البعض إنها أكبر عملية فساد سياسي في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية. كأنّ حِيَل الفساد السياسي كانت تُحضّر مفاجأة للجميع، فربما كان أمرًا عاديًا أن تتطور عدة أحزاب، أو حتى ولايات، في عمليات فساد وغسيل أموال، لكن أن تتورط دولة من الساحل للساحل فهو حقًا لأمر مثير للاهتمام.
الفضيحة الكبرى
"لافا جاتو" أو بالعربية "غسيل السيارات"، هو اسم التحقيق الموسع الذي اقترن أيضًا بالكشف عن شبكة ضخمة من الفساد. سُمي التحقيق بهذا الاسم لأن الفضيحة تبدأ من شركة بتروبراس، وهي سادس أكبر شركة للطاقة في العالم من حيث الأصول، وتشارك في جميع أنحاء العالم في استكشاف وإنتاج وتكرير وبيع النفط والغاز، وهي بمثابة حجر الأساس في الاقتصاد البرازيلي النامي.
كشفت التحقيقات عن تورط كبار مسوؤلين في البرازيل بالفساد، بينهم رئيسان سابقان
أما التحقيقات، فقد كشفت عن تورط كبار المسؤولين في الدولة في هذه القضية، وأُلقي القبض بالفعل على عشرات المسؤولين التنفيذيين في أكبر شركات البناء في البرازيل، الذين ثبت تورطهم في القضية بين عامي 2004 و2014، والذين تبلغ قيمة الأموال المُحوّلة لحسابات خارجية تابعة لهم 8 مليار دولار.
اقرأ/ي أيضًا: شعوب أسقطت انقلابات.. البرازيل
وتحوّل الأمر إلى قضية رأي عام بعد أن بدأ المحققون بالتشكيك في حركة مليارات الدولارات في البرازيل، تبدو أنها شرعية، بينما هي في الحقيقة تستخدم شركات غسيل السيارات لعمليات غسيل أموال مُوسّعة. وقد عثر المحققون على عدة روابط تجمع مخططات الفساد تلك، مع شركة بتروبراس المملوكة للدولة.
أما علاقة رئيسة البرازيل السابقة ديلما روسيف بالقصة، فلا يبدو أنه من الممكن بحال أن تكون علاقة محايدة، كونها كانت رئيسة شركة بتروبراس سابقًا. الرئيس الأسبق لولا دا سيلفا طالته هو الآخر اتهامات بالفساد، وأُلقي القبض عليه وتم استجوابه، إلا أنّه أصر على أن إلقاء القبض عليه كان تعسفيًا لأنّه لم يرفض أبدًا الادلاء بشهادته.
ومنذ عام 2014، ركزت التحقيقات على عملاء يُعرفون باسم "الدولييروس"، وهم تجار المال في السوق السوداء، الذين استخدموا شركات صغيرة مثل محطات البنزين وغسيل السيارات، لغسل أرباح جرائمهم المالية. ولكن بعد مزيد من التحقيقات، وُجد أن هؤلاء الدولييروس يعملون لحساب أحد المديرين التنفيذيين داخل بتروبراس، و هو باولو روبرتو كوستا، مدير التكرير والتوريد.
أدى هذا الارتباط إلى أن يكشف المحققون عن شبكة واسعة ومتشعبة من الفساد. وفي إطار الاستجواب وصف كوستا، كيف كان "سيرفيرو" وغيره من مديري شركة بتروبراس يتقاضون عمدًا مبالغ في العقود المبرمة مع شركات البناء والحفارات ومصافي التكرير وسفن الاستكشاف، وقد اتفق المقاولون الذين كانوا يدفعون، على ذلك، لضمان أعمالهم واستمرارها.
كيف وصلت هذه الأموال للسياسيين؟
استخدمت هذه الأموال لدعم السياسيين في مناصب الحكم الرئيسية، وكذا للأحزاب السياسية التي يمثلونها، وأيضًا لهدف شديد الأهمية، وهو تمويل الحملات الانتخابية للحفاظ على الائتلاف الحاكم في السلطة.
ولم يكن السياسيون وحدهم من استفادوا من الأموال، وإنما كل من ساهم في اتمام هذه الصفقات، فكانت الرشوة تُدفع نقدًا أو عينًا كسيارات فارهة أو لوحات فنية باهظة الثمن، أو ساعات فاخرة، أو يخوت أو مروحيات خاصة. كما أن مبالغ مليونية أودعت في حسابات مصرفية سويسرية، وأُخرى غُسلت في صفقات عقارية في الخارج.
الصحافة والقضاء أمام الفضيحة
أحد أبرز القضاة الذين ترددت أسماؤهم في القضية، هو "سيرجيو مورو"، وهو قاضٍ شاب طموح، ساعد المحققين في أن يضغطوا على المشتبه فيهم لقبول الاحتجازات الوقائية المطولة، بخاصة وأنهم من الطبقة النافذة في البرازيل. كما منع مرور الكفالات عن المتورطين في القضية، ووفقًا لصحيفة الغارديان البريطانية، فيبدو أنه فعل ذلك كي يمنع هؤلاء المتورطين من استخدام نفوذهم الاقتصادي أو السياسي للتهرب من التهم، أو التأثير على مجريات التحقيقات.
وانضم إلى هذا القاضي، لمساعدته في قضيته، عديد من وجوه المعارضة غير المعروفة، فضلًا عن الشعبية الكبيرة التي حظي بها في بلده.
أما أعمدة الصحف فركّزت على تناقض النظرة إلى عالم السياسة بـ"قذاراته"، وعالم القضاء والشرطة، إذ نشرت إحدى الصحف صورًا لمتظاهرين يدعمون القاضي سيرجيو مورو، وآخرين يطالبون بترشحه للانتخابات الرئاسية. وحازت أيضًا الشرطة البرازيلية الاتحادية على جانب من المدح اولثناء أيضًا لتفاعلها الإيجابي مع القضية، في الوقت الذي فقدت فيه الساحة السياسية ثقة الكثير من المواطنين، على خلفية هذه الفضيحة المدوية.
إرثٌ قديم
رغم أنّ إدانة الكثير من أبطال هذه القضية المعروفين والمغمورين وصدور أحكام بحقهم ورغم من أن الاتهامات طالت الرئيس الحالي للبرازيل ميشال تامر، فإن وكالة أنباء بلومبيرغ تحلل القصة بمقاربة تاريخية طريفة، فهي ترى أنه ومنذ إعلان استقلال البرازيل كانت هناك ثلاث سرطانات انتشرت في البلاد، الأول التزاوج غير الشرعي بين المال والسلطة، وجاء البرلمان ونوابه بفسادهم ليكون بدلًا عن رجال الحاشية الملكية بفسادهم.
المأساة الثانية كانت انعدام العدالة الاجتماعية، إذ أنشئت الملكية على الطبقية التي أبقت الثروة مقيدة في أيدي النخبة التي كانت تدور الرشوة فيها، دفعًا وتحصيلًا. وإلى الآن لا يزال هذا الترتيب الطبقي قائمًا، لكن بدون ملكية، فحسب دراسة حديثة أجرتها جامعة برازيليا، فإنّ أقل من 1% من سكان البرازيل يمتكلون نصف إجمالي إنتاجها المحلي تقريبًا!
أما السرطان الثالث فيتمثل في البيروقراطية المتضخمة، التي انتقلت من النظام الملكي إلى النظام الحالي، مع مصروفات ضخمة من الميزانية، واستنزاف لثلثي إجمالي الإيرادات العامة، ومع ذلك فإن أداء الجهاز الإداري وموظفيه، لا يعكس مقابل أجورهم وما يُصرف على تضخم جهازهم.
من برازيليا إلى القاهرة
انطلاقًا من أدوات تحليل بلومبيرغ لما يحدث في البرازيل، نستذكر قصة مُشابهة في المنطقة العربية، تحديدًا العاصمة المصرية القاهرة، حيث "جمهورية الضباط" التي تسلمت حكم البلاد فعليًا في تموز/يوليو 1952، لتحل محل النخبة الملكية، فسادت احتكاراتها طول البلاد وعرضها، بدلًا عن الإقطاع.
وسعت دولة الضباط الجديدة إلى فعل أول شيء يمكن أن يضمن بقاءها، وهو شراء الولاءات المحيطة. ويورد يزيد الصايغ في تقريره "جمهورية الضباط"، بالأرقام أثمان هذه الولاءات التي كلفت ولا زالت تكلف الدولة الكثير، فبالنسبة للواء المتقاعد فهو يحصل على 6670 دولار، ومعاش شهري تقاعدي يعادل 500 دولار.
كما يقدر عدد الضباط الذين نزعوا الزي العسكري وحصلوا على وظائف مهمة في الدولة، قرابة 1500 ضابط، عينوا في وظائف عليا في مؤسسات غير عسكرية، وذلك فقط خلال الفترة الزمنية ما بين عامي 1954 و1962.
لا يوجد رصد دقيق لحجم اقتصاد الجيش المصري، لكن بعض التقديرات في 2012 قالت إن حجم صناعات الجيش من الناتج المحلي قد تصل إلى 40%
وفي عهد الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك، احتفظ العسكريون السابقون، وبشكل حصري وشبه دائم، بحقائب وزارات الدفاع والإنتاج الحربي والطيران المدني والتنمية المحلية (الحكم المحلي)، كما تولى بعضهم أحيانًا وزارات أخرى مثل النقل والاتصالات والبيئة والتضامن الاجتماعي، ويُضاف إلى ذلك أنّ كثيرًا من العسكريين المتقاعدين يشغلون مناصب وكلاء وزراء ومدراء عامين في وزارات.
أما بالنسبة لحجم الأنشطة الاقتصادية للجيش، فقد كشف نائب وزير الدفاع للشؤون المالية عام 2012، عن العائدات السنوية للأنشطة الاقتصادية للجيش (198 مليون دولار)، وعن نسبتها في ميزانية الدولة، أي ما يعادل 4.2% من إجمالي الميزانية العامة للبلاد، لكن نائب وزير الدفاع رفض تقديم أي أدلة آنذاك على صحة هذه الأرقام.
اقرأ/ي أيضًا: أزمة لبن الأطفال بمصر: الوجه القبيح لبزنس الجيش!
وليس ثمة دراسة واحدة دقيقة صدرت فيما بعد بحجم اقتصاد الجيش المصري الحقيقي داخل الدولة، إلا أن تغلغل الجيش في الحياة المدنية المصرية، وفي الاقتصاد المصري، واضح للعيان ضخامته، وإن كانت بعض التقديرات التي تعود لعام 2012 تقول إن حجم صناعات الجيش من الناتج المحلي المصري، قد تصل إلى 40%!
اقرأ/ي أيضًا:
الجيش والسياسة - إشكاليات نظرية ونماذج عربية.. كتاب جديد لعزمي بشارة