ولِدتُ وأنا خائفٌ من الموت، بعد ولادةٍ قيصريّةٍ عسيرة.
وعرفت الخوف منه في أوّلِ الوعي والإدراك للأشياء.
فكانت أوّل تشكُّلاته كمكانٍ لصناعة الموت هو "الحجّ"، ذلك المكان الأبيض الغامض، الذي أخذ الكثير من الذاهبين إليه ولم يقدم بإعادتهم.
ولا أذكر أقدم من صوت أمي وهي تردد أحد الأدعية التي حفظتها عن ظهر قلب، لتقول من خلالها: نيال مين مات بالحج.. ببيت الله! وفي صباح عرفات وما إلى ذلك، إضافة لبعض حوادث الفقد التي أصابت من حولنا من الجيران بين أضحىً وآخر.
وهكذا حتى صرت أتوجّسُ من هذا المكان، وأشعر منه بالرهبة..
لا على نفسي، حيث كنت حتى ذلك الوقت متأكدًا بأن الموت لا يطال إلّا الكبار والطّاعنين في السنّ، وأنّه على المرء، وقبل أن يموت، بأن يكبر.
لكنه كان خوفًا على أمي، على أبي وعلى جميع من أحب من كبار السن.
ولطالما تساءلت في نفسي عن سبب عدم ذهاب جارنا أبو أسامة إلى الحج؟ وكم كنت أرتجف من صوته، كإحدى فزّاعات الطفولة.
ازداد التقدم بالعمر ومعه بدأت طبقات الخيال الرقيقةِ بالتكسُّر، كزجاج جليدِ البحيرات الباكر، ولم يعد معها الخوف مرتبطًا بمكانٍ مُحدّد، ولا بموضوعٍ خاص.
بدأت بإدراك الحقيقة التي تنتشر في نشرات الأخبار وفي صفير السّماء بالطائرات العسكريّة كل يوم، وفي تحيّة القائد والعلم وكراهيّة الأعداء، وأن نتمنّى الموت للأعداء، بل صار لزامًا علينا أن نبدّل كراهيّاتنا ودعواتنا بالموت مع تبدّلات السّاسة والسياسة ولعبة الدبلوماسيّة. فمن تمنّينا له الموت في الأمس على منابر الجوامع، صار صديقًا وحليفًا اليوم، وصار يجوز له الدعاء أو ربما يجب.. وهكذا...
حتى تشكّل في اللاوعي ربطٌ بين الخوف والعدو والموت والقوميّة والسياسة. هي ثقافةٌ تجمع بين الكراهية والخوف، فتصير الكراهية وقودًا لنارٍ يشعلها الخوف في ضمائرنا، ويستعبدنا من خلالها.
*
يقول جورج غوردون بايرون: "الكراهية إحساس هو الأطول أمدًا على الإطلاق.الناس يقعون في الحب في لحظة خاطفة، ولكنهم يكرهون بتمهُّلٍ وعلى رويّة".
اقرأ/ي أيضًا: