- إلى روح الكاتب الاسباني والمراكشي خوان غويتيسولو
للمنازل العتيقة في مراكش بابان. الأول أماميّ للساكن، وهو صحيح. والثاني خلفيّ للزائر، وهو خاطئ. وفي كنف واحد منها، له بابان بالطبع. ﺃحدهما صحيح، والآخر خاطئ. يقع بدرب "أبو الفضائل"، ويحمل تحديدًا رقم سبعة، كان يسكن ﺇسبانيّ يطلق على نفسه مسمّى خوان.
الله وحده يعلم إن كان ذلك حقيقيًا، أم أنّه ينتحل فحسب هويّة مخترعة على سبيل التضليل. لكن، ما هو مؤكد أنّ الرجل تولّه بمدينة "البهجة"، وأطال المكوث بها حتّى صارت لباسًا له وصار لباسًا لها. بل، الأدهى من ذلك، أنّ خوان هذا ما عاد في عيون جيرانه غامضًا وغريب المنبت شأن كلّ الذين لا ﺃرض لهم. وإنّما أصبح، بمرور السنوات ودفء العشرة، هو "عمّي خوان"، خاصة بفضل الصبية الذين ﺃلصقوا به هذا النسب، وألفوا الهتاف به عاليًا خلفه كلّما لمحوه مطلاّ من رأس الزقاق لينفحهم من قطع الحلوى المكدّسة في جيوبه.
خوان الذي عمّا قليل، سوف يستفيق، على وقع أذان صلاة العصر، من نوم ثقيل تجاوز قدر القيلولة، وتخلّله حلم مزعج. لا يمكن التيقّن، على وجه الدقّة، من أنّ خوان استفاق فعلًا أم لا، كما يصعب التحقّق من طبيعة الحلم المزعج الذي ﺃلمّ به، لأنّها تفاصيل يتكتّم عليها السارد، ويعدّها من الأسرار المهنيّة التي لا يجوز الكشف عنها في هذه المرحلة الأوّليّة من الحكاية. ما علينا. المهم، أنّ خوان بعد نهوضه من فراشه، سيأخذ، في البداية، دشًّا لينفض عنه بالماء البارد الظّنون التي ناوشته أثناء الحلم، لدرجة أنّه سيشعر بسعادة غامرة لكونه ما يزال حيًّا يرزق بعد كلّ ما قاساه من أهوال ورؤى في منامته.
ثم عقب هذا، وجريًا على طقوسه التي لا يعدل عنها، وبالترتيب ذاته غداة كلّ يوم: أمام مرآة الحمام، شعره المخضّب بسنابل العمر البيضاء، سيمشط. ثيابه التي أضحت، في الشهور الأخيرة، أوسع قليلًا من بنيته المحنيّة بكاهل عقده التاسع، سيرتدي. نعليه الجلديين الخفيفين الملائمين لحرّ الصيف اللافح، سيحتذي. غيلمه وسلاحفه الصغيرة التي يربّيها كالأولاد داخل حوض الفناء، سيطعم. الستائر على النوافذ، سينزل. ثم من الباب الخلفي للمنزل، سيبارح.
لو أنّ خوان بارح المنزل من الباب الأماميّ، من الباب الصحيح، لانتهت هذه الحكاية قبل أن تبدأ. لصارت رأسا من دون قدمين. لكن، لحسن الحظ، وبخلاف ما اعتاد عليه كلّ يوم، وهو يقصد ساحة "جامع الفنا" كمن يؤدي فرض عين، أو ينزل إلى نهر مقدس ليغسل روحه من أدران العالم، غادر من الباب الخلفيّ، من الباب الخاطئ.
بخطوات بطيئة واهنة مثل من يحمل على كتفيه كيسًا لا مرئيًّا عامرًا بالزمن، سينحدر خوان عبر الممرات الضيقة والملتوية كالمصارين لحي "القنارية"، ولن يتفطّن إلى كونها مقفرة من السالكين على الرغم من كون الساعة ذروة للغدوّ والرواح. سينعطف على يده اليمنى ليمرّ بمحاذاة سينما "ﺇيذن"، ولن يتبيّن أنّ بوابتها موصدة على الرغم من أنّ اليوم ليس بجمعة.
خوان الشارد والمغيّب عن ذاته، والذي لا نعلم إن كان قد قطع كلّ هذه المسافة في الواقع أم أنه كان يمشي فحسب داخل رأسه في غضون الحلم، سوف يصل إلى مقهى "فرنسا"، وسينتبذ موضعه الذي لا يغيره على يسار الباحة الخارجية، حتّى دون أن ينتبه إلى غياب النُّدل وخواء المناضد من مقتعديها، الذين من المفترض، في الأحوال العاديّة، وفي مثل هذا الوقت، أنهم وفدوا من كلّ فجّ عميق، وحرصوا على احتلال الكراسي منذ ساعات مضت، كي يكونوا على مرمى ساحة "العجب"، فيجلبون بأنظارهم كرنفال الفرجة، الذي يأتي إلى أحداقهم طائعا حتّى دون أن يجشموا أقدامهم مشقّة الذهاب إليه.
لو أنّ خوان بارح المنزل من الباب الأماميّ، من الباب الصحيح، لتابت الحكاية إلى رشدها توبة نصوحًا، ولاتضح الخيط من عين الإبرة في كلّ هذه الوقائع التي لا تريد أن ترجع عن غيّ الالتباس. وآنئذ، لوجد خوان الممرات مأهولة بازدحام شديد وقوده الناس والمناكب. لكانت سينما "ﺇيذن" مشرعة البوّابة وتعرض فيلم "الرجل الذي كان يعرف أكثر من اللازم" لألفريد هتشكوك. ولغصّت مقهى "فرنسا" بروادها حينما وصل إليها لينتبذ موضعه الذي لا يغيره على يسار الباحة الخارجية.
وقتها، كان سيلمحه مولاي البشير، النادل الكهل صاحب نظارات قعر الكأس، وسيهبّ لتحيّته بالدارجة المغربية، ثم سيهرع لجلب الشاي المنعنع وقنينة الماء المعدنيّ الصغيرة. طبعًا، مولاي البشير لن يظهر له أيّ ﺃثر، لأنّ خوان بارح المنزل من الباب الخلفيّ، من الباب الخاطئ.
خوان الذي عمّا قليل، سوف يعثر على نفسه بعد أن أدرك أنه كان قد نسي كيانه في المنزل وخرج. فها أخيرًا قد انكسر الشرود الذي جعل الروح قانطة والبصر زائغًا. والآن فقط سيبذل، من موضعه على كرسي المقهى، قصارى وعيه ونظره في اتجاه قارعة ساحة "جامع الفنا" ليرى السماء فوقها منفرطة، يتناوب فيها الغروب والشروق بفارق لحظات لا غير كأنّها الغاشيّة، وتحلق في ﺃفقها المضطرب لاطمة الهواء مثل الكواكب الدرية أسراب لا عدّ لها من مخلوقات غريبة، هي مسوخ بأجساد آدميّة، لكنها مزوّدة بأجنحة ومناقير اللقالق.
كما سيتطلّع خوان، وهو في حيرة من أمره إن كان ما يراه حلمًا أم هذيانًا من ابتداع عقله، إلى أرضية الساحة والحيطان الحافّة بها، التي كانت مزروعة بعشرات الجثث المشدودة بالأغلال والمشنوقة عارية من رقابها على عواميد خشبيّة.
سيعرف، إذن، أنه لمّا بارح من ذلك الباب الخلفيّ، من ذلك الخاطئ، أنه وصل بطريقة مّا إلى ساحة أخرى كأنّها جناس تصحيفيّ للساحة الأصل، التي فقدت خصالها لتغدو ساحة بلا مكان. ساحة لا تنّادي فيها ولا فيها إقبال ولا إدبار. لا فرح هنا وهنا لا فرجة توقّعها حناجر الحكواتيين وأوتار الموسيقيين وأجساد الراقصين.
تراب وحجر فحسب يلفّهما البلاء والسكون. رحبة فسيحة بسطت عليها المنون يديها. ومن وسطها، سيلوح له، خطفًا، من البعيد، رجل عليه سيمياء ذلك الذي يدعوه أهل مراكش ببن لحسن، وكيل الأفواه المريضة وطبيب الأسنان المنخورة على طريقة السلف الصالح في الأسواق الشعبيّة داخل عيادات الهواء الطلق، والذي كان خوان يحسب أنّه ذهب ليستريح في العالم الآخر منذ سنوات خلت، بعد أن بارت حرفته وخذلته الأصابع التي كان ينزع بها الألم.
الرجل سيشير له، مرارًا وتكرارًا، كيما يقبل عليه، وهو يقتعد تحت مظلّة واقية حصيرًا طويلًا مثل الصراط، وفي يده ملقاط رهيب.
سيمثل خوان أمامه بعد أن مضى من المقهى وكان كلّما مشى ترك خطوته مطبوعة حيث مشى. سيعرف أنه خلّف حياته وراءه، وبأنّه في هذه الأثناء كان قد قطع عمره بأكمله.
فجأة، سيزايل خوان الجزع ليغدو قويًا، ثبت الجنان، وهو ينصت لبن لحسن، الذي نشر أمامه علبة قصدير عامرة بالأضراس المسوّسة، ثم طفق يتلو عليه الأسماء جميعها. أسماء كلّ صناع الفرجة، ومجترحي الكلام المقفّى، ومرصّصي المعاني الغائرة، ممن مرّوا بالساحة: "ميخي"، "باقشيش"، "ولد عيشة"، "فقيه العيالات"، "الملك جالوق"، "ﺇمداحن"، "الصاروخ"، "الشرقاوي مول الحمام"، "التمعيشة"، "الحاج بلعيد"، "فليفلة"، "واهروش"، "لمسيح"، "عيشة ريال"، "دكتور الحشرات"، "كيلي جولي"...
في هذه اللحظة بالذات، سوف يعود الخيط إلى عين الإبرة في كفّ سارد هذه الحكاية، ليخبرنا – والعهدة منه وﺇليه – بأنّ خوان سيستفيق، على وقع أذان صلاة العصر، مبلّلًا بالعرق. وعند نهوضه، سوف يلقي نظرة متوجّسة على الباب الخلفيّ للمنزل، لكنه وهو يبارح من الباب الأماميّ، كان يشكو صداعًا بفكّه.. صداعًا فظيعًا كما لو أنّ ﺃحدهم نزع له بملقاط رهيب ضرسًا سليمًا في الحلم!
- السند: كان الكاتب الإسباني خوان غويتسولو (1931- 2017) يقضي منذ العام 1976 عدّة أشهر في مدينة مراكش، يأتي مع عودة النوارس ويرحل برحيلها. وفي العام 1997، أصبح مقيمًا بشكل دائم، يسكن حي "القنارية "، ويرتاد مقهى "فرنسا" بعد إغلاق مقهاه المفضّلة "ماطيش"، التي سمّاها ذات حوار ﺑ"المجلس الوطني للتبركيك" (أي للتجسّس ومراقبة الآخرين). هذه الحكاية تستفيد من العادات اليوميّة للكاتب بالمدينة الحمراء، وكذا مما كتبه بين سطور روايته "مقبرة" (منشورات سوي، 1980) عن رواد ساحة "جامع الفنا" المكان الشعريّ لمراكش. وفي أحبولة الحكاية، أيضًا، تلميح إلى قصته القصيرة "الرجال اللقالق"، التي تستوحي أسطورة مغربيّة عريقة تقول إن اللقالق كائنات بشريّة تتقمّص شكل الطيور عند السفر، ومتى عادت إلى موطنها الأصليّ استعادت هيئتها الطبيعيّة. فضلًا عن هذا، تحيل الحكاية على التاريخ القديم للساحة بوصفها فضاء لإعدام المتمردين وجزّ رقاب العصاة والطواغيت، وتعليقها على جدار مخصّص لهذا الغرض.
اقرأ/ي أيضًا: