لم يكن سباقًا اخترناه، ولم يؤخذ برأينا حين أطلقت صافرةُ البداية، والجماهير المكتظة حولَ المضمار ليست حقيقية، بل تنتظرُ دورها على خط الانطلاق، لتبدأ، مثلنا، الركض نحوَ كلِّ شيء.
إذًا، هي الصدفة التي جَمعَتنا، أو ربما دقائقَ رومانسية لم تترك أثرًا في زوجٍ ما لليوم التالي فأصبحت ذكرى، وكنّا ناتجها.
الصافرةُ التي أطلقتها الممرضة في غرفة الولادة كانت إشارةً لنا، كنّا أصغر من أن نستوعب ما وراءها، فاستعضنا عن الاعتراض بالبكاء، وتناولتنا الأيدي متعاقبةً فأخرجتنا من راحة ألفناها لتسعةِ أشهر وتعودنا عليها، لنبدأ الهرولة.
نحنُ الجماهير التي اصطفت بجانبِ سكّة الحياة، فشاهدنا الذي وقع في منتصفِ الطريق، والآخر الذي لم يستطع أن يُكمل الخطوةِ الثالثة، ونحنُ أيضًا الذين راهنّا على مساق رأينا فيه أقلَّ ألم والكثير من السِلم فشدّنا، وحينَ اخترناه فاجأنا بتغيير ثيمته، فكادَ أن يُسقطنا.
لربما كنّا اخترنا العربة الخاطئة منذُ البداية.
تسيرُ الحياة كقطارٍ يشبكُ بين أولَ بكاء وغفوتنا الأخيرة. محطتين رئيسيتين، وما بينهما كان ما اخترناه.
*
مَن التقينا منذُ يومنا الأول هم ركابُ ذاتِ العربة، تنتهي مرافقتهم لنا بحسبِ المحطةِ التي يختارون، تفتحُ الأبواب وتُغلق، يُنادي قابضُ التذاكر على الذين انتهت مهلتهم هُنا فيقذفهم خارجًا على سككٍ لا تتقلص أبدًا.
نتشابهُ مع هذه السكك حينَ تتقاطعُ طرُقنا مع أخرى تسيرُ عَبرنا، وما بعثرنا من أنفاسٍ في محاولةٍ منّا لفهم قانون الأولويات كانَت مُجدية لنفسح للقليلِ من الضوءٍ فنضعُ أقدامنا مُطمئنينَ لثبات الأرض تحتنا. الأرض ذاتها التي لن توفر منّا سنتيمرًا واحدًا حين ننامُ عرايا على خدّها.
نسيرُ كقطارٍ نحو وجهةٍ محددة، لا نملكُ معه سوى بطاقةُ صعودٍ محددة الصلاحية، ووجوه سنحفظُ ملامحها بعضَ الوقت، منها أيضًا انعكاسُ وجهنا على زجاجِ النافذةِ الكبيرة التي رأت أكثر منا في ثباتها هُنا، والمطرقةُ المعدنية المعلّقةُ في زاويتها العليا متروكةٌ لمجنونٍ سيأتي، ويحرر سكّان هذه العَربة.
*
كلُّ الصفارات تتشابهُ في بداياتها، وحين نعتادها، تُصبحُ بلا رهبة.
كأول العَتمة وآخر الليل، كحلقٍ جاف وعينٌ لا تَرى، كصرخةٍ بعيدة وحكحكةٌ غريبة تحت النافذة، رهبةٌ مؤقتة تزولُ بعد خفقاتٍ سريعة وردُّ فعلٍ لا نتحكمُ به.
نحنُ انطفاءُ الفحم بعدَ رحلةٍ عائلية فيها ما فيها من مُتعةٍ ومن نكد، ونحنُ جفافُ ما التصقَ بأجسادنا من ماء البحر.
كسحبِ عصبِ ضرسٍ من فكّنا العُلوي ننتزعُ أيامنا من كومةِ ما تبقى لنا، نلضمُ دقيقةَ الفرح بما يليها كي ننسجَ لنا حكاية نتركها بعدنا، وحين نبدأ بكتابتها تأكلنا الدقائقُ الأخرى التي كانت تنتظرُ خلفَ الباب، نُداري عَجزنا هامسين –لأنفسنا سرًّا- لسنا درويش ولا كَنفاني ولا حَبيبي لنترك القليل مما تركوا، ثُمَّ، في الليلة التالية نَحُلمُ بهم صارخينَ بنا؛ لسنا أنتم ولستم نحن، فاتركوا ما شئتم من ذكرى، فهَمُّنا واحد.
*
خَطفًا يسيرُ القطار، للدرجة التي ننسى فيها أولّ سنين قضيناها في عرباته، والحكاية التي بحثنا عن قلمٍ لنكتبها راحت مع الصافرةِ الأولى التي هزّتنا، ولازلنا ننتظرُ كتابتها.
خَياراتنا المتأخرة هي النداءُ الأخير الذي نسمعهُ في قاعات الانتظار، لكَ هذا إن شئت، يقولُ الصوت، وصدى القاعة يحملُ ترددنا كحزام الأمتعة، فإن مَشت أقدامُنا مع الصوت لأوقفتها أوامرُ العَقل، وبعد حينٍ، في ليلٍ سيأتي، سيدقُّ نملُ الندمِ على بابه، ويبقيه مُستيقظًا.
الحبلُ الممدودُ بينَ النوافذِ سبيلنا الوحيد لنغيرَ محطتنا، لكنَّ خوفنا من الفشلِ يَمنعنا من شدّه، ماذا لو لم يَسمعنا القائمُ على إيصالِ هذه العجلاتِ إلى مُنتهاها؟ ماذا لو أثرنا ضحكَ الطفل الذي يجلسُ في الزاويةِ البعيدة من عَجزنا؟ ماذا سيحدث حين نوقنُ أن هذه التذكرة التي نَحملها لن تُوصلنا إلى المحطةِ التي نُريد؟
*
ماذا سيحدث، إن قررنا في لحظتنا الأولى، أن نقطع صافرةَ الممرضة في غرفةِ الولادة، وأن نستبدلها بأغنية؟
أغنية جديدة، لا تَصلحُ لأن نَركبَ هذا القطار الذي اخترعهُ الإنسان وأطلقَ عليه اسمَ...
حياة!
اقرأ/ي أيضًا: