طق.. طق.. طق.. طق..
اضربْ المسمار بقحف الشاكوش (المطرقة)، واحرصْ أن تكونَ قاتلًة، كي لا تأتي ملاحظات المهندس الفارغ حادًة مثل قرن فلفلٍ أحمر مُر، هو لم يدرس كيف تسلق الشمس رقبتنا ويتكفّلُ العرق بطبخنا، وكأننا وجبة حقيرة على ببور كازٍ يحتاج للنفخ كلّ خمس ثوانٍ، مهنةٌ شاقةٌ تشبهُ الهباب الذي يصنعهُ الببور.
بائع غزل البنات
ومن المقايضة ما قتل، سردها لي النجار، المثقّف غير الدارس في جامعاتنا الموحلة، تستطيع الحصول على غزل البنات بمقايضتك البائع كأس ماء من السكّر بما يقابل خمس حلقات من الغزل، وهذا باهظ جدًا إن امتلكت مخيّلة تحليليّة بسيطة كغرابٍ يَحلُّ مُعضلًة من الدرجة الأولى كتركيب قطعتين فوق بعضهما بعضًا كي ينال شرف الجائزة وهي حبتان من بذر عبّاد الشمس، ولندرة النقود في أيدي الأطفال يرون إن سرقة حفنة سكر من مؤنة البيت أقل سعرًا من الحلقات الخمس، ولكن حتى هذه المخيّلة البسيطة وبسبب العدم والفقر، لم يتمتع بها أطفال حيينا، إلا طفلًا واحدًا وبعد عناءٍ لا يمكنُني ذكرهُ الآنَ قررَ الطفلُ الانتقام من هذا البائعِ الظالم.
رحلةُ انتقامٍ
أبعد بيده ستار المجلى المطرّز بمربعاتٍ حمراء وبيضاء صغيرة، هذا الستار الذي ينافس شاشة تلفاز صيني في كبر البيكسل، وبيده الأخرى غرف كأسه البلاستيكي الأزرق في برميل الملح القابع منذ عصور بجانب معلبات المخلل وتنكات الجبنة، وعند شمه لرائحة الغزل الزهري ولى راكضًا نحو البائع وأسلمه الكأس، وكعادة البائع التي حفظها الطفل أن يضع السكر في سطلٍ جانب العربة ويمنحه ما يوازيه من غزلٍ، ولكن لسوء أو لحسن الحظ، كانا السطل ومكوك الغزل فارغين، فصب البائعُ ما في الكأس مباشرةً في المكوك، وعندها كانت السيالة العصبية للطفل بسرعة فهدٍ جائع يركض خلف الطريدة تأمره بالهرب، ولكن حس الطفل الانتقامي أوعز له بالانتظار قليلًا كي يرى ويسعد في انفجار المكوك و تحوّل الحلقات السكريّة، إلى شظايا ملحيّة كرملٍ سُخِنَ وقذف عمدًا على وجهة دمية إسفنجية ناعمة.
مصلح مكينات خياطة
كشبكة الوايرليس هذه الأيام ونقاط بثها في المدن والحواري كانت مكينات الخياطة منتشرة في البيوت ولكن أقلّ، حيث امتلاك واحدةٍ منها كافٍ لطرقِ بابِ البيتِ كناقوس كنيسة في جزيرة يونانية يُذكّر الشيوخ أربع مرات في اليوم، ولا أعلم لماذا هذه الحرفة كانت متداولة بين الأجيال التي سبقتني، آلة الخياطة التي امتلكت مكانًا كأنه مزار مقدس في كهف غائر، بقاعدتها الخشبية المتينة، ولولبها الحديدي الصبّ، ورسمة الفراشة الذهبية التي لا تطير ولا تصدأ، ومن المجدي أن يسترزق بها الناس كالترقيع والتقصير وحتى التصليح، ولدقة صنعها كانت أعطالها نادرة، فمُصلحها يحتاج لمزاولة مهنة أخرى بل اثنين كي يجني القوت، حيث تركيب الأسنان الفضية واقتلاع التسويس من الفم من المهن المرافقة، بل رأيت أحدهم ينادي: مصلح مكينات خيااااااطة، سن نحاسي فضي ذهبي، عياااااف.
العياف
ما يتحرَّر من فوهة المكوك من ذرّات سكر ساخنة تتلاصق فيما بينها مثل زحل وحلقاته الوهمية، وحدث ذلك عندما ازداد التذبذب وسرعة الدوران، حيث كسروا الصاج وخرجوا كأرواح من دون جسد، واتخذوا هذه المرة أشكالًا مغايرة للحلقات، منهم من احتل طفلًا راح يسرق السكر، وآخر تحول شاكوشًا ينطح المسامير بوتيرة تشبه الدلف في سقف من دون جدران، أما الفلهويّ منهم اعتباطًا تخرج مهندسًا فاشلًا، وما أروع تَجسُّدَ أحدهم بفراشة حيّة ميّتة على جذع مكينة خياطة مرمية في إحدى الأقبية، وممن تبرعوا للتضحية عمل على تدوير المكوك الذي اقتناه شريكه، وذهب يفتله ويفتله كمجنون أحبَّ مشاهدة لاعبي الأولمبياد وهم يتلاحقون على دائرة الملعب البيضوية وكرّرها بسرعة تكفي لتطاير الذرّات من الفوهة، ومن البديهي أن يخطر في بالك أن الملح اغتالهم وحولهم لضحايا تخترق وجه دمية إسفنجية، أما الحقيقة أن المنظومة كلّها متآكلة تشمق وتظلم من ينتمي إليها.
هذا السردُ ليس إعادة اعتبارٍ للمهن، هو إعادةُ ماءٍ خفيفٍ إلى ساقية الذاكرة.
اقرأ/ي أيضًا: