المقال التالي هو ترجمة لمقال "إيريك تريجر" في مجلة "فورين بوليسي" عن الخطر الحقيقي الذي يهدد نظام عبد الفتاح السيسي.
يوافق يوم الاثنين الذكرى الخامسة للخامس والعشرين من يناير، الاحتجاجات التي أشعلت الانتفاضة المصرية من الربيع العربي، بينما يبلغ توتر الحكومة المصرية أشده. خوفًا من أن يستخدم النشطاء المناسبة لإطلاق موجة جديدة من الاحتجاجات الحاشدة، شدد النظام حملته ضد المعارضين في الأسابيع الأخيرة، ملقيًا القبض على أعضاءٍ بتنظيماتٍ ثورية بارزة، ومديري صفحات معادية للحكومة على موقع فيسبوك، وصحافيين ناقدين. نقل النظام معركته أيضًا إلى المساجد، حيث أعلن وزير الأوقاف أن التظاهر في الخامس والعشرين من يناير "مخالف للشريعة، لأنه يجر المصريين للعنف".
فيما يبدو حدوث انتفاضةٍ شعبية جديدة أمرًا مستبعدًا، فإن التهديدات التي تواجه السيسي تأتي من مصدرٍ مختلفٍ تمامًا..من داخل نظامه
أطلق الرئيس عبد الفتاح السيسي ما قد يكون التحذير الأخطر بشأن المخاطر المحتملة لاضطراباتٍ أهلية جديدة. في كلمةٍ له في ديسمبر، اتهم السيسي هؤلاء "الذين يدعون إلى ثورةٍ جديدة" بمحاولة "هدم البلاد وتدمير الناس والعباد".
السيسي محق في قلقه -لكن ليس بالضرورة بشأن احتمالية احتجاجاتٍ جديدة. بينما انخفضت شعبيته في الشهور الأخيرة نتيجة الاقتصاد المصري المتعثر، فإن حدوث انتفاضةٍ شعبية جديدة يبدو أمرًا مستبعدًا. في المقابل فإن التهديدات التي تواجه السيسي تأتي من مصدرٍ مختلفٍ تمامًا- من داخل نظامه، حيث برزت التوترات في الأشهر الأخيرة.
بالطبع فإن قلق السيسي من حدوث انتفاضةٍ شعبية أخرى ليس مفاجئًا، فهو يعكس معرفته العميقة بالتقلبات الأخيرة في مصر وخوفه الذي ربما لا فكاك منه من أن التاريخ قد يعيد نفسه. فبعد كل شيء، كان السيسي هو مدير المخابرات الحربية عندما استجاب المجلس الأعلى للقوات المسلحة لانتفاضة يناير 2011 بالإطاحة بحسني مبارك رئيس البلاد آنذاك، وكان وزير الدفاع المصري عندما استجاب الجيش مرة أخرى لاحتجاجاتٍ حاشدة في يونيو 2013 بالإطاحة بأول رئيسٍ منتخب للبلاد، وهو القيادي بجماعة الإخوان المسلمين محمد مرسي.
ذلك القرار الأخير جعل منه العدو الأول لجماعة الإخوان، والتي تعهدت بالثأر ردًا على الإطاحة بمرسي. لكنه أيضًا جعل السيسي بطلًا قوميًا في أعين الملايين من المصريين الذي خشوا من أن الإخوان المسلمين كانوا يتجهون بمصر نحو الهاوية، وقد قاده إلى الفوز في انتخابات أيار/مايو 2014 الرئاسة التي غابت فيها المنافسة. لكن وكما يعترف حتى أشد مؤيدي السيسي، فإن فترة شهر العسل قد انتهت.
"إذا كانت نسبة تأييده عندما تم انتخابه 93%، فإنها الآن قد انخفضت إلى 60%"، هكذا أخبرني رجل أعمال مقرب من النظام في تشرين الثاني/نوفمبر.
مع تباطؤ النمو الاقتصادي وتراجع احتياطيات العملة وارتفاع التضخم وبقاء البطالة على معدلاتها المرتفعة، يشعر المصريون بوطأة الوضع، ويشتكون منه على نحوٍ أكثر وضوحًا من أي وقتٍ مضى خلال العامين الماضيين. لكن في الوقت الحالي، لا يبدو أن هناك حماسًا شعبيًا كبيرًا لانتفاضةٍ أخرى. جعلت تجربة السنوات الخمس الماضية الكثير وربما أغلب المصريين ينفرون من المخاطر السياسية، وغياب أي بديل واضح للسيسي يجعلهم يخافون من أن انتفاضة أخرى قد تؤدي إلى إثارة حالة من عدم الاستقرار. تضيف الفوضى الشديدة التي اجتاحت بلدان العالم العربي الأخرى إلى شعورهم بالحذر. يشير المصريون عادةً إلى انهيار الدولة في سوريا وليبيا واليمن والعراق ويفضلون الوضع القائم غير السعيد لديهم بالمقارنة.
لكن التوترات الجديدة داخل نظام السيسي قد تشعل عدم الاستقرار مستقبلًا. رغم أن المحللين يتحدثون عن "الدولة العميقة" بالبلاد كما لو كانت كيانًا كلي القدرة، فإنها في الواقع تحالفٌ فضفاض من مراكز القوى التي يتضمن أجهزة الدولة مثل الجيش والاستخبارات والشرطة والقضاء، بالإضافة إلى الكيانات غير التابعة للدولة مثل العائلات القوية بالدلتا وقبائل الصعيد ووسائل الإعلام الخاصة ومجتمع الأعمال. وبينما لدى مراكز القوى تلك مصالح عادةً ما تكون متضاربة (على سبيل المثال، كان الجيش ووزارة الداخلية منافسين خلال السنوات الأخيرة لمبارك)، فإنهم اتحدوا خلف السيسي عقب الإطاحة بمرسي لسببٍ واحد جمعهما: أنهم رأوا في جماعة الإخوان المسلمين تهديدًا لمصالحهما.
لكن في الشهور الأخيرة، تضاءل ذلك الشعور بالخوف من عودة الإخوان المسلمين. مع وجود عشرات الآلاف من الإخوان في السجون، والانقسام المتزايد بين قادتها المنفيين، وتضاؤل عدد الإخوان داخل مصر المستعدين للمخاطرة بفقدان حياتهم في المظاهرات، فإن الجماعة لم تعد تنظيمًا متماسكًا على الأرض بعد الآن.
"نحن لا نسمع الكثير عنهم اليوم"، هكذا أخبرني لواء بالجيش في نوفمبر، قبل أن يضيف: "إنهم يصنعون بعض المشاكل ... لكنهم لا يرون طائلًا لما يفعلونه".
بدون تهديد الإخوان المسلمين لتوحيد مراكز القوة الأساسية داخل نظام السيسي، فإن التوترات الكامنة تطفو الآن على السطح. المثال الأبرز لذلك هو تدهور علاقة السيسي بمجتمع الأعمال. بينما كان بعض رجال الأعمال متشككين نحو السيسي عندما تولى منصبه في منتصف 2014، فقد رد مجتمع الأعمال برعبٍ شبه جماعي عندما تم القبض على عملاق الطاقة صلاح دياب في أوائل نوفمبر على خلفية اتهاماتٍ بالفساد المالي وامتلاك أسلحة غير مرخصة.
المشكلة، كما أخبرني عدة رجال أعمال مصريين، لم تكن حقيقة أنه تم القبض على صلاح دياب -"نحن ندعم تطبيق القانون"، أخبرني أحدهم- لكن بالكيفية التي تم بها القبض عليه. في الخامسة صباحًا، اقتحم فريق مكافحة إرهاب مسلح غرفة نوم دياب حيث كان نائما بجوار زوجته، حيث قيدوه هو وابنه، ثم سربوا الصور إلى الصحافة.
قد تشعل التوترات الجديدة داخل نظام السيسي عدم الاستقرار مستقبلًا
"إن تلك الواقعة تعيد إلينا ذكريات عهد (الرئيس جمال) عبد الناصر، عندما كانوا يأخذون الناس من بيوتهم فجرًا"، أخبرني رجل أعمال بعد القبض على دياب بفترةٍ وجيزة. أصر جميع رجال الأعمال الذين تحدثت معهم على أن القبض على دياب تطلّب غالبًا موافقة السيسي المباشرة. وبينما توقعوا جميعًا أن يتواصل السيسي ويصلح الأمر، فإن السيسي بدلًا من ذلك بدا وكأنه يهدد مجتمع الأعمال خلال كلمةٍ له في بورسعيد بعد ثلاثة أسابيع. "مم تخافون؟ لماذا لديكم شكوك؟"، قال السيسي بصرامة. وتابع: "اعملوا وابنوا وعمروا ... مم تخافون؟".
لا يرى رجال الأعمال بديلا للسيسي لأنهم يعتقدون أن له اليد العليا حاليًا. "الناس لا يحبوننا"، أخبرني أحدهم. وتابع: "الناصريون، اليسار، الإعلام، جميعهم يكرهون رجال الأعمال". لكن تلك الواقعة أثارت خوفًا كبيرًا في مجتمع الأعمال، ويخشى المسؤولون الاقتصاديون أنها سوف تدفع الاستثمار المحلي والأجنبي إلى أماكن أخرى.
هناك أيضا علامات لتوترٍ بين السيسي وأجهزة الأمن. رغم أن نشاطات أجهزة الأمن غامضة، فهم يمارسون نفوذًا كبيرًا على شبكات الإعلام الخاص بالبلاد وعلى الأرجح يسمحون، إن لم يكونوا يشجعون، الزيادة المفاجئة في النقد التي واجهها السيسي في الأشهر الماضية. في ذلك السياق، وعقب القبض على دياب والناشط الحقوقي حسام بهجت، هاجمت مقدمة البرامج البارزة لميس الحديدي الحكومة بقوة. "نحن لا نحتاج مؤامرة أجنبية"، قالت الحديدي، في إشارةٍ ولع النظام بالاعتماد على نظريات المؤامرة لتفسير إخفاقاته العديدة. وتابعت: "نحن المؤامرة نفسها. نحن نتآمر على أنفسنا".
وبعد أن حذر السيسي المصريين من التظاهر في الخامس والعشرين من يناير، انتقد مقدم البرامج عمرو أديب (وهو أيضا زوج الحديدي)، السيسي بكلماتٍ كانت لا تخطر على بال يومًا ما. "لن تموت مصر إذا غادرت"، قال أديب على الهواء. وتابع: "هناك الكثير من الأبناء مستعدين لخدمة البلاد".
هناك أيضا أدلة على منافسة بين الأجهزة الأمنية المختلفة، والتي تتنافس عادةً مع بعضها البعض على الأموال والنفوذ السياسي. بعض ذلك الصراع تدور رحاه في البرلمان المنتخب حديثًا. على سبيل المثال، انسحب حزب مستقبل وطن، والذي يُعزى نجاحه في الانتخابات الأخيرة على نطاقٍ واسع إلى جهاز الاستخبارات الداخلية، المعروف باسم جهاز الأمن الوطني، الشهر الماضي على نحوٍ مفاجئ من التكتل البرلماني المؤيد للسيسي، والذي يرأسه لواءٌ سابق بالجيش. عندما انضم مجددًا إلى التكتل بعد عدة أيام، شرح المتحدث باسمه أن الحزب يتمسك بنفوذٍ أكبر في المكتب السياسي للتكتل، الأمر الذي يشير إلى أن البرلمان الجديد قد يوفر مكانًا لتسوية تلك الخلافات داخل النظام.
الخلافات بين وكالات الأمن أكثر وضوحًا على الشبكات الفضائية المصرية، حيث أصبح يتم انتقاد أجهزة بعينها علنيًا على نحو مفاجئ. في أواخر ديسمبر، ادعى مقدم البرامج توفيق عكاشة، والذي روج طويلًا لنظريات مؤامرة مؤيدة للنظام، خلال مقابلة تليفزيونية مع مقدم البرامج يوسف الحسيني أن جهازي الاستخبارات العامة والأمن الوطني قد انقلبا ضده بعد أن وفروا له دعمًا من قبل. "لقد أخذوا ما أرادوه ثم أصبح عكاشة مشكلة!"، قال عكاشة، شارحًا أن تلك الأجهزة الأمنية قدّرت معارضته الشديدة لجماعة الإخوان خلال فترة رئاسة مرسي. وتابع: "لقد كانوا يختبئون خلفي".
في اليوم التالي، ناشد الحسيني السيسي إنهاء تدخل جهاز الأمن الوطني في السياسة المصرية. بالطبع فإن تدخل المؤسسة الأمنية في السياسة المصرية ليس مفاجئًا أو جديدًا. لكن حقيقة أن الحكومة القمعية تسمح فجأة بنقد أجهزة أمنية بعينها تعكس وجود خلافٍ داخلي.
ربما الأكثر أهمية هو ما أورده مسؤولون أجانب عن وجود توترات بين السيسي والجيش. بينما قد يبدو الجيش قاعدة الدعم الطبيعية للرئيس، فإن المسؤولين يعزون التوتر إلى دائرة السيسي السياسية الضيقة، والتي تغذي عدم الثقة وربما الغيرة بين بقية المسؤولين الكبار. لم تؤد التحديات الاقتصادية والأمنية المتصاعدة إلا إلى تضخيم مخاوف الجيش. "(القادة) يقولون أن السيسي معزول ومحاط بأشخاص ليس لديهم إجابات"، أخبرني أحد المسؤولين. وتابع: "إنهم يبدؤون في طرح أسئلة: لماذا تغرق الإسكندرية؟ لماذا يُقتل السائحون المكسيكيون؟ إن ذلك محرج".
هناك أيضا بوادر خلاف بين القيادات العليا، حيث يظهر قادة كبار عدم احترام رؤسائهم خلال المقابلات مع المسؤولين الأجانب.
من الصعب تحديد مدى عمق أو إلحاح تلك الخلافات داخل النظام. الأعمال السرية لنظام السيسي بالكاد تظهر للمراقبين الخارجيين، بل وحتى أعضاء من مراكز القوى الرئيسية يجدون الوضع الحالي مثيرًا للحيرة. "هناك بالتأكيد صراع قوى"، أخبرني رجل أعمال لديه اتصالات رفيعة المستوى. وتابع: "لكن من هم الأطراف الرئيسية؟ كان لديك نظام (في عهد مبارك) كانت المصالح فيه متوازنة. ثم انهار خلال ثورة 2011، ومازال في فوضى تامة".
لكن في الوقت الحالي، فإن المقربين من النظام لا يتوقعون أي تغييرٍ سياسي كبير، ناهيك عن تغيير النظام. "إذا حدث أي شيء لذلك الرجل، فإن هذه البلد سوف تكون في ورطة كبيرة"، هكذا أخبرني مقدم برامج بارز في نوفمبر.
لكن حتى إذا كان السيسي قادرًا على البقاء على رأس السلطة، فإنه لا يستطيع الاستقرار بسهولة. إذا ساءت مشاكل البلاد الاقتصادية، حذر مقدم البرامج، فإن هامش خطأ السيسي سوف يتقلص بشدة. "سوف تبدأ المشاكل الاقتصادية خلال عام".
ثم توقف برهة، قبل أن يتساءل بتوتر عما إذا كان يبالغ في تقدير تماسك السيسي. "أتمنى أن يصمد إلى ذلك الحين".
اقرأ/ي أيضًا: