انتهى الأمر وأصبحت اتفاقية إعادة ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية، والمعروفة إعلاميًا بـ"اتفاقية تيران وصنافير"؛ اتفاقية رسمية، بعد أن وافق البرلمان المصري عليها بسرعة غير اعتيادية، في أقل من 24 ساعة كان كل شيء منتهيًا. اللجنة التشريعية وافقت ومن بعدها لجنة الدفاع والأمن القومي ثم جلسة عامة لم تستغرق طويلًا، لتنتهي قضية الرأي العام الأولى في مصر خلال الشهور الماضية، وينتهي معها هباءً حراك شعبي وجدل قانوني استمر عامًا منذ توقيع الجانب المصري على الاتفاقية مع السعودية.
رغم مخالفة الاتفاقية للدستور، إلا أنها بعد خطوة البرلمان أصبحت قانونًا رسميًا ينتظر النشر في الجريدة الرسمية
ثلاثة مراحل من الصراع لم يستطع عبدالفتاح السيسي فيها الفوز بالشارع أو القضاء على مرحلتين، ليستعين في النهاية بالبرلمان الأليف الذي لم يرفض للسيسي طلبًا من قبل، ليسجل في حزيران/يونيو 2017 نكسة جديدة بعد 50 عامًا على نكسة 1967، ليكون للنظام الحالي رئيسًا وحكومةً وبرلمانًا ومؤسسات، السبق التاريخي في الإصرار على تبعية جزء من أرضه لدولة اُخرى، وكأنه محامي خصمه، ليهتف "سعودية.. سعودية"، ويُلقي القبض على من هتف "مصرية.. مصرية"!
اقرأ/ي أيضًا: تيران وصنافير.. الوقائع والخرائط والتاريخ!
وبعد خطوة البرلمان المخالفة للدستور، تُعد بذلك الاتفاقية -رغم مخالفتها للدستور- قانونًا رسميًا ينتظر النشر في الجريدة الرسمية، ولم يعد بإمكان أحد الاعتراض إلا من خلال المحكمة الدستورية للنظر في دستورية الاتفاقية وتوقيعها وتجاوزها لقرارات مجلس الدولة والقضاء. وهكذا بموجب الاتفاقية تؤول السيادة على جزيرتي تيران وصنافير للسعودية.
البرلمان.. الحل المضمون
ظن البعض أنه مع صدور حكم قضائي نهائي في كانون الثاني/يناير الماضي، يقضي بمصرية الجزيرتين وبطلان توقيع الاتفاقية؛ أن الأمر قد انتهى، لكن السيسي كان له رأي آخر، فاتجه بالاتفاقية إلى أكثر المؤسسات ضمانًا وولاءً له، ألا وهو البرلمان المصري، فقررت الحكومة المصرية مع نهاية كانون الأول/ديسمبر 2016، وقبل صدور الحكم النهائي من المحكمة الإدارية العليا، إحالة الاتفاقية للبرلمان.
وظلت الاتفاقية في درج البرلمان لأكثر من خمسة أشهر، إلى أن قُرر خروجها للنور مرة أخرى. وفي ثلاثة أيام عاجلة قفزت الاتفاقية إلى اللجنة الدستورية والتشريعية، التي تنظر في مدى توافق القوانين والاتفاقيات مع صحيح الدستور والقانون، ووافقت اللجنة عليها، ثم مُررت للجنة الدفاع والأمن القومي والتي صوتت بالموافقة في 30 دقيقة فقط، من المفترض أنه كل الوقت الذي استغرقته هذه اللجنة الفنية في مناقشة واستعراض كافة الوثائق المقدمة عن الجزيرتين. ومن هناك انتقلت للجلسة العامة والتصويت النهائي بالموافقة على "سعودية الجزيرتين"، لتصبح الاتفاقية أمرًا واقعًا، دفعت السعودية كلفته كثيرًا من "الرز".
ناقشت لجنة الأمن القومي في البرلمان كل الوثائق الخاصة بالجزيرتين ووافقت في النهاية على الاتفاقية، كل ذلك في نصف ساعة فقط!
كان البعض يرى أن أكبر المعوقات التي تمنع البرلمان من مناقشة الاتفاقية تلك، هي الأحكام القضائية المتعددة الصادرة ببطلان الاتفاقية، وهي أحكام تمنع البرلمان من مناقشة الاتفاقية، أو هكذا ينص القانون. إلا أن علي عبد العال، رئيس برلمان السيسي، أنهى الجدل وأنهى القانون وكاد يُنهي وجود الدولة ومؤسساتها بقوله: "الأحكام القضائية هي والعدم سواء. والأحكام لا تخص إلا القضاء. ومجلس النواب مُستقل، ولا حُجّية لحكم مع مجلس النواب"!
اقرأ/ي أيضًا: كيف سيعالج التاريخ قضية تيران وصنافير؟
ومُرّرّت الاتفاقية بعد صراع كبير ومشادات في اللجنة التشريعية التي شهدت معارضة بعض أعضائها البرلمانيين. وفور موافقة اللجنة التشريعية، أمس الثلاثاء، مررت للجنة الدفاع والأمن القومي الذي اجتمع اليوم الأربعاء لنصف ساعة قرر فيها أن تيران وصنافير سعوديتان! ووفقًا للواء كمال عامر، رئيس اللجنة، فإن "اللجنة وافقت على الاتفاقية بإجماع الحضور بعد مراجعة الوثائق والخطابات المتبادلة والمودعة في الأمم المتحدة بين مصر والسعودية"، كل ذلك في نصف ساعة! كما طعن اللواء في وطنية من يعارض الاتفاقية، قائلًا :"هؤلاء مغرضين، هدفهم إثارة الارتباك في مصر".
ممنوع الدفاع عن مصرية الجزر
علي عبد العال بوصفه رئيس مجلس النواب له الحق في إدارة وحضور أي جلسة لأي لجنة متخصصة، ما دفعه لترأس أعمال اللجنة التشريعية بحضور أعضاء اللجنة ونواب آخرين. وشهدت جلسات اللجنة المتعددة عدة مشادات تطورت لتراشق بالألفاظ ومحاولة للتشابك بالأيدي بين النواب، كان أبرز تلك المشادات مع سيد الحسيني، رئيس الجمعية الجغرافية المصرية، الذي قال بـ"سعودية الجزيرتين"، ما دفع نواب ما يُعرف بتكتل "25 - 30" بمعارضته، ليتهم الحسيني خالد يوسف، المخرج السينمائي وعضو التكتل، بعدم قدرته على قراءة الخرائط، فثار غضب زملائه النواب ووقعت المشادة الكلامية.
تطور الأمر عندما اعترض نائب من تكتل "25 - 30" على استهزاء الحسيني بخالد يوسف، ليزيد الحسيني في الاستهزاء باستفهامه ساخرًا: "هو نائب ولا مخرج سينمائي؟"، لتشتغل القاعة غضبًا ويقتلع النائب أحمد طنطاوي المايكروفون من المنصب ويلقي به على الأرض، فيرد عليه نواب تكتل "دعم مصر" الموالية للسيسي، بتوجيه السباب، حتى تطور الأمر اشتباكًا بالأيدي.
وخلال المناقشات التي لم تخل من الاتهامات المتبادلة بين المعارضين والمؤيدين بالتخوين، وصلت لأن هتف أعضاء تكتل المعارضة "مصرية.. مصرية"، فوقف نائب يدعى حسن محمد السيد من المؤيدين ليهتف "سعودية ..سعودية"، موجهًا للمعارضة إشارة بيديه تعني اتهامه لهم بتلقي أموال مقابل معارضة الاتفاقية. وجدير بالذكر هنا أن النائب المذكور لواء جيش سابق، شغل عدة مناصب في الجيش المصري من بينها مساعد وزير الدفاع ومدير إدارة المركبات في الجيش.
وسمح أعضاء البرلمان بعرض جميع من استدعاهم مجلس النواب للحديث حول الاتفاقية، وكان من بينهم ضباط موفدون من الجيش ليؤكدوا سعودية الجزيرتين، فيما رفض النواب المؤيدون للاتفاقية سماع إحدى الشخصيات الرافضة للاتفاقية، وهي الدكتورة هايدي فاروق، التي اضطرت للانسحاب من الجلسة بعد أن شكك مرتضى منصور في عملها وجنسيتها، ولم يتوقف عند ذلك، بل هددها من داخل البرلمان بالأذية، لتنهار هايدي فاروق بالبكاء وهي تُؤكد "أنا مصرية بنت مصرية".
تجهيز الأرض والحراك المضاد
بدأ النظام المصري المعركة منذ فترة، مُستغلًا موجة حجب المواقع التي بدأتها السعودية والإمارات، ليدخل النظام المصري على الخط بحجب نحو 21 موقعًا فيما عُرف بـ"مجزرة المواقع"، ثم أكملهم إلى 48 موقعًا. كما منع بشكل كامل، الصحف الحكومية من ذكر أية أخبار أو تقارير أو آراء تنحاز لمصرية تيران وصنافير، لتجد الصحافة المصرية ويجد الإعلام المصري ضالته في مزيدٍ من "التطبيل"، لكن هذه المرة للسعودية على حساب التراب الوطني.
اقرأ/ي أيضًا: من حجب المواقع إلى اختراقها.. هذه قصة خالد البلشي وعمرو بدر
ولكن الحجب لم يمنع القوى السياسية منذ إعلان مناقشة الاتفاقية في البرلمان، من الحراك المضاد. بدأ الأمر في التاسع من حزيران/يونيو الجاري ببيان موقع من نحو 50 حزبًا وحركة وشخصية عامة برفض مناقشة البرلمان للاتفاقية. وتبع البيان مُؤتمرًا صحفيًا شاركت فيه العديد من الشخصيات البارزة على الساحة السياسية، من بينها حمدين صباحي المرشح الرئاسي السابق، والمحامي في قضية تيران وصنافير والمرسح الرئاسي الأسبق خالد علي، وهشام جنينة الرئيس السابق للجهاز المركزي للمحاسبات، وغيرهم آخرون ممن أعلنوا بوضوح رفضهم للاتفاقية، فضلًا عن أن يناقشها البرلمان، مهددين آنذاك بالتصعيد والتظاهر في التحرير حال مُررت الاتفاقية، وقد مررت.
بدأ النظام المصري معركته الأخيرة بحجب 48 موقعًا صحفيًا لتمرير الاتفاقية بلا بلبلة، لكن ذلك لم يمنع المعارضة من اتخاذ حراك مضاد
ثم بدأت الاعتصامات الرمزية في عدة أحزاب، من بينها حزب التحالف الشعبي الاشتراكي، وحزب تيار الكرامة، كما أن صحفيين ونشطاء سياسيين أعلنوا اعتصامهم في مقر نقابة الصحفيين بوسط القاهرة، وكان من المقرر أن يبدأ الاعتصام أمس الثلاثاء، لكن مع بدء وقفة احتجاجية أمام النقابة رفضًا للاتفاقية ومناقشتها في البرلمان؛ هاجمت قوات الأمن المتظاهرين أمام النقابة، والذين اضطروا لدخولها احتماءً من اعتداءات الأمن الذي ألقى القبض على عدد من الصحفيين والمتظاهرين، أُفرج عن بعضهم وحُوّل آخرون إلى النيابة للتحقيق معهم بتهمة التظاهر بدون ترخيص استنادًا لقانون التظاهر.
رجال الإمارات على جبهة المعارضة
ما كان مثيرًا للاهتمام، وبدا غريبًا بالنسبة إلى البعض، هو ظهور أحمد شفيق المرشح الرئاسي الأسبق، باتصال هاتفي مع الإعلامي المصري وائل الإبراشي، لينتقد شفيق، وبشدة، تعامل الحكومة والبرلمان مع قضية تيران وصنافير بشكل بدا فيه وكأنه معارض أصيل، مُؤكدًا أنّ هذه الاتفاقية تأتي في مصلحة إسرائيل بالدرجة الأولى.
زاد الأمر حيرة وتعجبًا بعد موقف رئيس مجلس إدارة وتحرير صحيفة البوابة المشهورة بتمويلها الإماراتي، عبدالرحيم علي، وهو أيضًا نائبٌ برلماني، وقد أعلن رفضه للاتفاقية جملةً وتفصيلًا، ورفض حضور الجلسة من أجل ذلك.
ويُقيم أحمد شفيق في الإمارات منذ سنوات، كما أن لعبد الرحيم علي علاقات وثيقة، ويُشتهر عن جريدته تلقيها تمويلًا من الإمارات، وكلاهما ممن يُشار إليهم كرجال الإمارات في مصر، لذا أثار موقفهما الرافض لاتفاقية تيران وصنافير جدلًا واسعًا، واستغرابًا عامًا، فيما طرح البعض تساؤلات حول موقف الإمارات من الاتفاقية، وهل إعلان شفيق وعبد الرحيم علي موقفهما الرافض بهذه القوة جاء بضوء أخضر من الإمارات، ويُعبّر عن موقفها؟ وفي حال صحّ ذلك، فماذا عن الحليف السعودي؟
اقرأ/ي أيضًا: