كانت "نيميسيس" آخر روايات فيليب روث وكتابه الثاني والثلاثين. تحكي الرواية عن تفشي مرض "البوليو" في صيف عام 1944، زمن الحرب، في مدينة نيوارك في ولاية نيوجيرسي الأمريكية، وترصد ذلك عبر قصة باكي كانتر، معلم الرياضة الشهم والشجاع، الذي حال ضعف بصره عن التحاقه برفاقه في الحرب، فظل وحيدًا مع أطفال الحي اليهودي وعجائزه ليواجه ورطته في حروب صغرى لحمايتهم من هذا "العدوان" الفتّاك. هي رواية لا تحيد كثيرًا عن ثيمة روث المفضلة: الغضب، غضب السيد كانتر من الربّ الذي قدّر موت الأطفال وسمح بوجود هذا المرض من أساسه، كما تحكي بنزعة كافكوية محنة الإنسان المعاصر وشعوره الدائم بخليط الذنب والحيرة وتعذيب الضمير والبحث عن الخلاص والتطهير.
وهنا مقطع مترجم من الرواية.
مع أن الأطفال حتى عمر السادسة عشرة هم أكثر من يصاب به عادة، إلا أن البالغين ليسوا بمنأى منه، مثل ما حصل مع الرئيس الحالي للولايات المتحدة الأمريكية. فرانكلين ديلانو روزفلت، أحد أبرز ضحايا شلل الأطفال، أصابته العدوى وهو الرجل الحريص ابن التاسعة والثلاثين، وصار لا يسير إلا بمساعدة وإسناد، واضطر إلى ارتداء ركائز من الحديد والجلد من وركيه حتى قدميه حتى يتمكن من الوقوف.
وهو في البيت الأبيض أنشأ روزفلت مؤسسة خيرية، جمعت تبرعات لإجراء البحوث وتقديم الدعم لعائلات أصابها المرض. ورغم أن الشفاء الجزئي أو الكلي كان غير مستحيل، إلا أنه كان يتطلب شهورًا، بل سنوات من العناية الحثيثة في المشافي، ومثلها من الوقت في التأهيل. وقد بذل الشباب في أمريكا في حملات التبرع المدرسية مصروفهم البسيط للمساعدة في مكافحة المرض، فكانوا يلقون بما لديهم من قروش قليلة في صناديق تبرعات يتجول بها متطوعون في الشوارع وصالات السينما، وانتشرت ملصقات في كل مكان كتب عليها "أنت أيضًا تستطيع المساعدة" و"معًا نحارب شلل الأطفال"، كنت تراها في الشارع والمتاجر والمكاتب والمدارس في مختلف أرجاء البلاد.
وانتشرت أيضا ملصقات عليها صور أطفال على كراسٍ متحركة، من بينها صورة بنت صغيرة تضع ركائز الساقين خجلة وسبابتها في فمها، وصورة صبي حليق ونظيف بركائز الساقين المعدنية يبتسم بكل بطولة وأمل. كل تلك البوسترات جعلت إمكانية (كلمة تانية غير إمكانية، هل يقصد تخيّل؟ أو احتمال؟) الإصابة بالمرض أكثر رعبًا وقربًا لدى الأطفال الأصحاء.
كان الصيف رطبًا في نيوآرك خفيضة الأراضي، ولأن المدينة كانت محاطة بأراض رطبة من أكثر من جهة، صارت مصدرًا رئيسيًا لمرض الملاريا في إحدى الفترات، ولما كان هذا المرض فتاكًا أيضًا ولا يمكن ردعه، كان عليك هشّ أسراب الحشرات بعيدًا عن وجهك وجسدك، خاصة إذا جلست ليلا على المقاعد المنتشرة في المدينة، في الأزقة والشوارع، حين يهرب الناس من الحر داخل المنازل والشقق، حيث ليس ثمة إلا الاستحمام البارد والماء المثلج لتخفيف الحر الجهنمي. كان هذا قبل وصول أجهزة التكييف إلى المنازل، إذ لم يتوفر سوى مراوح كهربائية صغيرة، توضع على منضدة وتحرّك الهواء، دون أن تجدي نفعًا حين تصل الحرارة إلى آخر الثلاثينات، وهو ما حدث كثيرًا في ذلك الصيف لفترات متواصلة تمتد لأسبوع أو 10 أيام في كل موجة حر. يهرب الناس من بيوتهم ومعهم بعض شموع السترونيلا وعبوات بخاخة لطرد الحشرات، جالبة الملاريا والحمى الصفراء وحمى التيفوئيد، وحتى شلل الأطفال، كما يظن كثير من الناس، حتى أن عمدة المدينة أطلق حملة لمكافحة الحشرات.
إن نجحت بعوضة أو ذبابة في اختراق شبكات الحماية الموضوعة على النوافذ، أو انتهزت فتح الباب وتسللت إلى الداخل، كان أهل البيت لا يتوقفون عن مطاردتها بالمضرب الشبكي أو ببخاخ البعوض، ظنًا منهم أن تلك الحشرة لو (ناقص كلمة .. حطّت) بساقيها الملوثتين على الأطفال النائمين فإنهم سيصابون بشلل الأطفال. وبما أن أحدًا لم يتأكد بشكل قاطع من مصدر العدوى، كان ممكنا أن يطال الشكّ أي شيء، حتى القطط المتسللة إلى حديقة البيت الخلفية لتنبش سطول القمامة أو الكلاب الشاردة في الشوارع ليلًا بحثًا عن بقايا طعام، تتبرز على الأرصفة والأسفلت. وطال الشك حتى الحمام الواقف على حواف النوافذ يوسّخها بما تنز مؤخرته من براز طبشوري. في الشهر الأول من تفشي الوباء، قبل أن يقرّ المجلس الصحي بأن المشكلة بلغت درجة الوباء، كانت دائرة الأعمال الصحية تنظّم حملات لتصفية أعداد كبيرة من القطط في الأحياء، دون التيقن من علاقتها بشلل الأطفال، وإن كان هنالك أي فرق بينها وقطط المنازل الأليفة.
جلّ ما كان الناس يعرفونه هو أن المرض شديد العدوى، ويمكن أن ينتقل إلى الإنسان الصحيح بمجرد اقترابه من المصابين. ولهذا السبب، ومع ازدياد أعداد المصابين بالمرض في المدينة، وما رافق ذلك من تعاظم الخوف بين الناس، فإن العديد من الأطفال في الحي وبأمر من أهاليهم منعوا من السباحة في المسبح العام في حديقة أولمبيك في إرفنغتون، ومنعوا كذلك من الذهاب إلى صالات السينما "المكيّفة"، أو أن يستقلوا الحافلات العامة إلى وسط المدينة أو الذهاب إلى جادة ويلسون لمشاهدة فريق نيوآرك بيرز في دوري الدرجة الثانية لكرة البيسبول في ستاد رابرت. لقد حذرنا أهلنا من استخدام الحمامات العامة، أو مشارب الماء العامة، وحذرونا من الشرب من عبوة شرب منها أحد قبلنا، ومن اللعب مع أشخاص لا نعرفهم، أو استعارة كتب من المكتبة العامة، أو استخدام الهاتف العمومي، أو شراء طعام من الباعة المتجولين، ومن الأكل قبل غسل أيدينا جيدًا بالماء والصابون. لقد كان علينا أن نغسل كل الفاكهة والخضرة قبل أكلها، وكان علينا أن نبقى بعيدين عن أي شخص تظهر عليه علامات المرض، أو يشتكي من أي أعراض قد تدل على إصابته بشلل الأطفال.
كان الفرار من حر المدينة وإرسال الأولاد إلى مخيم صيفي في الجبال أو الريف أنجع الوسائل لدى الأهالي لحماية أبنائهم من شلل الأطفال، كما فضّل الذهاب بعيدًا إلى ساحل نيوجيرسي على بعد 100 كم تقريبًا عن المدينة. فإن كانت العائلة مقتدرة، تستأجر غرفة بمنافعها عند في برادلي، قرب الشاطئ الرملي والمماشي الخشبية والأكواخ الممتدة على مسافة كيلومترين تقريبًا، وهي منطقة يفضلها منذ عقود يهود شمال جيرسي. تذهب الأم وأطفالها إلى الشاطئ ليتنفسوا هواء المحيط النقي المنعش على مدار الأسبوع، وفي عطلة نهاية الأسبوع والإجازات ينضم إليهم الأب. ولكن حالات شلل الأطفال أصابت الناس وهم في المخيمات الصيفية وفي المدن الساحلية، وإن بنسب أقل من نيوآرك. وساد بين الناس اعتقاد بأن المدينة ومحيطها أقل نظافة، وهواءها فاسد، وهذا يسهّل انتشار العدوى، وتوهّم الناس أنهم ببقائهم قرب البحر أو بعيدًا عن المدينة في الأرياف أو الجبال، قد تفادوا المرض وهربوا منه.
اقرأ/ي أيضًا: