بحماسة مفرطة في وصف الصحراء التي تحولت إلى جنة من ناطحات السحاب، وبنزعة من الاستشراق اللاهث وراء عجائب ومفارقات الجزيرة العربية، يقدم تقرير طويل نُشر قبل أيام في صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، سيرة مضللة لولي عهد أبوظبي وصاحب السلطة الفعلية في الإمارات، محمد بن زايد، تارة باعتباره محدثًا، وأخرى كمناضل علماني ضد تصاعد الخطر الإسلامي والجهادي.
تبدو الديمقراطية في وصف الصحيفة الديمقراطية، مسألة ثانوية، عندما يتعلق الأمر بدولة عربية مثل الإمارات، أو مصر أو دول أخرى تدخلت أبوظبي لإفشال التغيير فيها، حيث يمكن الاستغناء عنها، في مواجهة خطر التطرف
كانت الإمارات، حسب التقرير المعنون بـ"رؤية محمد بن زايد المظلمة لمستقبل الشرق الأوسط"، إمارة هادئة قبل عام 2013، خارج كل الصراعات التي تعم الشرق الأوسط. إمارة صغيرة مهمومة فقط بكونها "أعجوبة اقتصادية. صحراء من ناطحات السحاب الساحرة، والمراكز التجارية التي لا نهاية لها، والمطارات ذات الأرضية الرخامية".
اقرأ/ي أيضًا: الإمارات تتصدر العالم في الاعتقالات السياسية.. والحجة "مكافحة الإرهاب"!
كان كل شيء مستقرًا حسب القصة التي ترويها "ذي تايمز"، قبل عام 2013، عندما بدأ الإسلاميون بملء الفراغ عقب الإطاحة بعدد من المستبدين في الوطن العربي. بينما بدا أن إيران تستغل الفرصة، من أجل توسيع سيطرتها على الوطن العربي، وهي كلها عوامل أقلقت الإدارة "الهادئة" للإمارة الخليجية الغنية. في تلك اللحظة، كما تروي الصحيفة، طرقت أبوظبي جميع الحلول، غير أن السعودية كانت دولة ضعيفة يحكمها رجل عجوز، وكانت إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، غير مدركة لما أدركه "عراب" الخليج، إزاء الخطر الإسلامي القريب. حارب ميليشيات إسلامية في الصومال وليبيا، وقاتل الحوثيين في اليمن، وساعد في عزل الرئيس الإسلامي في مصر، وفرض حصارًا على قطر، وكل ذلك حسب التقرير، لمحاربة ما اعتقد أنه تهديد إسلامي يلوح في الأفق.
ومع كل جملة نقدية لمنطق ابن زايد، كان دائمًا هناك استدراك. يقول التقرير مثلًا: "يبدو أنه (ابن زايد) يعتقد أن الخيارات الوحيدة في الشرق الأوسط هي نظام أكثر قمعًا". ثم يستدرك كما سيفعل في كل مرة ينتقد فيها إدارة أبوظبي: "لكن تجربة السنوات القليلة الماضية دفعت بعض المراقبين المخضرمين إلى احترام حدس ابن زايد حول مخاطر الإسلام السياسي. يقول بريت ماكجورك، المسؤول السابق في الولايات المتحدة والذي قضى عدة سنوات في العمل في الشرق الأوسط خلال ثلاث إدارات ويعرف محمد بن زايد: كنت متشككًا في البداية. بدا الأمر متطرفًا. لكنني توصلت إلى استنتاج مفاده أنه كان في كثير من الأحيان محقًا أكثر مما كان مخطئًا".
يورد التقرير انتقادات حقوقية لدوره في اليمن وليبيا، وقمعه للمعارضين ممن يمتلكون ميولًا إسلامية. لكنه يستدرك مجددًا: لكن ابن زايد يبقى شخصية نادرة في الشرق الأوسط: زعيم علماني، يملك خططًا لمستقبل المنطقة وتصورًا عن الموارد اللازمة لتنفيذها. ويتوصل لخلاصة تقول الكثير: "رغم كل عيوبه، تبدو البدائل مظلمة بشكل متزايد".
إنه حسب التقرير رجل متواضع، خارج عن البروتوكول، حكيم يتحدث الإنجليزية بطلاقة وبلكنة بريطانية ومفردات أمريكية، لا يحب الظهور الإعلامي، ويزور مطاعم محلية بدون حراسات أمنية، كما أنه يستضيف مجلسًا أسبوعيًا يمكن لأي مواطن إماراتي أن يتقدم بطلب لحضوره، من أجل عرض مظلمته أو في حال أراد طلب المساعدة. وهو مجلس يساعده في الحصول على استشارات من رجال الأعمال والزعماء الأهليين، و"كثيرًا ما يخبرك الإماراتيون، بأمانة تامة، أن هذا هو جوابهم المحلي على الديمقراطية".
لا يتوقف التقرير عند هذا الحد. حيث ينقل قصة رواها ابن زايد عن إحدى رحلاته إلى تنزانيا. حيث التقى عند عودته إلى أبوظبي بوالده، وروى له تفاصيل المغامرة. سأله والده فورًا إن كان ساعد الناس هناك، فرد عليه ولي العهد بأنهم ليسوا مسلمين. يكمل ابن زايد القصة عبر مساحة مفتوحة له في الصحيفة الليبرالية الديمقراطية: "أمسك ذراعي، ونظر إلى عيني بصرامة شديدة، وقال: نحن جميعًا أبناء الله". من هنا كما تخبرنا الصحيفة، كانت اللحظة التي أسس فيها واحد من أبرز المستبدين والمناهضين للتغيير في الوطن العربي، لحملته المناهضة للإسلام السياسي. حيث "مزج بين عقلية بدوية ونزعة ليبرالية مميزة"، وأنتج نمطًا من التدين العالمي والمتسامح.
أكمل ولي العهد سيرة والده، تقول الصحيفة، بعد أن عزز من تعليم النساء في وقت كانت فيه نسبة الأمية بينهن تصل إلى 100 بالمئة تقريبًا، وسمح للمسيحيين ببناء كنائس في أبوظبي، "غاضًا النظر عن الإيمان الإسلامي بأنه لا ينبغي أن يؤسس أي دين آخر وجودًا في شبه الجزيرة العربية". وفي أواخر الخمسينات من القرن الماضي، قامت أسرة من المبشرين الأمريكيين ببناء مستشفى في مدينة العين، أين أنجبت زوجة زايد الثالثة على يد طبيبة أمريكية نجله وولي عهده محمد.
سيكمل التقرير لاحقًا قصة الديكتاتور الإماراتي، ويقدم للقارئ تفاصيل مملة عن رحلته إلى المغرب واستكلندا وبريطانيا، حيث جرب التقشف، والاعتماد على النفس.
وفي السنة التي أنهى فيها عامه الـ18، أي عام 1978، حيث كانت أفغانستان تشهد معركة ضد الاتحاد السوفييتي، كان الرجل متأثرًا بالفكر الإسلامي، لكنه حسب ما تخبرنا الصحيفة وبعد الثورة الإسلامية في إيران، سيدرك مخاطر الفكر الإسلامي. لاحقًا يعرض التقرير أحداث 11 سبتمبر، باعتبارها لحظة فارقة في تعزيز موقفه ومخاوفه من الإسلاميين، و"فجيعته" بغزوة منهاتن. كما يستعرض الإجراءات التي بدأها لمكافحة الإرهاب، مع انتشار معلومات عن مشاركة إماراتيين في الهجوم.
يحتفي الكاتب أيضًا بحملات التطهير، التي بدأها من تلك المرحلة ضد الإسلاميين، ويصفها بأنها عملية "إصلاح ممنهجة". ويستطرد في وصف الإجراءات البيروقراطية لفرض "التسامح"، والانفتاح. ثم يتوصل إلى خلاصة، أنه رغم قمع المعارضة والتضييقات الأمنية على حرية التعبير، فإنه "عندما تقارنها بسوريا أو مصر، فإن الإمارات هي نموذج ليبرالي مستنير تقريبًا. يبدو أن الشباب العربي يتفق مع وجهة النظر الأخيرة. فقد أظهرت الدراسات الاستقصائية أن معظم الشباب العربي يفضل العيش هناك أكثر من أي مكان آخر - بما في ذلك الولايات المتحدة أو كندا".
حسب رواية الصحيفة الأمريكية، فإن ابن زايد تورط في حرب اليمن من أجل محاربة الإسلاميين وإيران، وحقق أكثر من تسعين بالمئة من الإنجازات العسكرية للتحالف، لكنه مع تحول الحرب إلى كارثة إنسانية، انسحبت بلاده وقامت بمحاولات لإنجاز تسوية إنسانية في البلاد، وفكت جزئيًا ارتباطها مع إدارة ابن سلمان؛ الشاب الوعي بضرورة الإصلاح والتسامح، بعد أن ألهمه الزعيم الإماراتي.
القصة الكاملة للقصة الكاملة
يميل تقرير نيويورك تايمز، إلى بناء قصة كاملة متماسكة ومترابطة لحياة واحد من أخطر المستبدين العرب، بحيث يبدو كأن كل تفصيل في شبابه أو حتى في طفولته، مند ولادته في مستشفى تبشيري على يد طبيبة أمريكية، وكأنه يخدم تلك السردية، القائمة على افتراضات حاسمه عن ميله القديم إلى التسامح، ومكافحة الإرهاب والتطرف. فيما تبدو كل جرائمه، وانتهاكاته التي يشير إليها التقرير على خجل، ككلفة لخياره، المناهض للتطرف في منطقة ملغومة بالإرهاب.
تقر المادة التي من المجازفة وصفها بأنها عمل صحافي مع مساحات واسعة من الدعائية المفرطة، بصراحة بأن منطق ابن زايد، رغم أنه قد يكون متطرفًا، أثبت نجاعته في الفترة الأخيرة. فيما تكتفي بإشارات محدودة ومختزلة إلى انتهاكاته، دون أي اهتمام بالاستشهاد بضحايا تلك الانتهاكات، إلا من خلال تصريح قصير لسجين سابق، يبدو "دبلوماسيًا" ومتفهمًا للمخاطر التي يُفترض أن تستدعي تلك الإجراءات الأمنية الصارمة.
يتجاهل التقرير المهموم بإثبات "تسامح" الإمارات، وحربها المستمرة ضد الإرهاب، تحقيقات أثبتت بالأدلة، تورط الإمارات في دعم ميليشيات تابعة لتنظيم القاعدة في اليمن، الجماعة نفسها التي بنيت قصة "الزعيم العلماني" على مكافحتها.
أما إشارة الصحيفة "الليبرالية" إلى تعزيز دور النساء وتمكينهن في البلاد، فلم تُتبع حتى على سبيل وضع "ديكور" من الموضوعية، بأي حديث عن النساء الإماراتيات اللواتي يتعرضن لأنماط غير إنسانية من الإهانة في سجون أبوظبي.
"نعم حاولنا الانتحار، وغيرنا حاول، علياء حاولت مرتين وأنا مرتين وفشلنا.. ونجحت أخريات من دول أخرى، نعيش في أوضاع سيئة.. الحشرات في الطعام والمكان مكتظ، التكييف معطل في الصيف، والمياه غير صالحة للشرب وتسببت في أمراض للبعض"؛ أما الرسالة أعلاه، التي أرسلتها أمينة العبدولي من داخل السجون الإماراتية، ونشرها وتحقق منها مركز جنيف الدولي للعدالة وحقوق الإنسان، فلن توردها "نيويورك تايمز" في خضم تملقها الفج للزعيم الإماراتي. ولن يجد القارئ بطبيعة الحال، شهادات نساء سجينات في أقبية إماراتية مظلمة، مثل علياء عبدالنور ومريم البلوشي وغيرهن.
اقرأ/ي أيضًا: حكومة أبوظبي لقهر النساء.. قصة علياء عبدالنور وأخريات
كما أن التقرير "الصحفي" لن يورد عشرات التحقيقات، التي نشرتها وكالات مثل "أسوشييتد برس" عن حالات اغتصاب جماعي في سجون تقيمها في اليمن.
تقر المادة التي من المجازفة وصفها بأنها عمل صحافي مع مساحات واسعة من الدعائية المفرطة، بصراحة بأن منطق ابن زايد، رغم أنه قد يكون متطرفًا، أثبت نجاعته في الفترة الأخيرة
تبدو الديمقراطية في وصف الصحيفة الديمقراطية، مسألة ثانوية، عندما يتعلق الأمر بدولة عربية مثل الإمارات، أو مصر أو دول أخرى تدخلت أبوظبي لإفشال التغيير فيها، حيث يمكن الاستغناء عنها، في مواجهة خطر التطرف. أما في الإمارات، فسيتغنى كاتب التقرير بمجلس مع وجهاء عشائريين ورجال أعمال، مدعية أنه مساحة مفتوحة للجميع، ويشكل في نظر الإماراتيين بديلًا فعالًا للديمقراطية.