تماثيل فضيّة لخيول تجري، أقزام وتماثيل لبوذا والدمى الروسيّة على رفوف المكاتب بجانب مجلدات "قصة الحضارة" لويل ديورانت، مقتنيات ولوحات "فنيّة" ذات أسعار معروفة تُنتج في المصانع وتُعلّق على الجدران. كل هذا متاح للجميع، لوحات لطبيعة صامتة وفواكه مجففة، بإمكان شراء تسع نسخ متماثلة، تحاكي تلك التي أنتجت في عصر النهضة لكن أقل جمالًا، كل هذا يندرج تحت مفهوم "الكيتش-KITSCH"، تلك اللعنة الصناعية التي أصابت القطاع والمنتج الفني، وجعلت كأس الويسكي الرخيص إلى جانب اللوحة المصنّعة في المصنع تحوّل الحالمين إلى شعراء رومانسيين، يكتبون الشعر عن باريس وبرج إيفيل والعشيقين اللذين يتبادلان القبل تحته، ليكون "المُلهم" لتلك الروائع الشعريّة هو صورة متوافرة في أي دكان ذكريات سياحيّة ويتم التعامل معها كمنتج فنيّ بل وكمصدر للوحي، كالأهرام الصغيرة التي تُباع على الأرصفة أو تمثال الحصان البرونزي الذي يقف على قدمين فقط.
الكيتش لا يقتصر فقط على الفنون البصريّة، بل نَشهد انتشاره في مختلف أنواع الفنون
الكيتش كمفهوم فني يعود للقرن التاسع عشر في ألمانيا، نَشأ في الأسواق الفنيّة لوصف الأعمال المصنّعة بكميات كبيرة، والتي يصفها النّاقد الفنّي فالتر بنيامين بأنها لا تحمل هالة فنيّة لأنها مصنّعة ومتاحة بسهولة، وامتد المفهوم ليرتبط أكثر بمفاهيم الدعاية، وخصوصًا في الدول الشمولية التي تحاول زرع وهم المساوة، بجعل الفن واقتنائه حق للجميع عبر تصنيعه وإعادة إنتاج القطعة ضمن المعمل، في محاولة لخلق عالم ميتافيزيقي يحكمُه الطاغية وينتفي فيه كل ما هو "سيء"، وهذه القطع الفنيّة المصنّعة هي انعكاس لهذا العالم المثالي.
كمّ مرة تأملت الأحصنة الثلاثة الذين يركضون على مرج أخضر في اللوحة المعلقة على جدار منزل لأسرة من الطبقة الوسطى، الكيتش ببساطة، هو التعامل مع المنتج الفني المبتذل والمعملي وإخضاعه لقوانين الجماليات الفنيّة جديًا، بالرغم من أنه محاكاة "خالية من الذوق" للنموذج الفني حسب تعبير والتر بينجامين، فالكيتش يُكرَّس كفن ويتداول ليصبح محكومًا بذوق السوق وقوانين العرض والطلب على قطعة ما فقط لأنها "مناسبة"، لا لأنّها تحمل خصوصيّة جماليّة.
أحيانًا، قد تتحول المؤسسة نفسها إلى منتجة وراعية للكيتش، بوصفها تتبنى شكلًا محددًا أو نموذجًا ثابتًا للعمل الفني وجمالياته بحيث يصبح متداولًا بصورة كبيرة ومألوفًا للجميع، أي أن الهابيتوس L'HABITUS، أو نظام الاستعدادات السابق الذي يمتلكه الفرد أو الجماعة لتلقي العمل الفني جماليًا، لم يعد مصدره الخبرة الفنيّة والحساسية الجمالية في التلقي، بل ذوق السوق، ما يجعل المؤسسة سواء المُنتجة أو الأكاديميّة تساهم في ترسيخ الكيتش، عبر ترسيخ شكل واحد، الأمثلة كثيرة، فلنأخذ سورية مثلًا، كم فيلم قصير وفيلم موبايل يحاول أن يحاكي الكوادر والمشاهد النمطية للأعمال الفنية الكبرى لكن بمضمون "مبتذل"، كم صورة لمقاتل يدخن سيجارة أصبحت تتداول؟ كم مرة استخدم حنظلة في أي سياق فقط لجعل المنتج "الكيتش" ذي قيمة فقط لأنه يستدعي الرمز المشهور.
الخَطّ الفاصل بين البوب آرت والكيتش، بين مقاربات ما بعد الحداثة والكيتش ليس واضحًا بشدة، فالكيتش لا يقتصر فقط على الفنون البصريّة، بل نَشهد انتشاره في مختلف أنواع الفنون، كم من شخص ادّعى أنه شاعر، ونشر كتيبًا، يحوي في أي قصيدة الكلمات التالية "سورية الحبيبة، أطفالك المعذبون، لن نسكت عن الدم"..؟ العمل الفنّي هنا محمل بشكلانية الأيدولوجيا والشائع، حيث يوظف مرجعية الثورة ضمن القصيدة، لتتحول إلى مُنتج معلّب، متشابه مع غيره، لا يمتلك حساسيته الخاصة لما يحدث، لكنه وليد "مصنع الكيتش" ومحكوم بقوانين السوق ورغبات المشفقين المتعاطفين مع "الضحيّة".
كم مرة استخدم حنظلة في أي سياق فقط لجعل المنتج ذي قيمة فقط لأنه يستدعي الرمز المشهور
تَحمل "كيتش" معانٍ أخرى، كالمبتذل، الهابط، السلعة الفنيّة المتداولة، وما يجعل أي عمل يصبح كيتش، هو تحويله لمنتج ضمن مصنع وجعله ديمقراطي (يمكن للجميع امتلاكه)، كالقصيدة التي من السهل كتابة ما يشابهها، وحين نقرأها نراها مألوفة جدًا، بل حتى أنها تنتشر بكثرة بسبب ملاءمتها للـ"مناسبة"، فالكيتش لا يمكن اعتباره محاولة لتجديد الجماليات الفنية السائدة، بل هو العكس، هو التأكيد على حضورها، بوصفه محاكاة وإعادة إنتاج صناعيّة لها بصورة رديئة وجماهيريّة، أشبه بمنشورات الطاغية أو أقواله التي بالرغم من صحة قواعدها اللغوية والنحويّة، وأحيانًا خصائصها البلاغية (طباق، سجع..)، إلا أنها تبقى في النهاية رديئة.
اقرأ/ي أيضًا: