بات معلومًا أن تركيا تنتظر انتخابات رئاسية وبرلمانية فريدة من حيث الملابسات والأهمية وصعوبة التكهن بنتائجها وذلك في الرابع عشر من أيار/ مايو الجاري. ومع الإعلان عن التحالفات الانتخابية، وإصدار قوائم المرشحين والبرامج السياسية لكل حزب وتحالف، اتجهت الأنظار إلى سلوك الأحزاب المحافظة ذات الخلفية الإسلامية في سباق الانتخابات، إذ تتحالف لأول مرة أحزاب ذات خلفية إسلامية مع خصومها التقليديين، وتتنافس ضد بعضها البعض، بطريقة تؤشر إلى بروز دوافع ومحركات أقوى من الاعتبارات الأيدولوجية تحكم اصطفافها الانتخابي، وتلقي بظلالها على هويتها السياسية.
نظرة على التحالفات
يخوض 22 حزباً سياسياً معركة الانتخابات وتشكل أغلبيتها تحالفات خمسة، سنركز هنا على أكبر تحالفين فيها نظراً لتوزع الأحزاب المحافظة بينهما، ولأنهما المتنافسين الفعلييْن في هذه الانتخابات.
الأول تحالف الجمهور (Cumhur İttifakı) والذي يضم حزب العدالة والتنمية الحاكم، وحليفه منذ عام 2018 حزب الحركة القومية (حزب قومي يميني) إلى جانب حزب الاتحاد الكبير (وهو قومي محافظ) وحزب الرفاه مجدداً (وهو محافظ يقوده فاتح أربكان نجل نجم الدين أربكان)، ويدعمه من الخارج حزب الدعوة الحرة (الكردي ذو الخلفية الإسلامية)، وغيره من الأحزاب الصغيرة.
والثاني تحالف الأمة، أو ما اصطلح على تسميته بالطاولة السداسية، ويضم حزب الشعب الجمهوري (أسسه أتاتورك ويمثل الكمالية التقليدية)، والحزب الجيد (وهو قومي محافظ انشق عن الحركة القومية)، وحزب السعادة (المحافظ ذو الخلفية الإسلامية وقد أسسه نجم الدين أربكان)، وحزب الديمقراطية والتقدم (وهو محافظ ذو خلفية إسلامية ليبرالية، أسسه علي باباجان المنشق عن العدالة والتنمية)، وحزب المستقبل (وهو حزب محافظ ذو خلفية إسلامية، أسسه أحمد داوود أوغلو المنشق عن العدالة والتنمية)، والحزب الديمقراطي (قومي كمالي).
بينما يتنافس في الاقتراع الرئاسي أربعة مرشحين هم: رجب طيب أردوغان (من تحالف الجمهور)، وكمال كليتشدار أوغلو (من تحالف الأمة)، ومحرم إنجه (من حزب البلد)، وسنان أوغان (من تحالف الأجداد).
دوافع واعتبارات
إذن تتوزع الأحزاب المحافظة ذات الخلفية الاسلامية على التحالفين المتضادين: الحاكم والمعارض، ويمكن تفسير انحيازات هذه الأحزاب بسببين رئيسيين:
الأول يعود إلى طبيعة قانون الانتخاب التركي الذي يقلل من فرص الأحزاب الصغيرة في دخول البرلمان، إذ يشترط تجاوزها للعتبة الانتخابية التي تبلغ 7٪ من أصوات الناخبين، ولأن هذه الأحزاب لن تحصل على هذه النسبة لو خاضت الانتخابات منفردة، فهي مضطرة لأن تنافس ضمن تحالف سياسي. ويبقى السؤال: لماذا رجحت بعض هذه الأحزاب تحالف المعارضة المعروف تاريخياً بعدائه للتيار الإسلامي وقمعه للحريات الدينية؟
هنا يبرز السبب الثاني، وهي حقيقة أن هذه الأحزاب هي في غالبيتها أحزاب تشكلت حديثاً بعد انشقاق قادتها عن حزبها الأم، مما دفعها بديهياً لتكون ضمن التحالف المنافس للحزب الذي انشقت عنه، لذا نجد كلاً من أحمد داوود أوغلو (من حزب المستقبل) الذي عمل لسنوات وزيراً للخارجية ورئيساً للوزراء في حكومة العدالة والتنمية، وكذلك علي باباجان (من حزب الديمقراطية والتقدم)، وزير المالية الناجح في حكومة العدالة والتنمية، قد تحالفا مع الخصم التقليدي للعدالة والتنمية وللتيار المتدين بالعموم.
المنطق ذاته ينطبق على حزب السعادة الذي بقي ينظر لأردوغان ورفاقه بصفتهم منشقين، منذ خروجهم عن نجم الدين أربكان وتأسيسهم للعدالة والتنمية عام 2001، بينما نرى نجل الراحل نجم الدين أربكان قد اختار صفّه في التحالف المنافس لحزب السعادة، إذ انشقّ عنه عام 2018 مؤسساً لحزبه الرفاه من جديد. وأخيراً اختار حزب الدعوة الحرة، الذي يمثل الشريحة الكردية ذات الانتماء الإسلامي، الانحياز إلى تحالف الجمهور الحاكم، على عكس حزب الشعوب الديمقراطي الذي اختار الانحياز لتحالف الأمة المعارض.
هي إذن اصطفافات سياسية أقرب إلى الجبرية صنعتها خارطة الانشقاقات الحزبية خلال الأعوام الأخيرة، والتي طالت تقريباً جميع الأطياف السياسية، لكنّ الأحزاب المحافظة، كانت أكثر المتأثرين بها.
تجتمع الأحزاب الثلاثة (المستقبل، والديمقراطية والتقدم، والسعادة) مع التحالف المعارض على رفض النظام الرئاسي الذي تم التحوّل إليه عام 2018 بعد استفتاء شعبي دفع اردوغان باتجاهه، والرغبة بالعودة إلى النظام البرلماني، إذ كان هذا الملف أول بوادر الخلاف بين العدالة والتنمية وداوود أوغلو عام 2016، كما أنها تطالب بتغيير الوجوه وإنهاء تفرد اردوغان بالقرار وهيمنة حزبه على المشهد، وتدرك ثلاثتها أنها منفردة لن تستطيع منافسة العدالة والتنمية أو حتى الدخول للبرلمان. ولأن الغاية الأولى لأي حزب سياسي هو الوصول إلى السلطة، فهي تجد في الانضواء تحت تحالف الأمة الوسيلة الوحيدة لتحقيق هذا الغرض، وتضعه فوق أي اعتبار.
هل تتخفف تركيا من الأيدولوجيا وسياسات الهوية؟
لطالما رزح المشهد السياسي في تركيا تحت وطأة تجارب الانقلاب العسكري التي جاءت لحماية “قيم الجمهورية العلمانية”، وتبعتها سنوات عجاف من تقييد للحريات السياسية والدينية، عانت خلالها الشريحة المتدينة أكثر من غيرها، مما خلق انقساماً على أساس أيدولوجي وهوياتي تراه ماثلاً في مختلف مناحي الحياة في البلاد، ويبرز أكثر خلال الاستحقاقات الانتخابية التي تحولت في العقود الثلاثة الأخيرة إلى استفتاء أيدولوجي بين معكسر المحافظين/المتدينين، ومعسكر الكماليين/العلمانيين.
بيد أن استطالة وجود العدالة والتنمية في الحكم، ورعايته لشريحة المحافظين، ونجاحه في الصندوق وفي الممارسة السياسية، وقدرته على دحر انقلاب عسكري في 2016، بدّد بعضاً من المخاوف الأيدولوجية لدى الشريحة المتدينة، فلم تعد قضايا مثل الحجاب وحرية العبادة، والمدارس الدينية وتركّز النفوذ والثروة في يد النخبة العلمانية محلّ قلق وتهديد كما كانت في السابق، بل على العكس، نمت في ظل العدالة والتنمية شريحة من أصحاب المناصب المدنية والعسكرية الرفيعة ورجال الأعمال والصحفيين من التيار المحافظ/الإسلامي، الذين نافسوا رموز التيار المضاد في الثروة والنفوذ.
لم يعد متدينو تركيا في خانة المضطهدين، وبرز جيل جديد سمع عن قمع الحريات الدينية، لكنه لم يعايشها، وهذا إنجاز يُحسب للعدالة والتنمية، لكنّ هذا الإنجاز ومن حيث مساهمته في رفع أسهم الحزب، فإنه يخفف من وطأة المخاوف الأيدولوجية لدى شريحة المحافظين، وهي المخاوف التي ضمنت التفاهم القوي حول الحزب لسنوات. الأمر الذي يفتح الطريق نحو انحيازات سياسية أخرى قد لا يكون الدين أو الهوية أساسها، ويتجلى ذلك في سلوك الأحزاب المحافظة الثلاثة في تحالف الأمة.
وقد سهّل أيضًا من تسرب الأحزاب الثلاثة من مظلة الحزب الحاكم، نحو التحالف المعارض، ومعهم نسبة معينة - لا نستطيع رصدها بعد على وجه الدقة - من شريحة المحافظين، السيولة الفكرية التي طالما برزت كمشكلة تنظيمية داخل العدالة والتنمية، إذ افتقر الحزب منذ تأسيسه إلى أساس فكري صلب وعقيدة سياسية يتم بثها في كوادره وأنصاره، وتحكم توجهاته السياسية في الداخل والخارج، فقد توزّع الحزب إلى تيارات إسلامية-ليبرالية- قومية يسهل تمييزها بوضوح، وتمييز أبرز روّادها من قادة الصف الأول والثاني، كما عاصر الحزب خلال العقد الأخير الكثير من التحولات في سياسته الخارجية واصطفافاته الإقليمية بطريقة عكست هذه السيولة، وأثارت بعض التحفظات، لذا قد لا يبدو مفاجئاً أن ينشق من روّاده من يشكل أحزاباً جديدة تمتلك هي الأخرى من السيولة ما يجعلها تتحالف مع الخصم التقليدي للمحافظين.
وفي معرض الحديث عن الانشقاقات، تبرز أيضاً ظاهرة الخروج من الحزب والابتعاد عن العمل السياسي لدى بعض مؤسسيه مثل الرئيس السابق عبد الله غل، أو تهميش بعض الأسماء البارزة فيه مثل بولنت آرينتش، وهي حالة تؤشر على أزمة داخلية تعصف به أسوة بعموم الأحزاب التركية، إذ عايشها حزب الشعب الجمهوري أكبر أحزاب المعارضة بصورة واضحة.
الاقتصاد والحريات
إذا اتفقنا على أن نخبة من رموز التيار المحافظ/المتدين، باتت تدفع باتجاه اقناع الناخب المتدين بالتخفف من الاعتبار الأيدولوجي خلال الاقتراع، فلا بد من الإشارة إلى الاعتبارات الأخرى التي صعدت في المقابل، وهي كثيرة لكن أبرزها هو الملف الاقتصادي، والتوق إلى التغيير السياسي خاصة لدى فئة الشباب، وهما اعتبارين يشترك فيهما عموم الناخبين الأتراك.
يجمع الكثيرون على أن العدالة والتنمية صنع صعوده الصاروخي عبر بوابتي الاقتصاد والحريات الليبرالية، وهما البوابتان اللتان صارتا تضيقان باضطراد خلال العقد الأخير حتى كادتا تطبقان على أحلام الكثيرين خلال العامين الأخيرين.
فقدت العملة أكثر من نصف من قيمتها أمام الدولار، وارتفع التضخم بنسبة تجاوزت 80٪ لأسباب محلية وأخرى عالمية، كما توسع صلاحيات الرئيس على حساب البرلمان، وسيطر الحزب الحاكم على غالبية وسائل الإعلام، وفُصل الكثير من الموظفين واعتُقل المعارضون تحت تهم الانتماء أو دعم جماعات إرهابية (فتح الله غولن، أو العمال الكردستاني)، كما شاعت أخبار وحكايا الفساد والمحسوبيات في أوساط المسؤولين ورجال الأعمال من التيار الحاكم، ولم تُفند أو تعالج بما يليق، مما خلق استياءً شعبياً ورغبة بالتغيير السياسي حتى داخل الخزان الانتخابي التقليدي للحزب، وذهب البعض للتلويح برغبته بممارسة التصويت الانتقامي، وهو تقليد شائع في الممارسات الديمقراطية، يسعى من خلاله الناخبون لإرسال رسالة احتجاج أو تقليم الصلاحيات الواسعة التي يتمتع بها حزب أو تيار، ويمكن القول أن هذا السيناريو عايشه العدالة والتنمية في جولة الإعادة لانتخابات بلدية إسطبنول عام 2019.
لمن سيصوت المحافظون/المتدينون؟
يبقى السؤال: ما مدى قدرة الأحزاب المحافظة الثلاثة على سلب الأصوات من العدالة والتنمية؟ هل ستنجح بتشتيت أصوات المتدينين؟ وكيف ستؤثر على نتيجة الانتخابات البرلمانية والرئاسية؟
لا يبدو تحالف الأمة المعارض الذي تدعمه الأحزاب الثلاثة، منسجماً في ذاته أو قادراً على توفير بديل متماسك، إذ يظهر قاصراً في التوافق خلال الحملات الانتخابية، فضلاً عن قدرته على العمل تحالفًا حقيقيًا بعد وصوله البرلمان، إذ يرجّح تفككه لصالح انحيازات جديدة تتشكل لاحقاً، وهذا قد يكون مصدراً لعدم الاستقرار الذي يثير قلق الناخبين.
برزت الخلافات داخل تحالف الأمة مع انسحاب ميرال أكشنار من الطاولة السداسية، ثم عودتها المشروطة، ثم بالجدل المصاحب لتشكيل القوائم الانتخابية. أصدر التحالف قائمتين برلمانيتين، الأولى باسم الحزب الجيد، والثانية باسم الشعب الجمهوري الذي قام بتضميينها 77 مرشحاً من بقية الأحزاب في التحالف، وعلى إثر ذلك برزت الخلافات صريحة بين الأحزاب، وقاد أنصار الشعب الجمهوري هجوماً على مرشح حزب الديمقراطية والتقدم سعد الله أرغين، الذي حُمّل مسؤولية محاكمات ضباط الجيش إبان عمله وزيراً للعدل، بالإضافة إلى استيائهم من وجود مرشحين لأحزاب يعتبرونها “رجعية” على قوائم الشعب الجمهوري.
لعنة القوائم الانتخابية لاحقت الأحزاب المحافظة الثلاثة أيضاً، إذ لن يجد أنصارها اسمها وشعارها في ورقة التصويت، وسيضطرون لوضع علامة الاقتراع على شعار حزب الشعب الجمهوري، مع ما يحمله ذلك من تناقض مع الإرث السياسي والهوياتي لأنصار هذه الأحزاب، كما يغيب أي ممثل عنها في الاقتراع الرئاسي، إذ تدعو أنصارها لانتخاب كليتشدار أوغلو، مما سيُشعر هذه الشريحة بغياب ما يخصها ويعبّر عنها في هذه الانتخابات.
وللمفارقة فقد أشار أحمد داوود أوغلو إلى هذه الإشكالية حين قال أنه أخفق في إقناع عمته المتقدمة بالسن بالتصويت له، لأنها ترفض أن تعطي صوتها للشعب الجمهوري. والحقيقة أن هذه المشكلة لا تقتصر على الكبار في السن، إنما ستضع الكثير من المتحمّسين للأحزاب الجديدة، أو الراغبين بالتغيير، أو المترددين أو المستائين من سياسات العدالة والتنمية الأخيرة أمام حالة من انعدام البديل؛ إذ لن يرغب/ أو يستطيع بعضهم التحرر من الإرث السيء لعلاقة الشعب الجمهوري مع المحافظين والحريات الدينية بشكل عام.
لن يجد أنصار الأحزاب المحافظة الثلاثة اسمها وشعارها في ورقة التصويت، وسيضطرون لوضع علامة الاقتراع على شعار حزب الشعب الجمهوري، مع ما يحمله ذلك من تناقض مع الإرث السياسي والهوياتي لأنصار هذه الأحزاب.
لا تكمن الأزمة الحقيقية للأحزاب الثلاثة بالدخول في تحالف الأمة، بل بالدخول المشروط تحت قائمة الشعب الجمهوري، بعد أن فشلت بتشكيل قائمة ثلاثية خاصة بها، وفشلت في تحسين شروط تفاوضها داخل التحالف، مما يعطي ملمحاً حول مدى قوة هذه الأحزاب وقدرتها على إثبات نفسها والدفاع عن مصالح أنصارها داخل الطاولة السداسية، ولاحقاً في الحكومة والبرلمان. كما أنها ومن خلال تحالفاتها الحالية، لا تبدو قادرة على تقديم وعود تتجاوز فكرة “إسقاط أردوغان وحزبه”.
ختاماً، تبقى هذه الانتخابات الأكثر صعوبة في التكهن بنتائجها، لأننا وللمرة الأولى سنرصد سلوكاً اقتراعياً فوق-أيدولوجي، لم تختبره تركيا من قبل، يتنافس فيه أبناء الهوية والمدرسة الفكرية الواحدة، ويتحالف فيه الخصوم التقليديون. سنختبر بعد النتائج ما إن كان هذا السلوك سيظل نخبوياً ومحصوراً في قادة الأحزاب الثلاثة ودوائرهم الضيقة أم أنه سيلقى صدى لدى عموم الناخبين!