يدور نقاشٌ جدّي في الولايات المتحدة الأميركية حول مواقف كامالا هاريس من إسرائيل ومن الحرب على غزة والقضية الفلسطينية عمومًا. وفي حين يعتقد البعض أنّ هاريس لا تختلف في شيءٍ عن سياسة بايدن وأوباما في هذا الصدد، يرى آخرون أنّ المرشحة الديمقراطية قد تنأى بنفسها عن مواقف من سبقوها في حال ما إذا فازت في انتخابات الخامس من تشرين الثاني/نوفمبر المقبل.
ذات النهج
افتتح الأكاديمي الأميركي من أصلٍ إيراني، حميد دباشي، مقالًا له على موقع "ميدل إيست آي" بالقول إنه: "قبل أن يُقرر جو بايدن الانسحاب من السباق الرئاسي تحت ضغطٍ هائل، ويسلّم شعلة السباق لنائبته كامالا هاريس، بدا السباق الرئاسي الأميركي بائسًا إلى حد كبير، بين صهيونيٍ معترفٍ به يشارك بنشاطٍ في الإبادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل في فلسطين، وبين محتالٍ مدان وانتهازي يترشّح على بطاقة فاشستية".
وبالنسبة لدباشي، فإنّ هذه كانت حالةً مؤسفة حتى بالنسبة لأكثر الليبراليين الأميركيين حماسةً، مشيرًا إلى أن هؤلاء تنفسوا الصعداء أخيرًا عندما تولت هاريس زمام الأمور وضخّت بعض الحماس في انتخاباتٍ مريضة على حدّ وصفه.
هاريس تعمل بنشاطٍ لتحويل القضية الفلسطينية إلى أزمة إنسانية، وهو فخ لا ينبغي لنا أبدًا الوقوع فيه حسب حميد دباشي
كما أدّى احتمال جلوس امرأةٍ من أصل هندي وكاريبي في المكتب البيضاوي إلى تنشيط السياسة الميتة في البلاد، خاصةً أنها بالنسبة للأميركيين الليبراليين تتفوق بفارقٍ كبير فيما يتعلق بالسياسة الداخلية على منافسها الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي ليس لديه إلا سجلٌّ سابق من الخداع والعنصرية السافرة والتفوق الأبيض المعادي للأجانب.
بالفعل، رفضت هاريس رئاسة اجتماع الكونغرس الذي ألقى فيه مجرم الحرب، رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أحد خطاباته المبتذلة، واتخذت هاريس لهجةً قاتمة، معربةً عن تعاطفها مع الفلسطينيين، وتعهدت بأنها لن تصمت بشأن مذبحتهم الجماعية، وهو ما يمكن اعتباره في هذا المناخ الكئيب، علامةَ أملٍ، ولكنه ليس في الحقيقة كذلك حسب دباشي لسببٍ بسيطٍ، وهو أنّ هاريس أعربت عن قلقها من الكارثة الإنسانية في غزة بعد 10 أشهر من الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل على مدار الساعة ضد الفلسطينيين، ولكن آثار ما قالته كانت أسوأ، حسب دباشي، إذ قالت: "عبّرت أيضًا مع رئيس الوزراء عن قلقي الشديد من حجم المعاناة الإنسانية في غزة، ومقتل عددٍ كبير جدا من المدنيين الأبرياء".
وأضافت: "ما حدث في غزة على مدى الأشهر التسعة الماضية مدمِّر، فهناك صور الأطفال القتلى والأشخاص اليائسين والجوعى الذين يفرون بحثًا عن الأمان، وأحيانًا ينزحون للمرة الثانية أو الثالثة أو الرابعة. لا يمكننا أن نغض الطرف عن هذه المآسي. لا يمكننا أن نسمح لأنفسنا بأن نصبح مخدّرين للمعاناة. ولن أصمت".
واضحٌ أن لدى هاريس، حسب دباشي، "قلقًا جدّيًا" من التكاليف البشرية للإبادة الجماعية في عهدها، "ولكنه قلقٌ لا يشير إلى أنها تهتم بالتضحيات التي قدمها الفلسطينيون في نضالهم لمحاربة المحتلين الأشرار واستعادة وطنهم، بل إنّ مشاعرها تقلّل من شأن ذلك بالنظر إليه كأزمةٍ إنسانية تجب معالجتها من قبل الوكالات الإنسانية"، وهذا فخٌّ، حسب الكاتب، لا يجب الوقوع فيه.
بناءً على ذلك، يستنتج دباشي أنّ موقف هاريس من إسرائيل مماثلٌ لموقف بايدن وترامب وباراك أوباما من قبله، وأنّ تعبيراتها الضعيفة عن التعاطف مع معاناة الفلسطينيين: "أسوأ من الصمت، لأنّها مثل النظام الإمبريالي الليبرالي بأكمله تعمل بنشاطٍ لتحويل القضية الفلسطينية إلى أزمة إنسانية، وهو فخ لا ينبغي لنا أبدًا الوقوع فيه".
ونبّه دباشي، في سياق تأكيد محاججته، على الدعم العسكري الهائل الذي حصلت عليه إسرائيل في ظل إدارة بايدن التي تجاوزت الكونغرس لتزويد إسرائيل بأسلحة فتاكة لذبح الفلسطينيين، مشيرًا إلى أن هاريس مشاركةٌ في تلك القرارات، وبالتالي فكيف يمكنها أن تساعد وتسهّل الإبادة الجماعية في فلسطين، ثم تنطلق في حملتها الانتخابية لتقول إنها "قلقةٌ للغاية" بشأن المعاناة التي مكّنت لها؟ هذا منطقٌ لا يستقيم حسب دباشي.
إنّ التحول إلى الاهتمامات "الإنسانية" الذي تركز عليه هاريس كوسيلة لنزع الصفة السياسية عن حركة التحرير الوطني، هو "عملٌ شرير"، حسب دباشي الذي قال في نفس السياق إن هاريس خرجت بعد لقاء مجرم الحرب الرئيسي، لتقول إنها مرعوبةٌ من هذه الجرائم، دون أن يكون لذلك أي قدرٍ ولو بجزءٍ ضئيل من إعادة النظر في التزام بلادها "الصارم" بالصهيونية والإبادة الجماعية.
وختم دباشي مرافعته بأنّ المشهد السياسي الأميركي محاصرٌ بين الإمبريالية البلطجية في الخارج والفاشية المتشددة في الداخل من جهة، والإمبريالية الليبرالية في الخارج والسياسات المحلية شبه العاقلة في الداخل من جهةٍ أخرى، وبناءً عليه، يخلص إلى أنه، "من حقِّ الملايين من الأميركيين أن يذهبوا ويصوتوا لهاريس لمجرد منع منافسها المحتال العنصري دونالد ترامب من استعادة منصب رئيس الولايات المتحدة".
هاريس وإمكانية النأي عن سياسة بايدن بشأن غزة
يعتبر الكاتب الأميركي ألكسندر وارد أنّ المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس تحاول بعناءٍ أن تجذب الناخبين التقدميين الداعمين للفلسطينيين دون أن تنفر الناخبين الآخرين ودون أن تمنح المرشح الجمهوري دونالد ترامب أيضًا فرصةً لمهاجمتها. خاصةً أنها بدت متمسكةً حسب الكاتب بالتعبير على نحوٍ مستمر عن معاناة الفلسطينيين، منذ اجتماعها "المتوتر" في البيت الأبيض مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الشهر الماضي، حيث طالبت بعده بإنهاء القتال في غزة، وقالت إنها "لن تصمت" بشأن الظروف الإنسانية المتدهورة للفلسطينيين.
ودفعت هذه المواقف ألكسندر وارد إلى الحديث، في مقاله المنشور في صحيفة "وول ستريت جورنال"، عن وجود فجوات بين هاريس وبايدن في الموقف من إسرائيل، مرجّحًا أن تتّسع شيئًا فشيئا مع تكثيف حملتها الرئاسية: "فهي تبدو أكثر صراحةً من بايدن بشأن الحاجة إلى تدفق المساعدات الإنسانية للمدنيين في غزة والتوصل إلى اتفاقٍ مع حماس لوقف القتال".
توجد فجوات بين هاريس وبايدن في الموقف من إسرائيل يمكن أن تتسع شيئًا فشيئًا حسب ألكسندر وارد
وتنقل "وول ستريت جورنال" عن آرون ديفيد ميلر، المفاوض السابق في عملية السلام في الشرق الأوسط الذي خدم في إداراتٍ جمهورية وديمقراطية، قولَه إن: "هناك كامالا الداخلية من جيلٍ مختلف عن بايدن، وهي أكثر تعاطفًا وحساسيتها أعمق من تعاطف الرئيس عندما يتعلق الأمر بمعاناة الفلسطينيين، كما أن هناك كامالا الخارجية الديمقراطية المعتدلة المؤيدة لإسرائيل، والتي تعرف أنه يجب عليها، لأسباب سياسية، أن تميز بين عدة أمور عندما يتعلق الأمر بإسرائيل".
وترى الصحيفة الأميركية أنه إذا: "بقي اتفاق وقف إطلاق النار الذي توسطت فيه الولايات المتحدة بعيد المنال أو اندلعت حربٌ أوسع في الشرق الأوسط، فإن هاريس قد تتحمل فشلًا دبلوماسًيا يُعقّد موقفها من المكتب البيضاوي".
وتنقل "وول ستريت جورنال" عن زعماء الحركة "غير الملتزمة" المؤيدة للفلسطينيين، من الناشطين الذين يثبّطون عزيمة التصويت للديمقراطيين بسبب تعامل إدارة بايدن مع الحرب، قولَهم إنهم: "أجروا تفاعلًا موجزًا مع هاريس ونائبها تيم والز خلف الكواليس"، وأوضح عباس علوية، وهو أحد مؤسسي المجموعة، أنه سألها هل ستلتقي زعماء المجموعة بشأن حظر الأسلحة على إسرائيل، فأعربت عن "انفتاحها" على الاجتماع لكنها لم تتعهد بأي التزاماتٍ حقيقية".
وعادت المتحدثة باسم حملة هاريس للتأكيد أن المرشحة الديمقراطية: "لم تعد المجموعة بعقد اجتماعٍ بشأن تقييد الأسلحة لإسرائيل"، كما قال مستشارها للأمن القومي فيل غوردون إنها: "لا تدعم حظر الأسلحة على إسرائيل، وستواصل العمل لحماية المدنيين في غزة ودعم القانون الإنساني الدولي".
وعندما قاطع المتظاهرون الذين كانوا يهتفون حول "الإبادة الجماعية" خطابها في ديترويت، وبّخهتم قائلةً وسط هتافات الحشد: "إذا كنتم تريدون فوز دونالد ترامب فقولوا ذلك، وإلا فأنا أتحدث"، وقالت في حشدٍ" "لقد كنت واضحةً. الآن هو الوقت المناسب للتوصل إلى اتفاقٍ لوقف إطلاق النار وإنجاز صفقة المحتجزين".
ولفتت "وول ستريت جورنال" النظر إلى توقعات بعض المراقبين للمشهد السياسي الأميركي من أنّ هاريس: "قد تتماشى في نهاية المطاف بشكلٍ أوثق مع العناصر التقدمية في الحزب الديمقراطي، وقد تكون أكثر ميلًا إلى جعل دعم الولايات المتحدة لإسرائيل مشروطًا بسلوكها في غزة والضفة الغربية".
إلّا أنّ دين ليبرمان، وهو نائب مستشار هاريس للأمن القومي، وصف هذه التوقعات بأنها "تكهنات"، وأصر في المقابل على أن لدى هاريس: "التزامًا ثابتًا مدى الحياة بأمن إسرائيل ولن تترك إسرائيل تقف وحدها أبدًا"، مضيفًا أنها تعتقد مع ذلك أنه: "يجب بذل المزيد من الجهود لحماية المدنيين الفلسطينيين وتقديم المساعدات الإنسانية لهم".
لكن من المؤكد حسب الصحيفة أن استمرار العدوان الإسرائيلي على غزة وتزايد الاضطرابات في منطقة الشرق الأوسط على خلفية التصعيد المتزايد بين إسرائيل وحزب الله ولبنان والحوثيين في اليمن، لا تترك لهاريس أي خيارٍ سوى الاستمرار في الخوض في حقلٍ من الألغام السياسية قبل الانتخابات المزمع إجراؤها بعد حوالي 3 أشهر من الآن في الخامس من تشرين الثاني/نوفمبر المقبل.