الترا صوت – فريق التحرير
في الوقت الذي بدأت فيه نيابة مكافحة الفساد السودانية توجيه التهم للرئيس السوداني المعزول عمر البشير بشكل شخصي بعد ظهوره لأول مرة منذ الإطاحة به في نيسان/أبريل الماضي، ادعى المجلس العسكري الانتقالي السوداني عدم تورطه بمجزرة فض الاعتصام السلمي في ساحة القيادة، بالتزامن مع بروز تقارير تشير إلى توجه واشنطن نحو سحب الملف السوداني من السعودية والإمارات بسبب التقارير الواردة حول دعمهم لقوات الردع السريع لفض الاعتصام بالعنف والقوة.
في خطوة جديدة لمحاولة الالتفاف على مسار عملية التحول الديمقراطي التي يشهدها السودان، ادعى قائد قوات الردع السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) امتلاك المجلس "تفويضًا شعبيًا" لتشكيل حكومة تكنوقراط
المجلس العسكري يكّذب اقتحام ساحة الاعتصام
قال المجلس العسكري الانتقالي في السودان إن بعض وسائل الإعلام أوردت ما وصفها بـ"معلومات خاطئة" تفيد أن "المجلس أمر بفض ميدان الاعتصام بالقوة"، فيما نفى رئيس جهاز القضاء والنائب العام السودانيين يوم السبت صحة ما تردد عن مشاركتهما في اجتماع مع المجلس العسكري بشأن فض الاعتصام.
اقرأ/ي أيضًا: السودان.. للثورة مواقيتها
وكان السودانيون بدأوا اعتصامًا في السادس من نيسان/أبريل الماضي أمام مقر قيادة الجيش للمطالبة برحيل البشير، وبعد أيام قام الجيش السوداني بعزل البشير من منصبه، واستمر الاعتصام للضغط على المجلس العسكري من أجل تسليم السلطة للمدنيين إلى أن قام المجلس العسكري باقتحام ساحة الاعتصام قبل نحو 15 يومًا، واستخدم العنف لفض المعتصمين ما أسفر عن سقوط أكثر من 115 مدنيًا.
وأعلنت لجنة تحقيق تابعة للمجلس العسكري السبت ضلوع "ضباط برتب مختلفة" في فض الاعتصام، وقالت في بيان متلفز إنه: "ثبتت مسؤولية ضباط برتب مختلفة عن إخلاء ساحة الاعتصام، دون أن يكونوا ضمن القوة المكلفة بتنفيذ خطة تنظيف منطقة كولومبيا"، وحاول المجلس التنصل من مسؤولية الانتهاكات التي ارتكبت خلال فض الاعتصام بالقول إن الضباط "دخلوا مقر الاعتصام من دون تعليمات من الجهات المختصة"، وكان المجلس قد أعلن قبل البيان المتلفز اعتقاله مجموعة من الضباط لدورهم في فض الاعتصام بالعنف.
ونفى المجلس العسكري سابقًا أن يكون قام بفض الاعتصام، ويزعم أن قواته قامت بمداهمة "بؤرة إجرامية" في منطقة كولومبيا قرب مقر الاعتصام قبل أن تتطور الأحداث ويسقط قتلى بين المعتصمين، في حين اشترطت قوى التغيير الديمقراطي اعتراف المجلس بارتكابه جريمة فض الاعتصام حتى تعود للمفاوضات.
ووجهت نيابة مكافحة الفساد السودانية للبشير "تهم حيازة المال الأجنبي واستلام هدايا بصورة غير رسمية"، وأبلغته شخصيًا بحقة في الاستئناف، بعدما ظهر لأول مرة الأحد منذ الإطاحة به في 11 نيسان/أبريل الماضي، ويواجه البشير تهمًا مرتبطة بالتحريض على قتل المتظاهرين، ومزاعم غسل أموال وتمويل الإرهاب، كما تستجوب النيابة 41 مسؤولًا سابقًا من إدارة البشير حول مزاعم متعلقة بالكسب غير المشروع.
قوات الردع ترتكب انتهاكات قمعية وجنسية
وفي خطوة جديدة لمحاولة الالتفاف على مسار عملية التحول الديمقراطي التي يشهدها السودان، ادعى قائد قوات الردع السريع ونائب رئيس المجلس العسكري محمد حمدان دقلو (حميدتي) امتلاك المجلس "تفويضًا شعبيًا" لتشكيل حكومة تكنوقراط، وقال أمام تجمع في العاصمة الخرطوم "نريد تشكيل حكومة كفاءات وتكنوقراط، و(هذا) الحشد الجماهيري بمثابة تفويض شعبي"، وزعم أن قوات الردع المتهمة بتنفيذ مجزرة فض اعتصام ساحة القيادة "لا تنتمي إلى حزب سياسي، وتعرضت لظلم وتشويه"، إضافًة لمساهمتها "في التغيير الحقيقي بالسودان" على حد قوله.
ويوم الأحد أعلنت لجنة طبية نقابية تتبع لقوى المعارضة السودانية ارتفاع ضحايا الأحداث منذ فض اعتصام ساحة القيادة مطلع الشهر الجاري إلى 128 شخصًا، وأضافت اللجنة في بيانها أن أعداد من تم "حرقهم داخل الخيم من الأطفال والشباب والكبار وفاقدي المأوى، ومن ثم إغراقهم، ليس مضبوطًا حتى هذه اللحظة".
وخلال الأيام الماضية نشرت قناة انتهاكات المجلس العسكري على تطبيق تيلغرام مقاطع مصورة توثق دخول عشرات المركبات لقوات الدعم السريع وأفراد الشرطة إلى ساحة الاعتصام قبيل وقوع المجزرة، مشيرًة إلى أن جميع الشهادات التي حصلت عليها أكدت أن المقتحمين أطلقوا الرصاص، واعتدوا بالضرب بالعصي والسياط على المعتصمين، كما نشرت فيديوهات أخرى توثق اعتداء قوات الردع على المعتصمين أثناء فضهم لاعتصام ساحة القيادة.
وقالت الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة المعنية بمتابعة انتهاكات العنف الجنسي براميلا باتين إنه رغم فرض قيود على الاتصالات في السودان، فإن تقارير وردت للمنظمة الأممية عن طريق "ادعاءات" تشير لوقوع انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان من قبل عناصر من قوات الردع السريع والمليشيات منذ تاريخ فض اعتصام ساحة القيادة، وأضافت أن "تلك الادعاءات تشمل حالات اغتصاب وأعمال اغتصاب جماعي ضد المتظاهرين والمدافعات عن حقوق الإنسان والعاملات في المجال الطبي في المستشفيات القريبة من مكان الاعتصام الذي تم فضّه في العاصمة الخرطوم".
وكانت منظمة هيومن رايتس ووتش قد اعتبرت أن استمرار قطع الإنترنت في السودان يمثل انتهاكًا صارخًا لحقوق الإنسان، ودعت إلى إعادته فورًا، بعدما أصبح السودان معزولًا تمامًا عن الشبكة، وعجز نشطاء سودانيون عن الإبلاغ عن معلومات مهمة بشأن الوضع المتفجر في البلاد، وسط تقارير تفيد باستمرار القوات الحكومية في قيادة قوات الدعم السريع بارتكاب انتهاكات بعد فض الاعتصام.
قلق أمريكي من انتهاكات ساحة الاعتصام
تثير الانتهاكات المرتبكة بحق المعتصمين المدنيين في ساحة القيادة قلقًا أمريكيًا، وهو ما بدا واضحًا من تصريحات مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون أفريقيا تيبور ناجي يوم الجمعة الفائت عندما طالب بإجراء تحقيق "مستقل وذي مصداقية لمحاسبة مرتكبي الفظاعات" في مجزرة فض الاعتصام، مشيرًا إلى أن حملة القمع شكّلت من وجهة نظر واشنطن "منعطفًا كاملًا في طريقة سير الأحداث مع ارتكاب عناصر القوى الأمنية جرائم وعمليات اغتصاب".
وفي حديث لصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية رفض حميدتي الإجابة على أسئلة مباشرة حول الانتهاكات التي ارتكبتها قوات الردع، وفي محاولة لتبرير الانتهاكات المرتكبة في ساحة القيادة، تذّرع حميدتي خلال المقابلة ذاتها بـ"استفزازات" طالت جنوده، وزعم أن السيارات التابعة لهم تم "تدميرها أمام أعيننا وقد تم تصوير ذلك على الهواء مباشرة".
وكان المسؤول الأمريكي قد حذر في وقت سابق من تكرار السيناريو الليبي في السودان، مشيرًا إلى أن بلاده لا تلعب دورًا مباشرًا في السودان إنما تقدم النصح والدعم للاتحاد الأفريقي"، وشدد ناجي على أن "الاتحاد الأفريقي لديه أدوات أخرى يمكنه اتخاذها إلى جانب تجميد عضوية السودان، في حال تدهور الوضع في البلاد" في إشارة للتقارير الواردة حول ارتكاب قوات الردع انتهاكات بحق المعتصمين السودانيين.
واشنطن تسحب الملف السوداني من الرياض وأبو ظبي
الانتهاكات التي ارتكبتها قوات الردع السريع بحق المتظاهرين المدنيين في ساحة القيادة، وما أثارته التقارير الأممية والحقوقية لمنظمات سودانية غير حكومية عن ارتكاب فظاعات وصلت إلى رمي جثث المتظاهرين في نهر النيل بعد تقييد أقدامهم بحبال مع حجارة، وغيرها من الفيديوهات التي تظهر اعتداء قوات الأمن على المدنيين بالعصي، كل تلك الممارسات دفعت بواشنطن لتسلم الملف السوداني بعد سحبه من السعودية والإمارات.
وكشف تقرير نشره موقع كريستيان ساينس مونيتور الأمريكي جمع بين المعلومات الخاصة والتحليل، إلى أن الفض الدموي لاعتصام الخرطوم دفع بواشنطن إلى إعادة تسليم الملف السوداني لوزارة الخارجية الأمريكية بعد سحبه من الرياض وأبوظبي، وأشار التقرير إلى أنه في الوقت الذي ينحصر قلق واشنطن حول احتمال نمو التطرف و"الإرهاب المعادي لأمريكا"، يتمحور عمل الحليفين الخليجيين لها حول قمع أي نزعة ديمقراطية من شأنها أن تهدد نظاميهما.
وقال مراسل الموقع الأمريكي تايلور لوك إن دبلوماسيين عرب على علم بسياسات البيت الأبيض، نقلوا له استعادة الخارجية الأمريكية الإشراف على الملف السوداني بسبب قلة اكتراث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والدائرة المحيطة فيه بالسودان، وأشار الموقع إلى أن الدولتين الخليجيتين فرضتا في السودان الخطط التي اتبعتها في مصر وليبيا لوأد موجة التغيير الديمقراطي، وأشار الموقع إلى وجود أجواء عامة في واشنطن تعتبر أن هناك ضرورة لتدخل أمريكي في الملف السوداني "ينظف الفوضى التي تسببوا بها" في إشارة للدولتين الخليجيتين.
ولا يظهر أن الدولتين الخليجيتين مهتمتان بظهور تجربة انتقال ديمقراطي ناجحة في الشرق الأوسط، خاصة مع دعمهما المجلس العسكري الانتقالي في السودان لتثبيت نموذجهما في حكم العسكر الاستبدادي، حيث قامتا بإرسال 500 مليون دولار للخرطوم بعدما عزل المجلس العسكري البشير من منصبه، والمبلغ المرسل هو من ضمن حزمة مالية بقيمة ثلاثة مليارات دولار تعهدتا تحت ذريعة تقديم المساعدات بمنحها للمجلس العسكري.
ويرى عبدالعزيز كيلاني في مقالة نشرها موقع Lobe Log الأمريكي أن هدف الدولتين الخليجيتين من هذه المساعدات ليس إنعاش الاقتصاد السوداني كما تحدثتا، بل الحفاظ على نفوذهما هناك، وتوّقع أن يكون رئيس المجلس العسكري الانتقالي عبد الفتاح البرهان بالاشتراك مع حميدتي قد حصلا على موافقة من الدولتين الخليجيتين لتنفيذ المجزرة التي ارتكبت أثناء فض اعتصام ساحة القيادة.
ورأى الكاتب البريطاني روبرت فيسك في مقال آخر نشرته صحيفة اندبندنت البريطانية أن توقعات السودانيين كانت صحيحة عندما أعلنوا خوفهم من وصول أموال سعودية وإماراتية للمجلس الانتقالي السوداني، مشيرًا إلى أن الوقائع أظهرت أن جنرالات الجيش، وبدعم من الدولتين أرادوا إفشال الثورة الشعبية، وعدم تسليم السلطة للمدنيين.
وأضاف الكاتب البريطاني في مقاله أن الدعم السعودي لوحشية العسكر في السودان، يؤكد إيمان النظام الحاكم في الرياض بأن "المشاكل السياسية يمكن أن تحل بالموت"، مشيرًا كنموذج على ذلك معتقلي الرأي في السعودية الذين تنتظرهم "محاكمات تافهة"، والحرب السعودية – الإماراتية التي أصابت اليمن بمجاعة غذائية، فضلًا عن دعمهما سابقًا للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في انقلابه العسكري على الرئيس المصري المعزول محمد مرسي.
اقرأ/ي أيضًا: المجلس العسكري يفض اعتصام السودان بالقوة.. والشارع يرد بالعصيان الشامل
وفي هذا الصدد لفتت تقارير صحفية إلى أن دور السعودية في السودان، يتماهى مع ما قامت به في دول أخرى في المنطقة من خلال تهميش منافسيها قطر وإيران، ودعم أنظمة ديكتاتورية مبنية على القمع، بحسب ما ذكرت صحيفة الغارديان البريطانية، التي أضافت أن اتخاذ التطورات الأخيرة في السودان "مسارًا دمويًا، دفع بواشنطن لتعديل نبرتها، والإعراب عن إحباطها من السياسة السعودية الخارجية".
كانت منظمة هيومن رايتس ووتش قد اعتبرت أن استمرار قطع الإنترنت في السودان يمثل انتهاكًا صارخًا لحقوق الإنسان، ودعت إلى إعادته فورًا، بعدما أصبح السودان معزولًا تمامًا عن الشبكة
وكان مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون قد قال في تغريدة على تويتر إن: "العنف غير المبرر الذي قامت به قوات الأمن السودانية ضد المتظاهرين السلميين في الخرطوم أمر فظيع.. يجب أن يحترم المجلس العسكري حق التظاهر السلمي، وأن يسرّع من الانتقال إلى حكومة مدنية، والذي هو حق مشروع للشعب السوداني".
اقرأ/ي أيضًا: