ما يحدث حاليًا في الخليج هو "حرب". صحيح أن الأسلحة بشكلها التقليديّ لم تُستخدم بعد، وصحيح أنّ الحِلف الخليجي الثلاثي ضد دولة قطر لا زال يستخدم أحيانًا لغة "الأخوة" والعتب على "الشقيق الأصغر"، إلا أننا يجب أن نتذكر دومًا أنَّه حتى الحرب في عالم اليوم هي حالة نسبية.
وإن كانت حالة الحرب في مناطق مثل سوريا واليمن وليبيا وسيناء والعراق هي الدبابة والطائرة والصاروخ والبندقية، فإن اتفاقًا ضمنيًا بين القوى الإقليمية والدولية بعد حرب "تحرير الكويت"، نزع السلاح من حروب الخليج، وجعلها أقرب إلى الدبلوماسية العنيفة، أو الصراخ المتبادل الذي يرافقه كل ما يمكن أن يؤذي الطرف الآخر اقتصاديًا ورمزيًا. لم تتوقف الحرب إذن في الخليج بعد هزيمة صدّام حسين في 1991، وبعد احتلال العراق في 2003، بل تغيّر منطقها الذي لم نعتد عليه بعد.
في اللحظات الأكثر توترًا بين السعودية وإيران، لم يغلق أيًا منهما المجال الجوي أمام الآخر كما حدث مع قطر!
نحن نسينا بأن العراق عام 1990 اعتبر قرارًا كويتيًا بإغراق السوق بالنفط قرارًا بالحرب، ولكننا لم ننسَ بالطبع ما الذي حصل بعد ذلك. ما فعلته الكويت آنذاك، مع أنّه كان قرارًا سياديًا (ومن دون التبرير طبعًا لردة الفعل العراقية)، لا يمكن مقارنته بما يفعله الحلف الخليجيّ حاليًّا ضدّ الدوحة، التي أشار وزير خارجيتها إلى أن الإجراءات التي اتخذت ضدّ بلاده لم يسبق اتخاذها أصلًا ضدّ دولٍ معادية.
اقرأ/ي أيضًا: تقدير موقف: أزمة العلاقات الخليجية القطرية.. في أسباب الحملة ودوافعها
والواقع أنّه في اللحظات الأكثر توتّرًا ما بين المملكة العربيّة السعوديّة وإيران، لم يسبق لأيٍّ منهما إغلاق المجال الجويّ أمام الآخر. كما أنَّ التبادل التجاريّ بين الخليج من البوابة الإماراتية وإيران كان في أوجه في أصعب أوقاتِ الحِصار على الأخيرة.
يعرف الجميع أنَّ جملة الإجراءات التي اتخذها الحلف الخليجي هي من النوع التركيعي. ولهذا السبب بالتحديد، فإنَّ إطلاق "الحصار" على ما يجري قد لا يفي بوصف هذه الإجراءات، فهذه ليست عقوبات اقتصادية، بل إنها حرب خاطفة، ولكن بمعاييرها الخليجية منزوعة السلاح. وإنْ كان لا يُعرّفها أطرافها على أنّها حرب، فهذا لا يعني أنّها ليست كذلك.
خليجيّة اقتصاديًا.. غير خليجيّة سياسيًا
تعتقد السعودية والإمارات أن قطر تستفيد اقتصاديًا من السوق الاقتصادية الخليجية الموحدة، والاتفاقيات الاقتصادية التجارية والمصرفية المتبادلة، دون أن تكون ملتزمة لا بالسياسة الخارجية الخليجية ولا بتصورات الخليج حول "العدوّ" و"الصديق"، أي أنّ قطر بهذا المعنى هي خليجية اقتصاديًا، وغير خليجية سياسيًّا.
يحاجج محور ابن زايد وابن سلمان، بأن النجاح الاقتصادي القطري بالأساس، ما كان من الممكن أن يكون لولا مجاورتها إمبراطورية اقتصادية هي السعودية، ولولا استفادتها من شبكة مواصلات جوية وبرية وبحرية لم تكن هي السبّاقة في تطويرها ولا الاستثمار بها. بل إنَّ ذاك المحور يعتقد بأن المساهمة القطرية الاقتصادية في السوق الخليجي محدودة، بل إن شركاتها في السنوات الماضية باتت فعّالة أكثر في قضم حصصٍ أوسع كانت تعتبر تاريخيًا من حقِّ جيرانها، منها على سبيل المثال حصص في النقل الجويّ وفي الاقتصاد المصرفيّ.
لذلك يظن أصحاب فكرة الحصار، بأنه بات على قطر أن تدفع ثمن "طفيليتها" الاقتصادية، كما يسمونها، وأن تدرك بأنه لم يعد من الممكن لها أن تكون خليجية على مستوى واحدٍ دون الآخر. وثمن ذلك، برأي هذا المحور، هو أن تدفع "رقبة" سياستها الخارجية.
في المقابل تعتقد قطر أن نجاحها الاقتصادي بالأساس لا يمكن تفسيره على أنّه جزء من اقتصاد خليجي موحد فحسب، بل بسبب السياسة الاستثمارية التي انتهجتها في تطوير تسييل الغاز ونقله، وهي سياسة مُغامرة اقترضت من أجلها مليارات الدولارات وبشكلٍ شبه مستقل عن السوق الخليجية.
زادت ثورة الغاز القطري من الحركة التجارية في الخليج العربية إجمالًا، ورفعت من حصته في التجارة العالمية
لا ينكر القطريون استفادتهم من الامتيازات الاقتصادية التي نالوها من عضويتهم في السوق الخليجية، ولكنهم يرون أنفسهم فاعلين في تطوير السوق إياها، إذ إن "ثورة" الغاز القطري، زادت من الحركة التجارية في الخليج العربي إجمالًا، ورفعت من حصّة مجلس التعاون في التجارة العالمية. كما أنَّ القطريين يرون أنهم انتهجوا سياسة اقتصادية تدافع عن مكانة الاقتصاد الخليجي، خاصة أمام المنافس الإيراني، الذي كان من الممكن أن يكون حليفًا تجاريًا لا يقلّ أهميّة عن "أشقائها" الخليجيين.
اقرأ/ي أيضًا: ما هي أسرار قوة الاقتصاد القطري التي تحصنه في وجه الأزمات؟
ترى قطر أيضًا أنه خلال العقود الماضية، لم تكن هنالك أصلًا سياسة خارجية خليجية موحدة اتجاه ملفات المنطقة، وإذا ما تركنا الدور النشط الذي لعبته سلطنة عمان، فإنه من المفيد التذكر أنّه وقبل بروز الدور القطري وقبل غزو الكويت، لعبت السياسة الخارجية الكويتية أدوارًا هامة في المنطقة، كان من بينها دعم الحركة الوطنية الفلسطينية ومؤسساتها، بالإضافة إلى قيادة جهود وساطة في أزماتٍ عديدة، وفي العلاقات مع الاتحاد السوفييتي وحلفائه، والأخيرة كانت تزعج السعودية كما تزعجها علاقات العديد من الدول العربيّة بإيران. ولم ينته الدور الكويتيّ، كما نعرف، إلا باحتلال الكويت ولجوء أسرتها الحاكمة إلى الرياض، لترث هذا الدور من بعد ذلك قطر.
ولكن حتى حليفا الحصار، كما ترى قطر، لا يتفقان على سياسة إقليمية موحدة اتجاه المنطقة. فمع أن السعودية والإمارات تشتركان بالفعل في مواقف عديدة أهمها الموقف من الإسلاميين وفي دعم النظام العسكري في مصر، إلا أنهما لا يملكان رؤية مشتركة في ملفات عديدة في سوريا واليمن وبخصوص العلاقة مع إيران. فليس هنالك رؤية خليجية واحدة للمنطقة، بل وللدقة هنالك مشكلة خليجية مع قطر.
ليس هناك نهاية واحدة.. بل نهايات
حملة "تكسير العظم" ضد قطر هي نتيجة تحالف وليّ وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان مع ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد. يحتاج محمد بن سلمان إلى دعم بن زايد من أجل أن يصبح ملكًا للسعودية، أي لكي يتخلص من ممانعة تيّار بن نايف ولي العهد الأول.
ومع أن للسعودية مشكلة تاريخية مع أي سياسة خارجية مشاكسة حولها، إلا أن الموقف السياسي السعودي هذه المرة مرتبط أيضًا برغبة جناح سعوديّ بـ"تأمين العرش". إنَّ المشكلة مع قطر بهذا المعنى هي تصديرٌ لمعركة داخلية بين أجنحة النظام السعوديّ، ولهذا السبب بالذات تبدو مثل حفلات المجانين.
بدوره يرغب ابن زايد بقص ريش السياسة الخارجية القطرية التي يراها عائقًا أمام دور إقليمي أوسع للسياسة الخارجية الإماراتية. ولا يمكن فهم اعتداد السياسة الخارجية الإماراتية بنفسها إلا من خلال "النجاح" الذي أحرزته في مصر، واعتقادها أنّها هزمت الدبلوماسية السياسية القطرية في الملعب المصري، ونجحت بالتحالف مع السعودية بتغيير النظام هناك.
ولكن غاب عن الإمارات أن دورها كان مبالغًا به في انقلاب الثالث من تموز/يوليو. صحيح أن الأموال الإماراتية السعودية قد ساهمت في الضخ الإعلامي ضد الرئيس المصري المخلوع محمد مرسي وضد جماعة الإخوان المسلمين آنذاك، إلا أنّ الدور الأهم كانت قد قادته الدولة العميقة ومؤسساتها ونخبها العلمانية التي لم تقبل أصلًا بنتيجة الانتخابات، وكانت تنتظر أي فرصة سانحة للانقضاض على الديمقراطيّة الوليدة.
أيًا كانت نتيجة الحملة على قطر، فإنَّها بالتأكيد ستمثّل نقطة تحوّل في نظرة الخليجيين لأنفسهم، وإمعانِ التفكير بما يجمعهم مع سكان إمارات وممالك الخليج الأخرى. هذه الأزمة هي من نوعِ الأزمات التي تجعل مواطني الخليج يعيدون النظر بتعريفهم لأنفسهم، وتدفعهم من جديد لكي يسألوا أنفسهم "من نحن؟"، ويتساءلوا أيضًا عما يربطهم بـ"الآخرين". ولا شكَّ بأنَّ الجهود التي بذلتها دول الخليج، منذ حرب الكويت على وجه التحديد، في تشييدِ هُويّة خليجية وتصوّر خليجيٍّ واحد عن "العدوّ" وعن "الصديق" سوف يضعه الملايين من مواطنيهم تحت طائلة السؤال.
ستمثل الحملة المدبرة على قطر نقطة تحوّل في نظرة الخليجيين لأنفسهم، وقد تدفعهم لإعادة التفكير في هويتهم
هنالك صدمة بين مواطني الإمارات وقطر والسعوديّة، الذين تعرّضت أُسرهم الحاكمة خلال أيّام الأزمة الماضية إلى حملة شرسة ومتبادلة من الاستهداف الشخصيّ غير المسبوق، والعائلة الحاكمة، كما هو معلوم، هي مصدر شرعية الحكم في الخليج العربيّ، التي طالما تمّ استهدافها من خصومها الأيديولوجيين.
اقرأ/ي أيضًا: قطع العلاقات مع قطر.. "من هو الإرهابي؟"
لكن أن يتمّ استهدافها من الخليجيين أنفسهم فإنَّ ذلك لا يعني سوى محاولة تتعدى قلب تغيير النظام إلى استهداف منطقه. وإذا علمنا بأنَّ منطق "الشرعيّة" لدى جميع دول الخليج، على اختلاف سياساتها وتوجهاتها، هو منطق واحد مبنيّ على أساس الولاء للعائلة الحاكمة والإقرار بـ"حكمتها"، فإنَّ التمادي بالأزمة حاليًا لا يعني سوى شكل من أشكال الانتحار الجماعيّ.
لقد كانت ممالك الخليج طوال السنوات الخمسين الماضيّة عصيّة على التغيير، وعلى عكس الجمهوريّات العربيّة، أبدت قدرةً فائقة على الصمود والتأقلم في بيئة إقليمية شديدة التقلب وتفتقد الاستقرار. ولكننا لا نعرف اليوم، فربما نكون أمام مرحلةٍ جديدة قررت فيها دول الخليج، طوعًا ودون وعي، تسديدَ الطعنة الوجوديّة الأهم لفكرة وجودها التاريخيّ. نحن لا نعرف، ولكنها قد تكون بداية النهاية، ولكنكم تعلمون أيضًا أنَّ أيّ نهايةٍ هي بدايةٌ لنهايةٍ أخرى سوف تعقبها لا محالة.
اقرأ/ي أيضًا:
العفو الدولية.. الرياض وأبوظبي تعبثان بحياة آلاف الناس
"الثور الإماراتي الهائج".. وثائق تكشف خطة أبوظبي لإفشال الديمقراطية في تونس