متحف الفن السيء أو MOBA، في أمريكا يحمل خصوصية فريدة، إذ يحوي قرابة خمسمائة قطعة فنية "شديدة السوء"، ويعتبر الوحيد من نوعه المُهتم بالفن الرديء. تعرّض المتحف للنقد ووصف بأنه لا يروج للفن بل لنقيضه، إذ يعتبر ما يُعرض فيه على أنه "مُنتج سيئ" ولا يمكن اعتباره فنًا"، السؤال الإشكالي المطروح حاليًا اختلف حوله منظرو الفن ومفكرو علم الجمال وهو ببساطة "هل الفن السيء يعتبر فنًا"؟ طرح "ألترا صوت" السؤال على عدد من الفنانين، وأضفنا: "هل هنالك فن ولا- فن؟".
يوجد فن أو لا فن، فالأول هو إنجاز جيد، والأخير بالضرورة يعتبر أي شيء آخر غير الفن
التشكيلي يوسف عبدلكي يعقب على السؤال بقوله: "بشكل عام، يوجد فن أو لا فن، فالأول هو إنجاز جيد، والأخير بالضرورة يعتبر أي شيء آخر غير الفن"، ويضيف: "في كل عصر كان هنالك حرفيون في مجال التصوير والنحت والسيراميك، إلى جانب التجّار والمتلصصين، وهؤلاء فلنغسل أيدينا منهم، لأن الفنانين الحق هم المبدعون، أصحاب المواهب والشجاعة لمواجهة الغثاثة، ومستفيدين من الغثاثة، ومؤسسات وزعماء الغثاثة".
أما عن ربط صفة الجودة بالفن، فيَعتبر فنان الكاريكاتير فارس قره بيت أن الفن الجيد هو المفيد والهادف، والذي يحمل رسالة ما. أما السيء فهو عكس ذلك، من دون أن يحمل صفة فَنّ، هذا من ناحية الفن بالعموم، ثم يستطرد في حديثه عن الفن التشكيلي بشكل خاص فيقول: "إن صفة العمل الجيد ترتبط بالتكنيك والتكوين والقيمة الفكرية والأكاديمية، بينما العمل الفني السيئ فيكون عكس ذلك".
إن تقييم الفن أو العمل الفني بوصفه سيء/جيد يعتبر حسب الكاتب والسيناريست هوزان عكو طرحًا لإشكالية جمالية، فالفن بالنسبة له كلٌ متكامل، أما الأعمال فهي جزئيات، وقيم الجودة والرداءة إنما هي قيم جمالية للحكم على العمل الفني.
في حين نرى الفنان السوري منير الشعراني يتناول ثنائية فن أو لا فن، إذ يؤكد أنه لا يوجد فن سيئ، إنما هناك فن أو لا فن، وبعد ذلك نقوم بتقييم العمل الفني نقديًا. فبالنسبة له: "الشرط الأول هو أن يحوي العمل إبداعًا وجديّة، بالإضافة إلى حضور الأدوات الفنية، وتحقيق العمل الفني للأسس الفنيّة التي إن غابت تغيب معها صفة "فن" عن العمل، فليست كل مساحة ملونة تعتبر تشكيلًا، ولا كلّ مجموعة أصوات تُسمع تعتبر موسيقى، كذلك ليست كل الأبيات الموزونة شِعرًا". ويضيف: "الفن أكبر وأعمق من أن يلتصق فيه الركام الذي ينتشر عن طريق الفيسبوك، ويشوش على صورة الفن بذهن المتلقين".
ليست كل مساحة ملونة تشكيلًا، ولا كلّ مجموعة أصوات موسيقى، ولا كل الأبيات الموزونة شِعرًا
ملاحظة الفنان السوري منير الشعراني السابقة ربما توضح قليلًا مما يحصل داخل الساحة الفنية السورية، فمع ازدياد روّاد ومتابعي وسائل التواصل الاجتماعي، وتحوّل هذه الوسائل إلى منصّات عرض ومنابر، وأدوات تحول أي هاوٍ، إلى "محترف مشهور"، وخصوصًا في ظل النزاع السوري الذي يؤثر بشكل مباشر على الحالة الفنية السورية، يُطرح التساؤل عن كيفيّة تقييم الأعمال الفنية السورية حاليًا؟ وهل كل ما يُعرض هو بالضرورة فن؟
تحدث عالم الاجتماع هاورد بيكر عن تقييم الفن بشكل عام، وعن وجود سلطة متمثلة بنقاد وحكام مختصين يطلقون على المُنتج صفة الفن، إن أردنا إسقاط هذا المفهوم على الوضع التجربة الفنيّة السوريّة، فنلاحظ حاليًا أن هناك سلطة تُحدد القيمة الفنية، ولكنها سلطة سياسية/دينية/اجتماعية غير متخصصة، وما إن وضعت هذه السلطات محدداتها الفنية فسيميل الفنان وحتى المتلقي إلى تبنيها.
استكمالًا لفكرة بيكر نجد في كتاب "سوسيولوجيا الفن" الصادر عن "عالم المعرفة" حديثًا عمن يتحكم بالتقييم والمحددات، "ففي وقت من الأوقات لم يكن الجمهور يبحث عن لوحات كبيرة لموضوعات رفيعة، وإنما كانوا يطلبون لوحات يضعونها في منازلهم"، ونقرأ أيضًا أن النظام الذي نشأ للإيفاء بهذه الاحتياجات، وليصل ما بين هذه الجماعات، هو نظام التاجر/الناقد، بالإضافة لعوامل مثل العرض والطلب التي تلعب دورًا بالتشجيع أو تثبيط أساليب معينة من الممارسة الفنية.
إن أردنا إسقاط ما يُقال على الحالة الفنية السورية فسنجد أن التاجر/الناقد يتمثل بالسلطة السياسة/الدينية/الاجتماعية، إذ إنه الذي يخلق المعيار الفني "الوطني أو الثوري" ويمارس من خلاله عملية العرض ويشجّع على الطلب، مكرسًا مفاهيم وأيديولوجيات وكليشيهات تصبغ أي عمل فني يروج له، فعلى سبيل المثال حينما يرافق دال أو موتيف كـ"علم، زي عسكري، إلخ..." عملًا ما، نراه يلقى رواجًا ضمن فئة محددة تؤمن بمرجعية هذا الدال بوصفها " الجيدة/الأفضل"، ويتم تكريس هذا الشكل على أنه "فن"، ويُعتبر "راقيًا" لأنه يكرّس صفات تنتمي للسلطة، وقيم عالية مرتبطة بها، حتى وإن كان المنتج ساذجًا ومكررًا ومبالغًا به، وكأن الوظيفة الوحيدة للفن هي التبشير بالقيم أو نشر المفاهيم الفكريّة أو الانخراط بدعم سياسة ما، وبالمقابل أي مُنتج تلتصق به صفة "ثورة"، يصبح "فنًا راقيًا عظيمًا"، وإن خلا من أي جمالية فنيّة أو تقنيّة.
أي مُنتج تلتصق به صفة "ثورة"، يصبح "فنًا راقيًا عظيمًا"، وإن خلا من أي جمالية فنيّة أو تقنيّة
يتكرر الأمر في كافة مجالات الفن، ولا سيما الفنون البصرية (تشكيل/سينما) حيث نشهد حالة نزاع حول شرعية الفن أو العمل الفني لا ترتبط بمعايير جمالية بل بمعايير سياسيّة، وبسبب غياب المرجعية الفنية المُحددة للمقومات الفنية، نشهد معارك للدفاع عن هذه الأعمال باعتبارها "فنًا مقدسًا".
التيار الآخر الذي يمنح العمل الفني شرعيته وجماليته يتعلق بالقوى الدينية/الاجتماعية، فلا يمكن تقبُّل الفن إلا ضمن ضوابط دينية واجتماعية معينة، ما خرج عنها بالضرورة يخرج عن الفن، بالإضافة إلى ربط القيم الجمالية بما يخدم الرسالة الفكرية والأيديولوجية، فكل ما هو محافظ هو جميل، إذ لا يمكن لعمل أن يكون فنيًا أو جميلًا إن لم يخدم المصلحة الدينية أو الاجتماعية فكريًا وتوعويًا، ليكمل رواد التيار السلطوي الثاني ربطهم الفن بالخير والفن بالقيم الأخلاقية والدينية العليا وبالتالي أدلجة الفن تمامًا كما تفعل السلطة السياسية.
التيار السوري المتنصل من أية سلطة، يسير مسار الفنان الفرنسي مارسي دو شامب وعمله الفني الأشهر "المبولة"، لا تمردًا على المؤسسات الفنية، إنما غالبًا للانخراط فيها، إذ تتعدد الأعمال التي يطلق عليها أعمال فنية سوريالية "ليس لأنها تستحضر معاني جديدة للأشياء عبر هدمها وجعل صياغة جديدة لها"، ولكن لكونها أميل إلى الغرائبية، أو نصًا ما أو مسرحية كونها عبثًا لمجرد أنها فاقدة للسياق، دونما المرور واستيعاب جماليات المراحل السابقة التي أنتجتها، فالأمر أصبح مجرد ربط الأعمال بمدارس سينمائية وحركات فنية وإلصاقها بها، مع أنها قد تكون بعيدة كل البعد عن الفن، على الأقل من الناحية التقنية.
ربما يمكن الُنظر إلى الحالة الفنية السورية على أنها جهود فرديّة، ذلك لعدم وجودها ضمن سياق ثقافي كما كانت سابقًا، لذلك فإن تقييمها كمجموع ليس بالأمر السهل وتقييمها ما إن كانت فنًا جيدًا أو سيئًا غير قابل للحدوث، لأنها دون سياق فني أو حقل فني ذي مؤسسات واضحة المعالم.
اقرأ/ي أيضًا: