ورقة شجر يابسة سقطت من الإطار الخشبي على المنحدر الذي رسم حدَّه الأولي بخط أسود مائل. ورقة انبثقت من الإطار وكأن الإطار لفظها. تتبعها بمشحات صفراء شحبت تدريجيًا مع خفوت اللون وجفاف الريشة، ضربات سريعة متوترة ولولبية. وقف مصعوقًا يبحلق في لوحته، كان يحاول أن يكون حذرًا للغاية، فمأساة الصباح كانت ما تزال تترك ارتعاشة في يده حين داس قطار خرج مسرعًا من نفق المترو الذي رسمه حيوانًا ما، لم يستطع تبينه من بشاعة المنظر، وكاد يقوده إلى الجنون أنه لم يسمع للقطار صوتًا، ولا يعلم من أين خرج ذلك الحيوان، ولا لاحظ اهتزازًا ليده على السكة.
حوادث من هذا النوع كانت تزيد من اهتزاز ثقته بنفسه. لقد قتل عددًا لا يستهان به من القطط والطيور والزواحف وأحرق مساحات شاسعة من الغابات، وأضاع عشرات المرات مفاتيح أو أوراقًا مهمة. كان كلما رسم إطارًا داس قطة وكلما رسم عمود كهرباء أحرق شجرة وكلما رسم سبخة ماء غرق مفتاح أو فُقِدَت ورقة.
كم مرة فاضت أنهاره على بيوت طين تخرج من حيث لا يدري، وكم مرة ابتلعت أحراشه شياهًا ضالة، كم مرة أطبقت أبوابه على أصابع الأطفال وكم مرة غطت مقاهيه على أصوات باعة يسترزقون. بل إنه في كل مرة كان يحاول أن يصلح ما وقع أو أن يرقعه بأبيض شاحب قريب من لون الورق كانت الأمور تزداد سوءًا وكان الأمر برمته يتحول إلى كارثة.
حتى هو بالكاد نجا بأعجوبة في آخر مرة حاول فيها رسمُ بورتريه لائق له، لطختان من الأبيض مكان عينيه، فمه خط مائل، وزهرتا عباد شمس مكان الحلمتين، ووقت خرج من المرسم كانت تلفه حالة من البياض، ويسيل في حنجرته خط أسود بينما تنخر نحلة نتوء صدره.
صار بعد هذه الحوادث ينحو أكثر للخطوط المستقيمة؛ الأرض المنبسطة والأشياء الواضحة والمحددة بشكل فظ، تلك التي يصعب أن تُخْفِي شيئًا وراءها، أو تبتلع حتى قدم نملة. لكن حوادث غير منطقية وغير متوقعة كسقوط ورقة من أعلى الإطار لم يكن ليحسب لها حسابًا.
كانت الورقة التي خسرت كثيرًا من لونها ووزنها ورونقها قد همدت أخيرًا في نهاية المنحدر. كان يتابع حافتها التي يصعب مع جفاف اللون أن تعتبرها حافة، بالكاد تصعد وتهبط مع نفسه المضطرب، بينما كانت تطبق حالة من الجفاف على يده.
اقرأ/ي أيضًا: