على الرغم من أنني لست فلّاحًا إلا بكوني ساكنًا في الريف، وهذا ليس إلا توصيفًا محايدًا، فلستُ أمارس من أعمال الفلّاحين شيئًا، لا الحراثة ولا البذار ولا قطف المحاصيل الزراعية ولا جدّ الزيتون، ولا أربّي المواشي والدواجن إلا أنني أجد الشوكة على الفرشة، فأتذكر المثل "المتعوس بلاقي الشوكة ع الفرشة". من أين جاءت تلك الشوكة؟ هل أتى بها إليّ سوء الحظّ أم أنها علقت بطرف البنطال خلال مشيي لمسافة قصيرة بين البيت والشارع لأستقلّ سيارة العمل أو خلال العودة من الدوام؟ لكنّ الطريق معبّدة وجانبيها خاليان من الأشواك.
تحيّرني هذه الشوكة، فأنا لا أندسّ في الفراش إلا بعد أن أغيّر ملابس العمل؛ لأرتديَ بيجامة صيفية مريحة لا تعرف طريقها إلى خارج المنزل.
شوكة الطريق على ما يبدو ليست تعبيرًا مجازيًا عمّا يصادف الإنسان من أشياء غير متوقعة من سوء الحظ، إنها حقيقة شوكة تَخِزُ جلدي وتزعجني، أفتش عنها وأزيلها دون اكتراث، وسرعان ما يزول ألمها.
لكن ثمة شوكة أخرى، مجازية هذه المرة، شوكة مزعجة، أحتاج للمثل الشعبي لأتمثل به عندما يصادفني التعثر في بعض الأمور، مثلا سقوط ذبابة صغيرة في كأس الشاي أو فنجان القهوة، أحتاج إليهما لأرتشفهما في خلوتي، على الرغم من أن الغرفة التي أعتزل فيها ليس فيها أي نوع من الحشرات الطائرة، فالناموس والذباب والهسهس وأشكالها لا تستطيع دخول الغرفة وتنغيص جوّ الهدوء فيها، ولا أدري كيف تسلّلت هي الأخرى ليكون موقعها في كأس الشاي وفنجان القهوة، تفسد هذه الذبابة الفضولية متعتي هذه.
تتسلّل الشوكة غير المتوقعة أيضا إلى دفتر الكتابة. هنا ليست الشوكة وحدها المجازية، بل أيضًا دفتر الكتابة مجازي، فليس لدي أوراق وأقلام للكتابة، فقد تركت هذه الوسائل منذ زمن بعيد، فأنا أكتب على الحاسوب مباشرة أو على جهاز الهاتف المحمول دون الداعي لقلم وورقة. حتى بتّ لا أستخدم شبه الجملة التي يستخدمها الكتّاب في العادة "بقلم فلان"، بل إنني أنفر منها ولا أتذكر أنني استخدمتها مسبوقة باسمي في ذيل الكتابة أو تحت العنوان في رأس الصفحة، مع أن بعض المحررين يصرّون على وضعها إذا ما نشروا لي مادة في صحيفة أو مجلة أو موقع إلكتروني.
عندما كنت أستخدم القلم والورقة، كانت تصادفني الشوكة المجازية بوصفي أحد المتعوسين الذين يلاقون الشوكة على "فرشة الكتابة"، فيتعرّض قلم الرصاص للفطع، أتدرون ما هو فطع القلم؟ إنه انكسار رأسه المدبب. بالمناسبة لم أعثر على هذه الكلمة في المعجم. كنت أحبّ أن أكتب بقلم الرصاص، فخطي يبدو فيه أكثر جمالًا مع أن موهبتي في رسم الحروف معدومة. لكن خطي بقلم الرصاص كان أجمل على أية حال، ويشعرني بالرضا عن نفسي، يكسر هذا الرضا فطعُ الرأس، فأحتاج للمبراة مرة أخرى.
بيني وبين قلم الحبر عداء خفيّ، فأول تلك التجليات العدائية هو أنني لم أكن أمتلك قلم حبر جيدًا بل كان على الدوام من النوع الرخيص جدًا. في امتحان الثانوية العامة كان لا بد من أن أكتب بقلم حبر جاف أزرق، ما يعني أنني لو كتبت بقلم رصاص سيكون علامة فارقة. ما قد يفسره المسؤولون بأنه "شيفرة" سرية بيني وبين المصحح لينحاز إليّ في عملية التصحيح، هكذا سيكون ما كتبته تحت دائرة الضوء والمساءلة والتشكيك والفحص الزائد. وفي الجامعة قبل شيوع الطباعة كان لا بد من أن أكتب الأبحاث والتقارير والامتحانات بقلم الحبر أيضًا. كيف أكون طالبًا جامعيًا وما زلت أكتب بقلم رصاص. ربما شكّل لي هذا الأمر إحراجًا ما. كان قلم الرصاص في تلك الفترة وحتى الآن أرخص من أرخص قلم حبر. فتستطيع امتلاك أربعة أقلام رصاص مقابل قلم حبر واحد، وربما اثنين مقابل واحد للأقلام الأكثر جودة.
في مرحلة المدرسة الأولى كان ممنوعًا علينا استخدام قلم الحبر. ويتعرّض أحدنا للتعنيف من المعلم لو حاول أن يكتب بقلم حبر. وليس مسموحًا استخدام قلم الحبر إلا بعد الصف الخامس الابتدائي، الطلاب الأكبر سنًا منا كانوا يتباهون أنهم تجاوزوا مرحلة "الرصاص" إلى "الحبر". فلا يحتاجون ممحاة ولا مبراة. كنت إذاك شغوفًا بتجاوز مرحلتي هذه إلى مرحلة الكتابة بالحبر. لأنها كانت تدل على أنني صرت أكبر.
في مرحلة الكتابة بالحبر، كانت الشوكة موجودة أيضًا، عندما كنت أضع القلم في جيب القميص، فيفاجئني أنه قد فاض، فيفسد القميص الذي ربما كان وحيدًا وقتذاك، وامتدّ الفساد إلى "الفنيلا" أو الشبّاح، أحتاج القلم لأكتب فأجد الشوكة تلك ولا أستطيع الكتابة، عدا ما أُصاب به من تلوّث أصابعي بالحبر. يستمر أثره على أصابعي طويلًا، ولا يستطيع الماء والصابون محوه بسرعة وبسهولة. وكلما نظرت إلى أصابعي شعرت بشوكة تخزني، كنت أضطر أحيانًا لأخبّئ راحتي في جيب البنطال كي لا أتعرّض للتعنيف من أمّي، مع أن التعنيف لا بد حاصل بسبب فساد القميص والشبّاح. إن هذا الفساد معناه أنني بحاجة إلى بديل جديد، والفرصة غير مهيّأة لتوفّر البديل، إذن سأضطر لارتداء القميص بما عليه من آثار بقعة الحبر التي لم تستطع أمّي إزالتها. أمّي كانت تغسل الملابس بيديها ولم يكن عندنا غسّالة. لم نعرف الغسّالة إلا بعد عام 2000، بعد أن أصبحت خارج سيطرة أمّي، ووقعت تحت سيطرة أخرى، لكنها بالتأكيد أقلّ حدّة من سيطرة أمّي.
شوكة الحبر كانت مزعجة، ولكن ليس بسببها عدت إلى الكتابة بقلم الرصاص. قلم الرصاص ألطف وأخفّ ويحدث بهجة في نفسي وربّما أعادني لطفولة ما. قلم الحبر ليس لي معه إلا ذكريات شوكة المتعوس، فانتقلت إلى الكتابة باستخدام الأدوات التكنولوجية، وهذه لها أشواكها الأخرى، من ارتباك في الاستعمال إلى الاحتياج لأمور التعديل والضبط والاحتفاظ بالمكتوب، وأكبر شوكة قد تصيبني بالخوف، هي تعطيل الجهاز وعدم القدرة على استرجاع ما كتبته وخزّنته في الذاكرة الاصطناعية.
ليس الفلّاحون وحدهم من يصابون بوخز الشوك، بل الكتاب أيضًا يعانون من وخزات لا عد لها، من أشواك لا حصر لها، وقد يفاجأون بالشوكة حتى وهم في عزّ أمان الكتابة والمكتوب، كأنْ يخرج إليهم قارئ بسوء التفسير والتعليل، فيصبحون منتهكين المحرمات والأخلاق العامّة، في تلك الحالة تستطيع فعلا أن تعرف كم من شوكة تلاقيك على "فرشة الكتابة" من حيث لا تتوقع. وكثيرًا ما حدث معي ذلك، وما زال يحدث، ولكن لا بأس، ألم يقولوا: "المتعوس بلاقي الشوكة ع الفرشة". تعوّدت على الأشواك، وأصبحت أكثر احتمالًا من ذي قبل.
اقرأ/ي أيضًا: