حط الصراع الانتخابي أوزاره بإسبانيا، واضعًا الفائزين والخاسرين على حد سواء، أمام رهانات صعبة لتشكيل الأغلبية الحكومية ونقيضتها المعارضة، التي يمتد طيفها في هذه الولاية من يمينية إلى يمينية متطرفة. لا ضير أن يمارس التنافس السياسي بوسائل ديموقراطية، وتحت بند المشروع منها، مع أن اليمين الإسباني في هذه الحالة هو الذي خرق هذا المشروع، في فضيحة كشفها موقع صحيفة جاكوبين تحت عنوان "تصفية بوديموس".
تجسس، سرقة، انتهاك للخصوصية وابتزاز. هي معالم أربعة لمؤامرة هزت الصرح الديمقراطي في المملكة الإيبيرية، في سابقة كنّاها المتتبعون بـ"ووترغيت إسبانيا"، من أجل تشويه سمعة حزب بوديموس اليساري
تجسس، سرقة، انتهاك للخصوصية وابتزاز. هي معالم أربعة لمؤامرة هزت الصرح الديمقراطي في المملكة الإيبيرية، في سابقة كنّاها المتتبعون بـ"ووترغيت إسبانيا". بقية أركان القضية ترتسم كالآتي: الضحية قيادات من حزب بوديموس اليساري الفتي، والجناة شبكة فاسدة من الضباط والسياسيين ورجال الأعمال والإعلام. أما التفاصيل فهي ما سيعرضه هذا التقرير تباعًا.
اقرأ/ي أيضًا: هل تعود روح الدكتاتور فرانكو الفاشية "المتدينة" إلى إسبانيا؟
في 27 آذار/مارس الماضي، كشف قاضي التحقيق فيما بات يعرف بقضية بيّاريخو عن معطيات جديدة تخص ملف التحقيق الذي يعود إلى سنة 2015، تثبت التهم على ضباط داخلية حكومة راخوي في نازلة سرقة هاتف محمول يعود إلى مساعدة رئيس حزب بوديموس بابلو إغليسياس، النائبة البرلمانية من أصول مغربية دينا بوسلهام، وتسريب المعطيات الخاصة فيه إلى الصحافة والتشهير بالنائبة المذكورة. هذه لم تكن إلا البداية، ففي الأيام التي تلت ذلك، أقر ضابط الشرطة المتقاعد، والمتهم الرئيسي في قضية التجسس، خوسي مانويل بيّاريخو بقيادته عملية تجسس استهدفت رأس الحزب اليساري بابلو إغليسياس، كانت نائبة رئيس الوزراء آن ذاك، صوريّا ساينز دي سانتاماريا، على علم بالتفاصيل الكاملة للقضية.
لم تقف شهادة الضابط المتقاعد عند هكذا حد، بل كشفت كذلك عن الصفقة التي قام بها موظفون في الداخلية الإسبانية مع عميل فنزويلي، بموجبها يتم منح العميل إقامة دائمة مقابل تسليم هذا الأخير لوثائق تحويلات مالية مفترضة من حكومة شافيز والمخابرات الكوبية إلى الرئيس بوديموس. الأمر الذي يتعلق بادعاءات لم تثبت، بل وثبت كذبها فيما بعد، بعد أن أثارت ضجة في مختلف وسائل الإعلام الناطقة باسم الجناح اليميني.
إذا لم يكن هناك تمويل أجنبي، فلنخلق واحدًا!
المكان نيويورك، والزمان نيسان/أبريل 2016، اجتمع المحقق خوسيه آنخل فوينتيس، عن الشرطة الإسبانية، بوزير المالية الفنزويلي إبان حكم هوغو شافيز، والغرض تجميع الأدلة المفترضة حول بوديموس لإثبات ادعاءات التمويل الأجنبي التي سبق ذكرها. الاجتماع الذي سرب كاملًا في تسجيل صوتي، يسمع فيه بوضوح صوت المحقق يصرخ: "نحن لا نهتم إذا ما كانت الوثائق حقيقية أم لا! ما يهمنا هو أن يصعب على بوديموس دحضها!".
المحقق فوينتيس والضابط المتقاعد بيّاريخو ليسوا إلا الشجرة التي تخفي الغابة، غابة من تنظيم متكامل داخل أجهزة الشرطة الإسبانية حسب ما أفادت به التحقيقات؛ ضباط برتب عليا وموظفون سامون داخل وزارة الداخلية يطلقون على أنفسهم "اللواء الوطني". مهمتهم ملاحقة وضرب سمعة كل المعارضين لحكومة حزب الشعب. كانت أول عملياتهم خلال سنة 2012 والأهداف كانت الأحزاب الانفصالية الكتالونية. هكذا سبق لهم وأن استهدفوا عمدة برشلونة، تشافي ترياس، على أساس حيازته أرصدة مالية ضخمة في البنوك السويسرية، اعتمادًا على بيانات جمعها وسربها التنظيم السري إلى الإعلام، الأمر الذي ثبت في الأخير كونه مفبركًا بشكل كامل.
بالمثل تمت ملاحقة بوديموس، بأشهر قليلة بعيد ميلاد الحزب، والذي مثل هدفًا مغريًا لعمليات اللواء المذكور، بالغة مداها بالتزامن مع دخوله المدوي حلبة التنافس السياسي بعد انتخابات 2015. عمل التنظيم السري على ترويج مجموعة من الشائعات بتواطؤ أصوات ومنصات إعلامية فاسدة، تربط تمويل بوديموس ببرونات تجارة المخدرات في أمريكا اللاتينية، بقيادات متمردي الـ FARC الكولومبي أو بحزب الله اللبناني. بل وحتى أنه في أحد تقارير التنظيم، والذى عثر عليه خلال عملية التحقيق، يقول بأن تشافيز المؤسس الحقيقي لحزب بوديموس.
دشنت سنة 2016 مرحلة "تكسير العظم" التي شنتها جماعة بيّاريخو على بوديموس، إبان تعثر راخوي في تشكيل حكومته وبداية الحديث عن تحالف لأحزاب اليسار الإسبانية. هكذا تم لأول مرة تسريب البيانات والصور الشخصية التي عثر عليها في الهاتف المسروق من مساعدة بابلو إغليسياس، متبوعًا باتهامات التمويل الأجنبي من طهران وفنزويلا، والتجسس على رئيس الحزب وتسريب رسائله الخصوصية إلى الإعلام.
الضلع الإعلامي للفضيحة
لم تكن مؤامرات تنظيم "اللواء الوطني" لتجد نجاحًا، لولا توفر ذلك الرابط الذي يلعبه الإعلام. هكذا كان لزامًا على التنظيم تشكيل ذراعه الإعلامي، طبعًا بصفقات مشبوهة، ما كانت لتتم لولا وجود شخص محوري اسمه إدواردو إندا، والذي لعب دور السمسار بين جماعة بيّاريخو والمنصات الإعلامية ورجال أعمال آخرين.
هذا الدور لم يكن جديدًا على إدواردو إندا، الذي سبق له وأن وصف بـ "دمية فلورينتينو بيريز"، في إشارة للعلاقة المشبوهة التي تربطه والرئيس الحالي لنادي ريال مدريد، ولمساهمته المحورية في الحملة الصحفية التي ضغطت وأطاحت بالرئيس السابق رامون كالديرون، حسب ما ذكرته عدة جرائد إسبانية. كما قاد إدواردو إندا حملة تشهير باللاعب الكتالوني جيرارد بيكيه، الشيء الذي دفع بيكيه إلى إعلان اعتزاله اللعب مع المنتخب الإسباني للكرة.
بهذا الكيف استفردت جريدة OK Diario، والمملوكة لإندا، بحصرية نشر ما أطلقت عليه اسم "فضائح بوديموس"، ذات الفضائح التي وجدت بياناتها في الوثائق التي ضبطت عند جماعة بيّاريخو. وهكذا لعبت جريدته دور المورد الأساسي لمادة هذه التسريبات في سوق المعلومة الإسباني، السلعة التي كانت رائجة بشكل دائم. في وقت يتضح فيه أن الوضعية كلها كانت معدة لإنجاح عملية التشويه، وما كان ينقص سوى رجل العلاقات العامة والسمسرة، وهذا ما شغله إدواردو إندا.
اقرأ/ي أيضًا: هل تحكم الشعبوية المجتمع الغربي؟
إلى من توجه أصابع الاتهام؟
كان الغرض الأساسي من عمليات جماعة بيّاريخو واضحًا: ضرب شعبية بوديموس لإجهاض أي تحالف (محتمل آنذاك) بينه وبين الحزب الاشتراكي. هذا الغرض الذي يصب مباشرة في مصلحة اليمين الذي يقوده حزب الشعب. لكن، هل يمكن ببساطة توجيه التهم المباشرة إلى حزب رئيس الحكومة السابق ماريانو راخوي؟ يتساءل تحقيق جاكوبين.
ليست جماعة بياريخو إلا جزءًا منكشفًا من أخطبوط الفساد الذي ينخر جسد إسبانيا، والذي يكشف أكثر كون هذا الفساد بنيويًا، أي أن المنظومة كاملة قبلة لتوليده
مجيبًا: بدورها ليست جماعة بياريخو إلا جزءًا منكشفًا من أخطبوط الفساد الذي ينخر جسد إسبانيا، والذي يكشف أكثر كون هذا الفساد بنيويًا، أي أن المنظومة كاملة قبلة لتوليده. فرغم كشف التحقيقات القضائية أن جرائم التجسس والابتزاز والتشهير هذه كلها كانت تجري تحت علم حكومة راخوي، والتي استعملت كل قواها لحماية المجرمين، لكن في نفس الوقت لا يمكن أن يتم تحميله هو وحده المسؤولية الأخلاقية. بيد أن ملابسات القضية تبين التفاف الأوليغارشية الإسبانية ورجال الأعمال، وضباط الشرطة والصحفيين والسياسيين على هدف واحد هو: "إعدام بوديموس"؛ الحزب الذي ترى فيه النخبة خطرًا كبيرًا عليها، كما يصرح دافيد خيمينيز، محرر سابق في جريدة الموندو الإسبانية.
اقرأ/ي أيضًا: