هناك أفلام يجد الواحد نفسه مضطرًا للكتابة عنها، ليس لجودة صناعتها أو لأصالة موضوعها أو لفرادة تناولها أو لبلوغها مستوى عال من الإتقان الفني، لكن للضجة التي تحدثها، أو يتسبّب فيها اختيار تتويجها في محفل عالمي بارز. "يوم أضعت ظلّي" للسورية سؤدد كعدان من هذا النوع الأخير، إذ تُوِّج بجائزة أسد المستقبل لأفضل عمل أول بمهرجان فينيسيا السينمائي في دورته الـ75، فاتحًا الباب أمام تفحّصه من أجل الوقوف على ما يميّزه دونًا عن بقية الأفلام الأولى، في زمن لم تعد الجوائز دليلًا على تميُّز الأفلام بالضرورة.
الثورة السورية أطلقت موجة من الأفلام مثّلت تيمة الحرب وصراع العيش تحت ظلالها موضوعًا لها
الثورة السورية، التي تحولت لأسباب كثيرة ومتشعبة إلى الحرب السورية، أطلقت موجة من الأفلام مثّلت تيمة الحرب وصراع العيش تحت ظلالها موضوعًا لها، حيث يحضر الواقع السوري ومعاناة السوريين، بصورة تختلف حسب رؤية صانعي هذه الأفلام وما يتبنونه من مواقف أخلاقية وسياسية وإنسانية من التراجيديا الأكثر كارثية في زمننا الراهن.
اقرأ/ي أيضًا: "يوم أضعت ظلّي".. عرض موت الأمل السوري في مهرجان البندقية
لكن كيف تُخبَر الحرب على الشاشة؟ وهل من الممكن ابتكار صيغة بصرية أو اقتراح أدبي لبيان أثر الحرب على البشر العاديين؟ سؤدد كعدان توقفت طويلًا أمام هذه الأسئلة بحثًا عن إجابات. حاولت الإمساك بالإجابات في فيلم قصير بعنوان "خبز الحصار" (2016) يتابع لقاء بين فتاة تعمل كمهرّبة للخبز والهواتف المحمولة وجندي هارب من الحرب السورية بعدما قتل صديقًا له أثناء تمارين إطلاق النار على الأشجار، يلتقيان في غابة يبدو بألا مفر للخروج منها. تلاه وثائقي قصير بعنوان "عتمة" عن طفل صغير لا يريد أن يتذكر أنه سوري. ومن قبل ذلك، للمخرجة شريط وثائقي بعنوان "سقف دمشق وحكايات الجنة"، من إنتاج قناة الجزيرة الوثائقية، استعادت فيه بعض أساطير المدينة العتيقة بلسان أهلها بعدما تشوّهت شوارع وأحياء دمشق القديمة وأصبحت الحكايات بلا أمكنة.
إذًا نحن أمام سينمائية تبني شيئًا وتستقصيه فيلمًا وراء فيلم. ذاكرة هاربة، مستقبل لا يمكن تخيّله، وحرب مقيمة. ثمة أفكار للبناء عليها والخروج بافتراحات بصرية لافتة، إذا ما وجدت اليد المثلى لتطويعها وتشكيلها. لكن بعد ذلك، شعرت كعدان، كما تقول في حوار صحفي، أن السينما ليست قادرة على التعبير عن بشاعة الحرب، وهنا بدأت بالاطلاع على أرشيف صور حروب العالم، حتى وقعت على صور التقطت في هيروشيما في اليوم التالي لحادثة إلقاء القنبلة الذرية والتي تظهر فيها المدينة مدمرة ولا شيء فيها سوى الظلال، وهي ما أوحى لها بفكرة الفيلم الجديد. "أحسست بخوف كبير على سوريا وفي الوقت ذاته تشكّلت لدي قناعة بأننا قد نبقى أحياء أثناء الحرب لكننا سنفقد ظلالنا بكل تأكيد، وبدأت حينها بكتابة السيناريو".، تقول كعدان.
ببساطة ودون الدخول في تفاصيلها، قصة "يوم أضعت ظلّي" تبدأ مع الأيام الأولى لعام 2012، حيث شهدت سوريا حينها الشتاء الأكثر بردًا. في دمشق، تضطر سناء (سوسن أرشيد)، أم شابة تعمل صيدلانية وترعى ابنها الصغير بعد سفر زوجها للعمل في السعودية، إلى عدم الذهاب للعمل بحثًا عن أسطوانة غاز للطهي وتدفئة المنزل، بعد انقطاع المياه والكهرباء. وأثناء بحثها، الذي سيأخذ منحى سورياليًا مفاجئًا، تلتقي أناسًا فقدوا ظلالهم، وتصطدم بقبور في الحدائق، وتمرّ بين أشجار زيتون محترقة.
الرحلة من نقطة طبيعية وواقعية وعادية ويومية إلى نقطة أخرى فوق واقعية ولا إنسانية، عبر المرور بمسار حافل بموت وحصار وصراعات.. هي الأساس البنائي الذي يقوم عليه الفيلم في سبيل سعيه لإطلاق رسالة عالمية التوجُّه -لا شك في صدق نواياها رغم حياد صاحبتها- حول الوضع السوري، وما يمرّ به السوريون خلال سنوات الحرب في سعيهم تأمين متطلبات حياتهم اليومية. لكن مشكلة "يوم فقدتُ ظلّي" الأكبر هي اتكاله الزائد على استعارته الأساسية، أي فقدان الناس لظلالهم وقت الحرب تعبيرًا عن فقدان ما يميّزهم كبشر. هذه فكرة تصلح لإنجاز فيلم روائي قصير جيد، أو مقالة صحفية تستفيد من الفلسفة والميتافيزيقا في رصد الاجتماعي وربطه بالسياسي. لكن مطّها وشدّها ورفدها باستيلادات درامية غير مقنعة في فيلم يخلو من الأداءات التمثيلية الجيدة وصورة جميلة لا تقول شيئًا جديدًا، هو ما يجعل الفيلم محبطًا للغاية.
تقديم صورة الأشخاص العاديين في نضالهم اليومي للعيش والبحث عن ضرورات الحياة في حدّها الأدني، في خضم السنة الأولى من الثورة السورية.. اختيار ذكي من الفيلم كان يمكن التأسيس عليه للإيغال بنفس الهدوء والإقناع في مسارات لاحقة حاول عرضها بشكل إخباري، لم تفلح محاولات كاميرا المصوّر الفرنسي إريك دوفان إضفاء الشاعرية والحسّ الكوني عليها في إخفاء مجانيتها وتهافت منطقها. الحياة في خضم ألم العيش وخطر الموت، حيث المستقبل غائم وغير مؤكد. الهواجس والمخاوف والحالات النفسية المعقدة والمعاناة الشخصية لمن يختبرون الحرب، تحتاج ما هو أكثر من ظلّ يختفي، ونغمات كلارينيت يؤديها كنان العظمة، وحنين بائس لأيام الثورة الأولى، والعمل بصورة جادة لإبراز الرؤية الإنسانية لصانع الفيلم بدلًا من لفظها كلاميًا أو إلقاءها في وجه المتفرج بتتابع مَشاهد مُملّ ومتوقَّع، كما يليق بفيلم منجَز بمقاسات الصواب السياسي.
مشكلة "يوم فقدتُ ظلّي" هي اتكاله الزائد على استعارته الأساسية، أي فقدان الناس لظلالهم وقت الحرب تعبيرًا عن فقدان ما يميّزهم كبشر
في تصريحٍ للمخرجة عقب عرض فيلمها في فينيسيا، قالت إنها أرادت أن يعكس فيلمها "مجتمعي الذي أعيش فيه"، ولكن ذلك لا يعني أبدًا تدبيج الفيلم بما يشبه اسكتشات ريبورتاجية للتنقل من دمشق إلى دوما ومنها إلى الغوطة ثم العودة إلى دمشق من جديد، ودفع حبكة الفيلم بالقوة للحصول على فائض زمني لعرض المزيد من "المجتمع الذي أعيش فيه" دون تبريرات درامية أو أي جهد في سبك السيناريو. الغريب أن تلك النتيجة تأتي بعد سبعة أعوام كاملة عملت فيهم كعدان على فيلمها، ومع ضرورة الإشارة إلى كافة الصعوبات التمويلية والتنفيذية التي غالبًا ما واجهت إنجاز الفيلم، إلا أن التساؤل يبقى مطروحًا وصالحًا: كيف خرج السيناريو والتمثيل على هذا القدر من السوء والسذاجة؟
اقرأ/ي أيضًا: الفيلم الدنماركي "مهربو البشر": وكالة سفر أم سوق نخاسة؟
أخيرًا، فقد شاهدتُ فيلم كعدان ضمن فعاليات الدورة الثانية من مهرجان الجونة السينمائي، حيث عُرض أيضًا فيلم "حرب باردة" للمخرج البولندي الحائز على جائزة الأوسكار بافل بافليكوفسكي، وهو مختلف كثيرًا في موضوعه ومشاكله الفنية عن الفيلم السوري، لكنه يحمل بداخله إيجازًا بليغًا غير مقصود يلخّص حال فيلمنا. يحكي الفيلم البولندي عن علاقة حب مستحيلة تدور في بولندا الستالينية بين مؤلف موسيقي ومغنية شابة، لكن طموح الفنان أوصله إلى باريس والعيش في المنفى والزواج بشاعرة باريسية تغار منها الفتاة البولندية. بدافع الغيرة، تقول البولندية للباريسية إنها لا تحسّ بشعرها ولا تفهمه، فتردّ الشاعرة: "إنها ميتافور". في مشهد لاحق، تقف البولندية تتلوى في الحمام، وتردّدُ بسخرية: "ميتافور!".
اقرأ/ي أيضًا: