لم يكن يومًا عاديًا ككل الأيام، كان صوت الموت قريبًا وقويًا. أقوى من صوت ديك العم سالم. هذا الصباح لم يكن صياحه صادحًا كالعادة. السماء تتوسطها سحب تنذر بأن عاصفة عاتية تحوّم في الأفق. الكلاب كانت تعوي مهتاجة، والأرض ترتعش وكأنما زلزال سيضرب هذه القرية الصغيرة. الكون لوحة مبعثرة. في هذا الصباح المخيف. استيقظت القرية على خبر رهيب: ماتت عيشوشة العجوز، المئوية العجيبة التي تزورها بنات القرية لتكتب لهن الرقيات الشرعية وتعد لهن السحر الذي يجلب المحبوب ويستعجل الأولاد ويديم السعادة. ولو كانت علمت مسبقًا بقدوم هذا اليوم لربما كانت احتاطت وصنعت لنفسها سحرًا يقيها هذا المصاب. حلومة اللعوب ماتت أيضًا، حلومة التي عرفت بجسدها المثير والتي حيكت حولها الشائعات، وتفننت في تذكر عربدتها الليلية في القرية الصغيرة، والتي تقربت منها البنات طمعًا بنصائحها وخبرتها بعالم الرجال، ولعنتها نساء القرية المتزوجات حسدًا وغيرة واشترين ودها حتى لا تغرر برجالهن. ماتت سماح كذلك، خبّازة القرية التي أمضت عمرها ترعى أخواتها الخمس. وقيل إن شيماء ماتت أيضًا وماتت معها أمها وأختها حسناء. وماتت هدى ذات العيون الزرق والسحنة الأوروبية، وماتت علياء ومنى ورقية وندى.
لقد متن كلهن في هذا الصباح المفجع. كل نساء القرية متن دفعة واحدة. لم يصدق الرجال الخبر في بادئ اﻷمر. كان هول المصيبة كبيرًا عليهم. هاجوا وماجوا وتخبطوا كدجاجات في بركة ماء، تناثر لعابهم وعلت أصواتهم وتبعثرت ثيابهم. امتدت أيديهم لتلتقي، وتشابكت أجسامهم وهم يسمعون صوت المؤذن يصدح: الله أكبر. ويدعوهم إلى صلاة الجنازة. اصطفوا وصلى أغلبهم دون وضوء، وشهق البعض بالبكاء. صاح العم سالم صاحب الديك في صلاته: إننا بلا نساء، بلا وطن، بلا مأوى، بلا حياة. ماذا فعلنا أيها الرب لنعاقب هكذا؟ ألسنا من عبادك الصالحين؟ ثم قطع صلاته راكضًا بلا وجهة مرددًا: ماذا فعلت أيها الرب؟
لم يلبث أن تبعه بعض رجال القرية. قوطعت الصلاة وارتبك الجمع. صاح طفل صغير بصوت عال: جعت! أريد أن آكل. صرخ أبيه في وجهه: أسكت. وأكمل لغوه مع باقي الرجال. تساءل الأطفال الكبار: لماذا ماتت النساء؟ حكمة الرب. حاول الشيخ أن يهدئ من روع الرعية. وباشر بخطبته، ثم تذكر أمه وزوجته فهوى أرضا ولسانه يلهج بالاستغفار. انقسم الرجال إلى فريقين: فريق يجمع الجثث وآخر يحفر القبور. مع حلول المساء كانت النساء تحت التراب والرجال في المقبرة يحاولون تخيل ما ستؤول إليه مصائرهم.
لم يكن يومًا عاديًا ككل الأيام، كان صوت الموت قريبًا وقويًا. أقوى من صوت ديك العم سالم. هذا الصباح لم يكن صياحه صادحا كالعادة. السماء تتوسطها سحب تنذر بأن عاصفة عاتية تحوّم في الأفق. يتساءل العم سالم في سره، وعيناه تملأها دموع الحزن والحسرة، ماذا لو نزعت عيشوشة سحرها ورمت كل كتبها بعيدًا، واكتفت بقدرها وأعشابها داخل كوخها البارد، أكانت ستظل ملاذًا لنساء القرية، أكن سيبقين على قيد الحياة، ربما! من يدري؟ وماذا لو غضت حلومة بصرها عن أجساد الرجال، واكتفت بفريد الكسول، أو أن منى وحنان والأخريات لم يتلهفن للإنجاب، وماذا لو قمت بذبح الديك؟ ليكن الرب بعوننا.
رغم الحزن المخيم على القرية، بل وربما بسببه، كان يمكن سماع أصوات صادحة في البعيد، أصوات لا يغمرها الحزن: كانت النساء مجتمعات حول طاولة كبيرة وقد نشرن عليها صحونا من كل ما لذ وطاب. ووسط هذا الضجيج اللاهي كان يمكن لأي كان أن يسمع صوت حلومة وهي تحذر عيشوشة وسط ضحك صاخب: "ما تكوني غلطتي وعملتيلنا سحر بأكلك وفكرتينا رجال".
اقرأ/ي أيضًا: