20-يوليو-2016

من مشاهد الدمار الناتج عن القصف الإسرائيلي للضاحية الجنوبية لبيروت أثناء حرب تموز 2006 (Getty)

في هذا التحقيق أربع وجهات نظر من أربع مناطق لبنانية أثناء حرب تموز 2006. هذه شهادات من هؤلاء الذين ما زالوا يُعانون من الاكتئاب بسبب الـ 33 يوم من القصف المتواصل والـ "مفاجئات الكبرى".

اليوم أقف ضد الحرب أينما كانت وهذا هو ما يمكنني الكلام عنه اليوم وبعد عشر سنوات من حرب تموز، أيا كانت أسباب بداية الحرب ومن انتصر فيها

بيروت - الضاحية الجنوبية والانتقال إلى العاصمة

بقينا في الشياح، المنطقة الحامية للعزّل بإطار حركة أفواج المقاومة الوطنية اللبنانية (أمل). ومن يسمع بالأفواج يتهيأ له كتائبًا مدربة قادرة أن تدهش العالم بتكتيكاتها العسكرية. ومن يبحث في الأفواج ويُعاشرهم يعلم أنهم عُزَّل أيضًا. ينهض أحد الأشخاص البلهاء في الشيّاح من النوم ليسمع صوت طائرة الإستطلاع الإسرائيلية (MK) التي كان يُسميها "إم كامل"، يصعد إلى الطابق السابع من مبنى ملحمة كسّاب في شارع "أسعد الأسعد" في منطقة الشياح على مداخل الضاحية الجنوبية في بيروت، وبكل فخر يرفع الرشاش الروسي الـ AK47، ويُفرغ 30 رصاصة في الهواء ولا يُصيب الطائرة.

بعد 10 دقائق كان "أبو حسين اللقيس" الأبله قد بدأ بالتهام سندويش الطاووق الذي كان قد طلبه من جاره الذي يعمل في ملحمة كسّاب. وأثناء اختناقه من مرورة الثوم الملصوق بالسندويش، كان قد أصبح هو وسكان المبنى نفسه في عداد الأموات بعدما قامت طائرة الاستطلاع نفسها بتسجيل موقع اطلاق النار وارسال طائرة حربية لتقوم بقصف المبنى بأكمله. كيف كانت تجربتي؟ بكل برودة قلب.. "سيئة". سيئة حين تكون لا تعلم إلى أين تهرب. هرعنا لتجديد جوازات السفر. اعتقدنا أن الهجرة إلى كندا قد حان وقتها. كان الحال والخيار بين أن نبقى نتأمل جسر الكولا في بيروت منتظرين أن يُقصف أو أن نركض لنتلقط بأول سفينة تتجه إلى أوروبا. الخيار بين الحرب والهجرة هو ببساطة موقف غير إنساني، لا يليق بأحد.

أنا اليوم أقف ضد الحرب أينما كانت وهذا هو ما يمكنني الكلام عنه اليوم وبعد عشر سنوات من حرب تموز. لا تهمني أسباب بداية الحرب ومن انتصر فيها بل ما يهمني هو الاستهتار بالإنسان خلال حرب تموز والاستهتار بالإنسان بعد عشر سنوات وفي المنطقة نفسها.

لم أكن كذلك منذ عشر سنوات، بل على العكس كنت من محبي الحرب. كنت أجد في الحرب مكانًا ضيقًا وصغيرًا تحت الأرض، يجتمع بداخله كل سكان المبنى ويتقاسمون كل شيء من أجل الحياة. لكن بعد الهدوء اكتشفت أننا لا نستحق هذه الحياة. لا نستحق أن نجعل كل مفهوم سعادتنا مبنيًا على البقاء على قيد الحياة والنجاة من الموت.

اقرأ/ي أيضًا: أمريكا والانقلاب الأخير في تركيا

جبل لبنان… نحن باقون… نحن بأمان

تروي الطالبة في الجامعة الأميركية في بيروت "برِيسيكا الشعّار" تجربتها خلال حرب تموز، كونها من سكان جبل لبنان التي عُرفت خلال الحرب كالمنطقة الأكثر أمانًا والأبعد عن القصف الإسرائيلي على الأراضي اللبنانية.

"كنّا نسمع صدى صوت القصف من الضاحية الجنوبية، ثم نُشاهد النيران تتراقص مع دخان المتفجرّات، كفيلم سينمائي حيّ. صوت وصورة وبلا ضرر. الحرب هي طبعًا أسوأ تجربة يمكن أن يعيشها الإنسان، لكن أيضاً الحرب النفسية مؤثرة جداً. كنّا عبارة عن مشاهدين للحرب أكثر من متضررين من الحرب.

المعاناة التي كنّا نمر بها هي كثافة الطلب على الموّاد الغذائية والمواد الأولية، بالإضافة إلى احتكار الكثير من التجّار بما يمكنهم استحواذه من إعاشات وإعانات غذائية دولية وبيعها. كنّا لا نخرج من البيت، نضع منظار "التلسكوب"، نُراقب الضاحية الجنوبية التي تحترق، نُخفي المنظار كلما سمعنا صوت الطائرة الاستطلاعية، وكانت أسعد إشاعة سمعتها في الحرب هي أن تلك الحرب بدأت صيفاً ولن تنتهي قبل الشتاء فلن نضطر للذهاب إلى المدرسة".

وتُضيف برِسيكا بأنها لا تشعر بالانتماء إلى أي اتجاه يشجع الحرب، ورغم أن المجتمع الجبلي في لبنان لم يكن راضيًا بخطوة حزب الله بخطف الجنديين الإسرائيليين، وهو السبب الرئيسي للحرب، بل كان هذا المجتمع متقبلًا بأن يكون حزب الله الجيش الرئيسي من الطرف اللبناني بمواجهة إسرائيل. لكن كما تعتقد برِسيكا بأن هذا المجتمع نفسه لا يتقبل أي نوع من التدخل اللبناني في أي حرب.

رغم انتماء برِسيكا لخط السلم الدائم والسلام العالمي، تعتبر برِسيكا أن الجمعيات المناهضة للحروب هي إلى حدٍ ما مشاركة فيها. كل شيء يعزز وجود الحرب حين يكون مكبرًا لصوت الانفجارات. "الحرب تنتهي بانتهاء سيرتها". وتُنهي برِسيكا الحديث بـ "لا أنتمي إلى أي طرفٍ سياسي، إن كان مسمى بمحتل وإن كان مُسمى بمقاوم، أنا لا أؤمن بالسياسة الحالية".

الفرق بين عنصرية اللبنانيين تجاه اللاجئين السوريين حاليًا بمقابل استقبال السوريين للبنانيين كنازحين خلال الحرب هو موضوع قد استنزف من النقاش

من الجنوب إلى بيروت ثم إلى جبل لبنان

تروي الصحافية "يارا نحلة" تجربتها كأحد الشاهدين على أشد المناطق اللبنانية تضررًا من الحرب. إذ كانت يارا تعيش في منطقة النبطية في الجنوب اللبناني حين إندلعت الحرب.

"بقينا في الجنوب 11 يومًا فقط، ثم بعد اقتراب المعارك قرب المناطق المجاورة، هربنا مع خالي بسيارته الـ BMW باتجاه "جزين" وهي قرية تتبع لقضاء صيدا جنوبي لبنان. ومن بعدها اتجهنا صوب بيروت، واستغرقتنا الرحلة حوالي الستة ساعات من القيادة المتواصلة. لم يكن لدينا أحداً نتصل به أو أي عائلة تستقبلنا أو نزورها، فقررنا الإنتقال إلى منطقة النقاش (على الطريق الشمالية من بيروت). ووجدنا صدفةً أن أحد الأقارب يسكن في تلك المنطقة فاستقبلنا في هذا المنزل واستقرينا في غرفنا حتى غادر بعد حين قريبنا وسافر إلى مصر.

كان لدينا شقة بأكملها لنا ولكن النزوح ليس أفضل تعريف يمكن الإنسان أن يحمله. أسوأ تجربة هي مغادرة بيت العائلة بسبب الحرب، وأن يكون المرأ بحالة قلق دائم وفكرة أن يكون هذا الإنسان مشاهداً لنشرات أخبار تنقل أخبار عاجلة عن منزل الطفولة الذي ينقصف، وكل ذلك ووالدي كان خارج البلاد، مما زاد القلق والخوف في العائلة.

وتُضيف "يارا" بأنها كانت وما زالت وستزال تكره الحرب مهما كان سببها وتكره أيضًا كل من يُشارك بأي حرب. ورغم تغير يارا بعد عشر سنوات من الحرب، لكن تظهر تلك الأخيرة بسلبية الفكرة نفسها التي تخطر ببالها كل يوم: "لن يكون الجنوب منطقة متمكنة أمنيًا وإجتماعيًا".

يارا تكتفي اليوم بالحصول على السلم الداخلي بأن تكتب عن مأساة الحروب وما يمكن أن تولده من سيئات في هذا العالم.

اقرأ/ي أيضًا: الجدول الزمني لصعود وهبوط الانقلاب في تركيا

من سوريا إلى الجنوب اللبناني ثم إلى سوريا

"عبدالرحمن"، الحارس السوري الذي تعرفت عليه بعد ذكرى حرب تموز، في مدينة صور في الجنوب اللبناني، كان ما يُمكن تصنيفه بـ "اللقطة السينمائية الأفضل" في هذا التحقيق.

يروي "عبدالرحمن" عن تجربته خلال حرب تموز حين كان حارسًا لمنزل أحد أصحاب الأموال الضخمة الذين عملوا في افريقيا طيلة التسعينيات في سوق النفط والمواد الأولية. وكانوا هؤلاء يُسمون بـ "شيعة أفريقيا" بدلالة إلى الطبقة "البرجوازية" التي كانوا ينتمون إليها.

"كانت الليلة التي انقلبت فيها الأدوار. للمرة الأولى كان محمد، الرجل الذي كنت أعمل معه كحارس ومساعد شخصي هو الذي يقود السيارة مسرعًا وأنا أعطيه التعليمات عن كيفية الهروب بدون أن تصورنا الطائرة الإستطلاعية التي تُرافقنا على الطريق السريع باتجاه العاصمة بيروت، لنتجه بعدها نحو الحدود اللبنانية-السورية. أتتنا مصادفة سعيدة حين وصلنا إلى حاجز المصنع على الحدود، كان أخي الضابط المسؤول عن تحكم الجوازات، ما ساعدنا بتخطي طابور بطول 3 أو 4 كيلومترات من المنتظرين العبور إلى الأراضي السورية.

وبعدها أوصلت العائلة المؤلفة من: الحج محمد وزوجته وإبنه مصطفى، إلى منزلي الكائن في الشام وكانوا من الشاكرين والمحترمين بالتعامل المتبادل وتعايشنا كأسرة سعيدة لأكثر من 25 يوم. لكن المؤسف أن تلك العائلة تخلت عنّي حين نزحت من الشام إلى بيروت عام 2013. وحين دققت باب عائلتي في صور، أعطوني فنجانًا من القهوة لي ولزوجتي وقالوا أنهم لن يتمكنوا من استقبالي "لأسبابٍ خاصة".

في الإضاءة على موضوع استقبال السوريين للنازحين اللبنانيين خلال حرب تموز 2006. أعتقد أن موضوع الفرق بين عنصرية اللبنانيين تجاه اللاجئين السوريين حاليًا بمقابل استقبال السوريين للبنانيين كنازحين خلال الحرب هو موضوع قد استنزف من النقاش والمتابعة والطرح. ولكن ما هو الأوضح بعد 10 سنوات؟ أننا ما زلنا شعبٌ كئيب، يعرف الحرب لكن لا يعلم ببدايتها ولا يشعر ببرودة آخرها.

اقرأ/ي أيضًا: 

الإثارة الانقلابية التركية