يتمتع الممثل الأمريكي جاك نيكلسون (نيوجيرسي1937) بكاريزما شديدة القوة، جعلت من حضوره كفيلًا بمنح أي فيلم طاقة متجددة تدفع المشاهد للمتابعة دون ملل، منجذبًا ومأخوذًا بقوة ملامحه وإيقاعه الحركي والانفعالي الخاص المثير للدهشة.
ضحكة مجلجلة، ملامح قاسية حد الشر، وانفعالات غرائبية حد الإضحاك؛ جعلت منه ممثلًا يبرع بالكوميديا والدراما بالقوة والدرجة نفسها، ومدت مسيرته الفنية، الممتدة حتى 60 عامًا بعشرات الأفلام الأيقونية في هوليوود، وبعشرات الجوائز المرموقة في مجال السينما، ثلاثة منها أوسكار افضل ممثل، فضلًا عن أكثر عدد ترشيحات للجائزة في تاريخ الأكاديمية لممثل ذكر، بــ12 ترشيحًا.
يستحوذ نيكلسون على الشخصية المكتوبة، ويجبرها على التماهي معه، لذلك عد أداؤه أنموذجًا أساسيًا في مدرسة الأداء التمثيلي المسماة "أنا في هذا الظرف" والتي يتبناها كثر من أساطين التمثيل في العالم أمثال آل باتشينو، ولورانس أولفييه. إذا يعتبر المشتغلون على هذه المدرسة، وعلى رأسهم جاك نيكلسون، أن الشخصية ليست حيزًا عاطفيًا مستقلًا عن الممثل، بل الممثل هو الشخصية، وليس عليه سوى أن يضع نفسه في ظروف الشخصية المكتوبة، ثم يعمل على ملأ ماضيها، بماضيه هو، واستعارة مواقف انفعالية في حياته، وتوظيفها في السياق الانفعالي للشخصية خلال حدوث الحكاية، وهي حيلة فلسفية في منهج الأداء التمثيلي، يعول فيها الممثل على عالمه الداخلي، في مقابل العالم الداخلي للشخصية، وإحداث تقاطعات انفعالية فيما بينهما، وهذا النهج، برع في نمذجته جاك نيكلسون بصورة أخاذة، عززت من الكاريزما التي يمتلكها اصلًا، وجعلت كل الشخصيات التي لعبها، وكأنها منحوتة على مقاسه بالضبط. ندعوكم هنا إلى جولة في 5 من أهم أفلام جاك نيكلسون، التي جعلته واحدًا من أعظم ممثلي هوليوود وأكثرهم حضورًا وفرادة.
1- الحي الصيني
أنتج الفيلم عام 1974، وهو من إخراج رومان بولانسكي. رأى النقاد أن أداء جاك نيكلسون في هذا الفيلم، يعد نقلة نوعية حقيقية، في مسيرته كممثل، وأن نكيلسون الممثل قبل الحي الصيني شيء وبعده سوف يكون شيئًا آخر.
ساهم أداء نيكلسون الهادئ والمنساب بسلاسة، إلى تحرير الكثير من عقد الفيلم ذي الحبكة المتشابكة، فحبكته أشبه ما تكون بلعبة "الماتروشكا" الروسية كلما فتحت صندوقًا قادك إلى صندوق آخر، إذ بدأت الحكاية بزوجة ناقمة تلجأ إلى المحقق غيتز، المختص بالتحري وراء الخيانات الزوجية، لتكشف خيانة زوجها، المهندس ذائع الصيت، هوليس مولري، ليجد غيتز نفسه، مع تقدم التحقيق أنه وسط شبكة شديدة التشابك، لكبار الرجال النافذين المتورطين بقضايا فساد، مرتبطة بأزمة توريد المياه إلى لوس أنجلس، وتزوير مواصفات، والتضيقق على حصص المواطنين من المياه، للكسب الشخصي، يتورط المحقق إلى حد بعيد في هذا التحقيق، الذي ينطوي بعد ذلك على الكثير من العاطفة والدراما والتشويق.
الفيلم رشح لعشر جوائز أوسكار، ونال واحدة منها عن أفضل سيناريو أصلي. وبالطبع رشح نيكلسون لجائزة أفضل ممثل إلى جانب ترشيح للمخرج الكبير رومان بولانسكي في الإخراج.
2- أحدهم طار فوق عشش الواق واق
يروي الفيلم المأخوذ عن رواية بالاسم نفسه قصة ماكمفري، المجرم المتهم باغتصاب فتاة قاصر عمرها 15 عام، يدعي خلال جلسة النطق بالحكم الجنون، ويطالب بإحالته لمستشفى الأمراض العقلية لتقييم حالته.
ينتقل إلى هناك، وتجدر الإشارة أن عبقرية أداء جاك نيكلسون في الفيلم كانت في إحداث ذلك التطور البطيء المتدرج للشخصية، المنطوي على أداء مسرحي فخم في كثير من جوانبه، دون الغرق في مسرحة الشخصية، فماكمفري يتورط شيئًا فشيئًا في عالم المرضى النفسيين، وينتقل من السخرية الحادة والتنمر، إلى قيادة مجموعة المرضى النفسيين ليصبح ملهمهم ونجمهم، إلى أن ينحرف إلى سلوكهم المروض وتأخذ شخصيته الزاخرة بالحيوية بالذبول، أعظم ما فعله أداء نيكلسون، هو في رسم شخصية مكتملة الملامح صارخة، حادة الطباع واضحة بشدة، منذ المشهد الأول، لكنه أخذ بتحطيم مواصفاتها وسلوكها بالتدريج، فالأداء بدا عكسيًا تمامًا في إظهاره للشخصية بصورة شديدة الوضوح، ثم محوها ببطء خلال زمن الفيلم. الفيلم حصد خمس جوائز أوسكار، واحدة منها هي أوسكار افضل ممثل ذهبت لنيكلسون، تلقى الفيلم إشادات كبيرة من النقاد، وعده البعض فيلمًا خالدًا خلود فيلم العراب.
3- البريق
فيلم مشحون بالرعب والغرائبية، والإيقاع المهيب، قدم فيه نكيلسون أداء اقترب فيه من معالجة الشخصية المضطربة، بكل عوالمها النفسية المتسمة بالتردد والهشاشة تجاه الضغط، وابتعد فيه عن قوالب الأداء المعتادة في أفلام الرعب، والتي عادة ما تحصر الممثل في حلقات من التشويق الحابس للأنفاس، فبالإضافة لتميز نيكلسون بالأداء، عمل ستانلي كوبريك، مخرج الفيلم وكاتب السيناريو، إلى خلق محفزات للرعب والتشويق في بيئة زمانية ومكانية تمثل تحديًا لاستمرار تلك المحفزات بعلمها ببث الرعب وخلق التشويق، بيئة غارقة في الثلج، وفندق، إضافة إلى عدد محدود من الشخصيات، والرهان كان على توظيف عناصر محدودة في عالم شخصية تنتقل إلى حالة من الاضطراب النفسي غير الملحوظ، وصولًا إلى الانجراف الكامل وبدء المطاردات.
قصة الفيلم تدور حول كاتب روائي، جاك تورانس، الذي ينتقل بعائلته المكونة من زوجته وطفله الصغير لتسلم عمله الجديد كحارس لفندق في فترة الشتاء خلال أغلاق الفندق، يجد الكاتب أن هذه الوظيفة سوف تمكنه من إنهاء العمل على روايته، ورغم تردده في البداية، بسبب علمه بوجود جريمة حدثت سابقة في هذا الفندق، عندما أقدم موظف على قتل زوجته وابنتيه، إلا أنه تجاهل هذا ومضى في تسلم الوظيفة، لتبدأ أحداث الجريمة تلاحقه، وتعيد إنتاج نفسها عبر شخصيته.
لم يحظ الفيلم في البداية بإشادة النقاد، بل قوبل بنقد شديد، خصوصًا أداء الممثلة شيللي دوفال التي وصف بالانفعالي الزائد والمبالغ فيه، لكن بعد مرور السنوات، أخذ هذا الفيلم باحتلال مواقع متقدمة في مواقع الأفلام من جمعية النقاد السينمائيين، واحتفظت مكتبة الكونغرس بنسخة منه في أروقتها.
4- ساعي البريد يدق الباب مرتين
الفيلم مقتبس عن رواية تحمل الاسم نفسه للروائي جميس ام كاين، من ضمن أفضل 100 رواية وفق تصنيفات المكتبة الحديثة، اقتبست هذه الرواية عشرات المرات، كمسرحيات وافلام وأوبرا، إلا النسخة التي قام بتقديمها جاك نيكلسون، تنتمي إلى ما يعرف بالسينما المظلمة.
الفيلم كان حريصًا على تصدير قوة الرواية، ولم يخف إعجابه بطاقتها السردية، وبالطريقة التأملية في صناعة أبطالها، فطغت الأسلوبية السردية على اللغة السينمائية، كما أشار بعض النقاد، ورغم ذلك يعد الفيلم واحدًا من اكثر الأفلام أهمية لناحية أسلوبية السينما المظلمة، بسبب الاستعارات الملحمية لسلوك الشخصيات، والطريقة المختلفة في معالجة موضوعة الإثارة والحب، وخلق تشابك فلسفي بينهما، تدور أحداث القصة حول رجل يدعي فرانك، غارق في الاكتئاب يقف على تلة بعيدة تشرف على مطعم صغير، يقرر تناول وجبة هناك، فينتهي به الحال، عاملًا في المطعم، يقع فرانك في حب زوجة صاحبة المطعم كورا، وتشتعل الإثارة بينهما، وتدخل مع فرانك بعالم صاخب بالإثارة والسادية والجنس المتطرف، يقرر العاشقان قتل زوج كورا الذي يكبرها بسنوات، يحاولان في أكثر من مرة، ويتدخل القدر دائمًا ويفشل الخطة، تثير حوادث إصابة الزوج المتكررة انتباه الشرطة ويبدأون التحقيق في ضلوع كل من الزوجة والعامل بهذه الحوادث المريبة، فيحدث هذا التحقيق والملاحقة الشقاق بين العاشقين.
5- أفضل ما يمكن الحصول عليه
يعتبر هذا الفيلم واحدًا من أكثر الرومنسيات الكوميدية متعة، والفيلم يحتل الرقم 104 في قائمة أفضل 500 فيلم على مر التاريخ، يقدم فيه نيكلسون أداء ساحرًا ومدهشًا بتبسيطه لتعقيدات الشخصية المصابة بجنون العظمة والوسواس القسري.
يلعب نيكلسون دور الكاتب ميلفين، النزق، الكاره صعب المراس، المصاب بوسواس قهري للنظافة، تتشابك الأحداث، ويتورط الكاتب مع قليل الظهور مع محيط اجتماعي ضيق، يتمثل بجاره "مثلي الجنس" والنادلة اللطيفة هيلين هنت الحائزة على اوسكار أفضل ممثلة عن دورها في هذا الفيلم.
يرتاد ميلفين المطعم الذي تعمل به النادلة، مصحوبًا بطلباته الغريبة، ومزاجه السيئ، تقاوم النادلة نزقه بلطفها، وصبرها، لكنها تضطر لترك العمل بسبب طفلها الوحيد، المريض، فينهار رويتن الكاتب ويرتبك فيبدأ البحث عنها لتقدم له وجبته المعتادة، فيبدأ التحول يتسلل إلى شخصيته، ويأخذ بالتحرر البطيء من وساوسه، ويدرك متأخرًا مدى التأثير الذي أحدثته فيه النادلة، ومحيطه الاجتماعي الصغير.
رشح الفيلم لنيل جائزة الأوسكار كأفضل فيلم، ونال نيكسلون جائزة الأوسكار عن أدائه شخصية ميلفين.
