حين مُنح النجم السينمائي ليوناردو دي كابريو جائزة الأوسكار عام 2016، كُتب في الصحافة الفنية والسينمائية المتخصصة التي احتفت بفوزه، أنه احتاج إلى أن يؤكل من أنثى الدب، وأن يبيت ليلته في جوف حصان نافق، وأن يمثّل في ظروف بيئية شديدة القسوة وصلت درجة الحرارة فيها إلى 25 درجة تحت الصفر، حتى يحصل على الجائزة المنتظرة التي نالها في النهاية، وهذا خبر سعيد جدًا.
يعكس اهتمام الصحافة بفوز دي كابريو بجائزة الأوسكار استغرابها، إلى جانب النقاد والجمهور، من تأخر منحه الجائزة التي تُعد الأهم في مسيرة أي ممثل سينمائي. وتلمّح التصريات إلى أن "أكاديمية الفنون البصرية" قد تجاهلت على مدى سنوات الأداءات البارعة التي قدّمها دي كابريو في أفلام عديدة توقع الجميع أن يحصل بفعلها على الجائزة المنتظرة. وأنها كابرت وتمنّعت عن الاعتراف بأهمية الشخصيات الكثيرة التي لعبها والتي استحق عليها الجائزة، كشخصية هاورد هيوز الموسوس، ودوره في فيلم "جزيرة شاتر"، و"Inception".
عندما نتحدث عن ليوناردو دي كابريو فإننا نتحدث عن الشغف الكامن وراء لعب الشخصيات المركبة، والهوس بتقديم الأصعب والأكثر جدلًا، بالإضافة إلى الحذر والانتقائية في صناعة سيرة ذاتية مميزة. فهو يختار أدواره وكأنه يحاول صناعة تاريخ فارق. يختارها بطريقة أقرب إلى تركيب قطع أحجية سوف تنتهي إلى صورة خلابة لا يمكن لتاريخ الفن تجاهلها.
وفي هذه القائمة التي اخترناها لكم، وتضم 5 من أهم أفلام ليوناردو دي كابريو، سوف نبيّن سعيه الحثيث للدخول في شراكات فنية مختارة بعناية، ونسلط الضوء على نوعية الشخصيات التي اختارها، وطبيعة الأساليب الأدائية التي اتبعها في صناعة سيرته كممثل يعد الآن واحدًا من أهم ممثلي السينما وأكثرهم حضورًا وموهبة.
1- تيتانك
لم يكن فيلم "تيتانك" أول أفلام دي كابريو. ورغم ظهوره كشاب يافع في الفيلم الأعلى تحقيقًا للإيرادات في تاريخ السينما تقريبًا، والفيلم الأكثر ملحمية في مسيرة المخرج الكندي جيمس كاميرون، إلا أن علاقته مع التمثيل بدأت قبل ذلك بكثير، وقد حصل على إشادات نقدية عديدة من نقاد سينمائيين مرموقين أشادوا بموهبته وأدائه الساحر بالنسبة لمراهق في عمره، ناهيك عن أنه مثّل إلى جانب أيقونات هوليودية مثل روبرت دي نيرو وجوني ديب وهو في سنه الصغيرة تلك.
جاء فيلم "تيتانك" ثمرة لموهبة لا يمكن تجاهلها أو القفز فوقها، قدّم فيه دي كابريو إلى جانب كيت وينسلت شخصيات حية ونابضة في ظروف غاية في الملحمية، ونجحا ببراعة في تقديم قصة الحب البسيطة والطفولية بتلقائية مدروسة وحرفة عالية المستوى. وقد أكسب هذا الفيلم الرومانسي الكارثي دي كابريو شهرة عالمية وانتشارًا غير مسبوق لممثل شاب، وحمّله مسؤولية مضاعفة لما سوف يكون عليه هذا الممثل الذي وصل إلى قمة الشهرة سريعًا، لكنه لم يغص عميقًا في علم الممثل بعد، وربما عرف بذكائه الحاد أنه قد يكون من السهل أن تصبح نجمًا سينمائيًا في هوليود، لكن من الصعب أن تصبح ممثلًا عظيمًا. وربما يُظهر انتقائه الحذر لأدواره وتعاوناته أنه كان يبحث عن مكان له بين الممثلين العظماء.
يحكي الفيلم الأكثر شهرة بين الأفلام السينمائية الأمريكية على الإطلاق، قصة حب بسيطة بين جاك الرسام الفقير والأرعن، والفتاة الأرستقراطية روز المخطوبة لشاب فاحش الثراء. والمثير في هذه القصة هو تفاعلها وتأثرها مع كارثة تحطم وغرق سفينة الـ "تيتانيك" الأسطورية.
أُنتج الفيلم بميزانية خيالية لكنه حقق أرباحًا خرافية في المقابل، ناهيك عن فوزه بـ9 جوائز أوسكار إلى جانب عشرات الجوائز والترشيحات الأخرى. وهو من إخراج الكبير جيمس كاميرون.
2- الطيار
فيلم "الطيار" هو التعاون الثاني بين دي كابريو والمخرج العبقري مارتن سكورسيزي بعد فيلم "عصابات نيويورك". وفيه، جسد كابريو شخصية هاورد هيوز بطريقة بدا فيها وكأنه يلعب دورًا يؤرخ فيه لمسيرته كممثل، ويضع من خلاله قدمًا ثابتة بين أقدام كبار الممثلين وأكثرهم عظمة، إذ لطالما كانت أفلام السيرة الذاتية تحديًا وامتحانًا كبيرًا لأدوات أي ممثل، لكن المفارقة في أداء ليوناردو أنه كان يلعب شخصية ذات سمات سينمائية في واقعها، غريبة الأطوار، مضطربة ومصابة بوسواس قهري، إلى جانب جموحها وعالمها الداخلي الغني بالتعقيدات. ورغم ذلك، نجح دي كابريو في تقديمها بأوضح صورها، في لحظات ضعفها وقوتها وانكسارها ونهوضها بأسلوب غاية في الانسياب والمعايشة.
يصور الفيلم قصة حياة هاورد هيوز الحافلة والمضطربة والمليئة بالإنجازات، حيث عمل كمخرج سينمائي في بداياته وحققت أفلامه نجاحات كبيرة أيضًا، لكن شغفه الأكبر كان في بناء الطائرات التي كان معتادًا على أن يقود رحلاتها الأولى بنفسه.
يقدّم الفيلم جولة في وقائع هذه الشخصية الاستثنائية والتحديات التي واجهتها، ويستعرض أيضًا سلوكها القهري وتطلعها الدائم نحو المستقبل. ولا بد هنا من الإشارة إلى الأداء الأخاذ الذي قدّمته كيت بلانشيت إلى جانب دي كابريو، خاصةً في إظهارها للنمط السلوكي لنجمات السينما الأمريكية في حقبة الأربعينيات.
حصد الفيلم 11 ترشيحًا لجائزة الأوسكار بينها ترشيح ليوناردو دي كابريو لجائزة أفضل ممثل، ونال 5 منها.
3- Inception
يُعد الفيلم تحفة كريستوفر نولان، وأحد أجمل التجارب التي جرى فيها دمج اتجاهات تجارية سينمائية عديدة لصناعة قصة سينمائية هجينة. فالفيلم مزيج بين أفلام الخيال العلمي، والجريمة، والدراما، والرعب، والأفلام السيكولوجية، وأفلام العصابات. وقد قدّم فيه دي كابريو أداءً ناضجًا وحماسيًا إلى حد بعيد.
يحكي الفيلم قصة لص من نوع غريب جدًا هو "دوم كوب" المتخصص مع فريقه في الولوج إلى أحلام الشخصيات المرموقة وسرقة أفكارها ثم بيعها للمنافسين لغرض الإثراء والسيطرة. ورغم سياقه الخيالي الإجرامي، إلا أنه يحاول إثارة موضوع فلسفي هو الكمال؛ الكمال في العمل والكمال في الجريمة. ومثلما أن الفيلم غوض في طبقات تتجه عميقًا في عوالم الأحلام، فإن القصة والمعالجة هي أيضًا طبقات تبدأ بسياق إجرامي تقليدي ثم ما تلبث أن تجد نفسك في عوالم نفسية وفلسفية مجهدة، إذ يتقصد الفيلم محو الخط الفاصل بين العالم الحقيقي وعالم الأحلام بحيث لا ندرك لا نحن ولا حتى شخصيات الفيلم ما إذا كنا في العالم الحقيقي أم في حلم أحدهم إلا عندما يبدأ هذا العالم بالتداعي.
تتلخص مهمة كوب وفريقه الأخيرة في زرع فكرة في عقل شخص مستهدف بدلًا من السرقة. ولذلك، يلج كوب مع فريقه طبقات عميقة جدًا في لاوعي هذا الشخص، ويتهددهم خطر التيه والضياع في عالم الأحلام ليعلقوا هناك إلى الأبد في دائرة زمنية مغلقة يحكمها التكرار.
الفيلم تجربة ذهنية وبصرية غاية في الفرادة والتجريب السينمائي. رُشح لـ8 جوائز أوسكار حصد 4 منها، واعتُبر أحد أفضل الأفلام في السنوات العشر الأولى من القرن الحادي والعشرين.
4- ذئب وول ستريت
فيلم سيرة ذاتية لعب فيه دي كابريو شخصية الملياردير ذائع الصيت جوردان بيلفورت. يحكي الفيلم قصة صعود بيلفورت في عالم الأوراق المالية، والمضاربة في البورصة، وبيع وشراء الأسهم الرخيصة. وقد حاول مارتن سكورسيزي في هذا الفيلم تصوير عالم وول ستريت بوصفه عالمًا قاسيًا موحشًا وشديد التطرف في ثرائه واستهلاكيته. عالم غزائزي يبدأ فيه السمسار بأهداف صغيرة وواضحة، ثم ما يلبث أن يدخل في دوامة الأوراق المالية والمال الوهمي، فيصبح جمع المال بلا أي غاية سوى جمعه.
وكان واضحًا أن سكورسيزي أصر على إبراز التناقض بين الشكل والجوهر. فهذا العالم العصري بمكاتبه الفارهة الباذخة وسماسرته الأنيقين، ليس إلا "بريّة" يشكل السماسرة فيها مجموعة متوحشة تنظر إلى المساهمين كفرائس ينقضون عليها ويمزقونها بلا رحمة، ناهيك عن الحفلات الماجنة والجنس والسادية وغيرها من الأمور التي تقدّم هذا العالم بوصفه رديفًا ملازمًا لمظاهر الفسق إن لم يكن جوهره.
حصد الفيلم 5 ترشيحات لجائزة الأوسكار بينها ترشيح ليوناردو دي كابريو لجائزة أفضل ممثل. والجدير بالذكر أن هذا الفيلم كان خامس تعاون بين مارتن سكورسيزي ودي كابريو.
5- العائد
قدّم ليوناردو دي كابريو في هذا الفيلم المشغول بروح التراجيديات اليونانية، والذي كان في الكثير من محطاته يلامس حدود الميلودراما ثم يعود إلى سياقه الشعري البصري بخفة وبراعة؛ أداءً أسطوريًا عُدّ واحدًا من أجمل الأداءات التي قدّمها هذا الممثل الموهوب.
يروي الفيلم قصة هيو غلاس، صائد الفراء والنموذج التاريخي لشخصية مستعمر الأرض الجديدة الأمريكي، الذي نالت منه قسوة الأراضي البكر، وأحالته إلى نصف آدمي ونصف وحش. يرافق هيو غلاس مجموعة من الصيادين والخشابين والباحثين عن الرزق في رحلة استكشاف وعمل يُهاجَمون خلالها من قِبل قبيلة هندية فيتفرقون.
يفترق هيو غلاس عن ابنه ويذهب للبحث عنه في الغابة، فتهاجمه دبة بنية تمزقه وتكسر ظهره لكنه ينجو من فكها ومخالبها بأعجوبة. ولأنه لم يعد يستطيع المشي، قام أحد أصدقائه بسرقته وقتل ابنه ثم تركه في العراء، حيث واجه قسوة الطبيعة لوحده، ونجح في النجاة من الموت أكثر من مرة. وحين استعاد قدرته على المشي، قطع هيو غلاس آلاف الكيلومترات من أجل الانتقام لمقتل ابنه.
حصد الفيلم 3 جوائز أوسكار، وهي: جائزة أفضل مخرج للمكسيكي أليخاندرو غوزاليز إيناريتو، وأفضل تصوير، وأفضل ممثل التي نالها ليوناردو دي كابريو.