ألترا صوت – فريق التحرير
من المعروف عن السينما الإيطالية عظمتها من جهة، وواقعيتها من جهةٍ أخرى. لا سيما تلك الواقعية التي صوّرت من خلالها واقع الحياة اليومية في بلدٍ خرج لتوّه من مطحنة الفاشية والحرب العالمية الثانية، بكوارث لا تعد ولا تحصى، وحياة معيشية قاسية، وفقر منتشر في كلّ مكان من الجغرافيا الإيطالية.
كان التقاط ذلك كله، وما حدث من قبل، وتحويله إلى شرائط سينمائية تُخلّد وتوثّق ما مرّ به هذا البلد، أمرًا صعبًا، واختبارًا قاسيًا للسينما الإيطالية وصنّاعها، لكنّ المهمّة تمّت بنجاح، وتمكّنت هذه السينما من إنتاج أفلام تجاوزت الواقع والحياة اليومية والمأساة والبؤس، لتصير أفلامًا عالمية خالدة. في هذا المقال، نستعرض 5 من أبرز هذه الشرائط.
1- توقف المسيح عند إيبولي
ما نراهُ من مشاهد في هذا الشريط السينمائي "توقف المسيح عند إيبولي"، تدور كلّها في الحقبة المُظلمة من تاريخ إيطاليا، أي الحقبة الفاشية، وبالتالي، نحن إزاء بلدٍ مطوّق بالحديد والنار، ويسوده القمع والعزل والدكتاتورية. وفي هذا البلد، يفتح فرانشيسكو روزي عدسة كاميرته على قرية صغيرة ومُفقرة تُسمّى "إيبولي"، وهي منفى تُرسل السلطة الإيطالية مُعارضيها إليها، ضمن خطّة العزل السياسيّ المُتّبعة آنذاك. الضحية هذه المرّة هو طبيب إيطاليّ يُدعى "كارلو ليفي" (جيان ماريا فولونتي)، يصل إلى إيبولي التي قيل يومًا إنّ المسيح سيتّخذ منها مزارًا لها. ويبدأ التجوال في القرية بقصد التعرّف عليها وسكّانها، مُكتشفًا حالة الفقر المدقع التي يعشيها البشر في هذا المكان، وأحوال الشيوعيون المنفيون في هذه القرية. مشاهد تُشكّل جميعها الصورة الواقعية لتلك الفترة من تاريخ إيطاليا، ويمكن القول إنّها مشاهد، على هدوئها، تحمل قدرًا من الاحتجاج والرفض، وتشيرُ، من خلال ما يظهر من قمعٍ وعمليات نفي، إلى الديمقراطية والحرية المُغيّبة آنذاك.
2- بشعون وقذرون وأشرار
في هذا الشريط "بشعون وقذرون وأشرار"، نتّجه برفقة المخرج الإيطاليّ إيتوري سكولا نحو الأحياء الخلفية للمدن، تلك المُهمّشة والمفقرة والرثّة، والتي يسكنها بطبيعة الحال بشرٌ يُمكن القول إنّ لا مسافة كافيةً تفصلُ بينهم وبين الموت؛ الموت جوعًا. وفي هذه البقعة من الجغرافيا الإيطالية، أي حي التنك، سنتعرّف إلى عائلةٍ مكوّنة من 20 فردًا: أب فقد عينه، وحصل مُقابل ذلك على مبلغٍ بسيط من المال، أمٌ ضخمة تمتهن الغنج وكثرة المشاكل، ابنة تستهويها مهنة الدعارة بحيث لا تستطيع التوقّف عنها، ابن يحترف السرقة، وآخر غريب الأطوار ومدمنٌ على ارتداء ثياب النساء، وممارسة دعارة من نوعٍ مختلف وخاص، ويٌضاف إلى ذلك كلّه زوجات الأبناء، والأطفال. هكذا، تتحوّل الغرفة الصغيرة إلى ما يشبه الحظيرة، تدور فيها معارك عنيفة حول المال الذي استلمه الأب كتعويض عن عينه المفقودة. وبهذه الشكل، يصوّر سكولا واقع الحياة اليومية لهذه الطبقة من المجتمع، ويركّز على القسوة التي لا تدلُّ إلّا على بشرٍ فقدوا القدرة على المقاومة بصورةٍ نهائية؛ يجدون في السرقة والجنس والعنف ما يعوّض عمّا يعيشونه من قلّة وبؤس.
3- الجلد
الحرب العالمية الثانية حاضرة أيضًا في هذا الشريط "الجلد"، وما يرافقها أيضًا من مصطلحات وعبارات كانت منتشرة في تلك الفترة، كالنصر والهزيمة، الفاشية والديمقراطية، الجوع والترف، القوّة والضعف، العنف والدعارة؛ مصطلحات تدلُّ جميعها على أزمنةٍ سوداء مرّت، بصورةٍ أبشع من أن تُنسى، على الشعب الإيطاليّ الذي يظهر في هذا الشريط ضعيفًا، منهارًا، ومبتعدًا عمّا يُسمّى قيمًا أخلاقية، وشرف، وغيره من الأمور التي لا يُمكن أن تحضر برفقة الجوع والبؤس والفقر الشديد. هكذا، ستتحوّل مدينة نابولي مثلًا بعد طرد قوّات الحلفاء للفاشيين والألمان ودخول المدينة، إلى بيتٍ كبير للدعارة مُقابل مبالغ مبالية بسيطة لا تتعدّى 5 دولارات، وأحيانًا، دولارًا واحدًا إن اشتدّ الجوع والفقر أكثر. ما معناهُ أنّ سعر "الجلد" كان يُقابل الجوع، يشتد الأخير فيهبط سعر الأوّل. يشتدّ أكثر، فيجد البشر الذين كانوا من أشراف المدينة قبلًا، يرسلون الفتيات إلى منازل الدعارة المنتشرة بصورةٍ مُرعبة في المدينة من أجل ضمان الحياة لعدّة أسابيع إضافية، أو أقلّ أيضًا.
"الجلد" أراد منه مخرجه ليليانا كافاني أن يكون صورة عن بؤس إيطاليا بين احتلال: الفاشيين والألمان. واحتلال ثاني: قوات الحلفاء. وبين احتلالٍ وآخر، يدفع الشعب الثمن باهظًا.
4- ماما روما
وُصِفَ شريط الروائيّ الطويل "ماما روما" بأنّه أحد أبرز كلاسيكيات السينما لا الإيطالية فقط، وإنّما العالمية أيضًا. "ماما روما" هو حكاية كلّ من هاجر من أرضه الأولى إلى المدن بحثًا عن عملٍ وجزءٍ من حياة كريمة، ليجد نفسه يعيش في الأحياء الفقيرة والمهمّشة من المدن، تحت وطأة الفقر والتشرّد والبؤس والعنف الذي يصنعهُ هذا النمط من الحياة، ويتناقل بين البشر كمرضٍ مُعدي. يصوّر الإيطالي بيير باولو بازوليني كلّ ما ذُكر أعلاه من خلال امرأةٍ في خريف العمر، لعوبة وعابثة، تقرّر فجأة التوقّف عن عملها كغانية، وكسب العيش من خلال مهنةٍ نظيفة تضمن حياتها وحياة ابنها المراهق، فتبدأ العمل على عربة لبيع الخضار، ولكنّ السيناريو الذي رسمتهُ لحياتها وابنها ينهار بعد أن يكتشف ابنها حقيقة عملها سابقًا، لينخرط في السرقة التي تقوده دون رحمة إلى السجن في نهاية الشريط.
5- سارق الدراجة
الشريط الذي نتحدّث عنه الآن "سارق الدراجة"، حيث يذهب بنا المخرج دي سيكا نحو فترة الحرب العالمية الثانية في تاريخ إيطاليا. أو، بصورةٍ أدق، الفترة التي أعقبت هذه الحرب، حيث هناك مجتمعٍ يُحاول التعافي من آثار الفاشية من جهة، والحرب العالمية من جهةٍ أخرى. وهذا ما لا يبدو للإيطاليين أمرًا سهلًا إطلاقًا في ظلّ الفقر المُدقع الذي يعيشونه بفعل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية القاسية، وفرص العمل النادرة والمُستحيلة أيضًا. ما يعني أنّ الفقر منتشر في كل مكان، ويهدّد حياة عائلاتٍ بأكملها دون أن يلتفت إليها أحد. أنطونيو (لامبيرتو ماجوراني) وعائلته واحدًا من هذه العائلات المُعدمة. نتعرّف عليه في الشريط رجلًا فقيرًا يبذل قصارى جهده للعثور على عملٍ يُعيل عائلته، وحين يبدأ عمله بلصق البوسترات الدعائية في شوارع المدينة، يتعرّض للسرقة، إذ تُسرق دراجته الهوائية التي كان قد رهنها قبلًا من أجل بعض المال، وأعاد فكّ رهانها ليتمكّن من البدء بعمله الجديد الذي يتطلّب دراجة. ما معناهُ أنّ الدراجة هنا تُعادل الحياة برمّتها، والعثور عليها يعني ضمان هذه الحياة مرّة أخرى، ما يدفع أنطونيو وابنه للبحث عنها في شوارع المدينة، دون أمل.
اقرأ/ي أيضًا: