لم تنتهِ بعد الحكايات التاريخية التي يمكن أن تصنع دراما ترصد عمق النفس البشرية وتقلباتها، وتكشف عن تعقيدات حياة البشر، على وجه الخصوص تلك الأحداث الدرامية العصيبة التي تحدث في قصر باكينغهام.
في الموسم الثالث، يسبح مسلسل "The Crown" في سيرة حياة وتجارب الملكة إليزابيث الثانية
يعيدنا إليه مسلسل "The Crown" في موسمه الثالث الذي بدأ عرضه قبل أيام على شبكة المسلسلات نتفليكس. هذا الموسم يقدم حكاية أواسط العمر، ويظهر تفاصيل غاية في الدقة والتعقيد عن انتهاء مرحلة الشباب وبداية تجربة جديدة، نلاحظ كمشاهدين انقضاء مرحلة والدخول في مرحلة أخرى، ونلمح آثار مرور الوقت، من خلال صيغ حكائية وحبكات متتالية مكتوبة بحرفية عالية، تعود لتؤكد من جديد أن الكتابة الجيدة هي أساس كل عمل فني ناجح.
اقرأ/ي أيضًا: مسلسل "Unbelievable".. قصة دامية عن الاغتصاب
قدّم لنا كاتب السيناريو والمنتج البريطاني بيتر مورغن حكايات الموسم الثالث التي جاءت مختلفة قليلًا عن حكايات الموسمين الفائتين من حيث تطور شكل الصراع الخاص والنفسي للشخصيات، وتغير صراعها مع الخارج والآخر. مورغن الذي برع في كتابة الحكايات التاريخية والملكية منها على وجه الخصوص بعد تجربة كتابة فيلم "The Queen" الذي يتطرق أيضًا لجزء من سيرة الملكة إليزابيث في رصده للأحداث غير المتوقعة التي واجهتها الملكة بعد وفاة الأميرة ديانا.
ممثلون جدد جسّدوا شخصيات المسلسل الرئيسية، فقد حلّت الممثلة أوليفيا كولمان محل الممثلة كلير فوي بطلة الموسمين الأول والثاني. كان هذا التغيير ضروري على اعتبار أن كل شيء يدور حول سؤال مرور الزمن والتغيير والدخول في تجربة حياتية جديدة.
شخصيات قلقة تعيش في زمن مضطرب
يعود بنا الزمن إلى الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي في بريطانيا، للإطلالة على سيرة حياة وتجارب الملكة إليزابيث الثانية التي يرصد المسلسل سيرتها الغنية بالأحداث والمليئة بالتناقضات والإنجازات. الجدير بالذكر أن كل حلقة من حلقات المسلسل في مواسمه الثلاث تم إخراجها من قبل مخرج مختلف، فبدت كل حلقة وكأنها بمثابة فيلم منفصل عمّا سبقه من حيث الحدث الحاصل، وفقرة مكملة في الوقت ذاته للحكاية الرئيسية والخط العام الذي تسير فيه الأحداث. أكثر الحلقات تميزًا في هذا الموسم كانت من إخراج المخرجة البريطانية جيسيكا هوبز التي اعتمدت على اللقطات الطويلة لإظهار العوالم الداخلية للشخصيات والمكان.
نلتقي بالملكة إليزابيث مجددًا عام 1964، لحظة تعيين رئيس وزراء جديد هارولد ويلسون، المعروف عنه عداؤه للملكية، يتم من خلالها اكتشاف وجود جاسوس في منصب مقرّب من الملكة. نجاح مرشح حزب العمال في الانتخابات البرلمانية في الوقت الذي يحتضر فيه رئيس الوزراء الأسبق وينستون تشرشل. أحداث تنبئ بأن القلق يخيم على الحياة السياسية والاجتماعية في بريطانيا التي تقف على حافة انهيار وشيك لعملتها.
في ذلك الوقت تحاول الملكة اختيار صورتها الجديدة التي ستطبع على العملة، ويستحسن أن تحمل ملامح التغيير. إذًا على أيّ مستقبل تقبل البلاد في ظل تلك الضبابية؟ نتلمس ملامح المرحلة الجديدة بينما تحاول الملكة اكتشاف الأسرار السياسية وأسرار الحياة التي تضعها مجددًا أمام نفسها كزوجة وأخت وأم. المحيط الأسري له دور في غاية الأهمية في هذا الجزء، شقيقة الملكة مارغريت وزوجها الأمير فيليب وبالطبع ابنها الأمير تشارلز الذي صار في عمر الصبا وعليها تحضيره لتولي المُلك، تقاطعات أخرى مع الخارج والعالم الذي يتسلل ظله إلى قصر العائلة الملكية البريطانية ويغير شكل حياة أفرادها.
الشخصية الملكية المتأثرة بالمحيط
كيف تبدو الحياة في القصر؟ سؤال يوجه للأمير فيليب من قبل شخص غير متوقع، نيل آرمستروغ، أول رجل هبط على القمر، كان مسحورًا بهيبة وعظمة قصر باكينغهام. يختزل آرمستروغ عبر ذلك السؤال جملة من الأسئلة الشغوفة التي كانت تلعب في عقل الأمير الطموح الذي لم يعد متحمسًا لسماع خطبة يوم الأحد من كبير الكهنة وغير آبه بالعلاقة بين الدين والدنيا والغيبيات.
بداية ستينيات القرن الماضي، خيم القلق على الحياة السياسية والاجتماعية في بريطانيا حين وقفت على حافة انهيار وشيك لعملتها
بعد أن استطاع الأميركيون الصعود إلى كوكب آخر صارت الحياة أعقد في بريطانيا، على الرغم من حبال الود الرفيعة التي كانت تربط أقوى دولتين في العالم في تلك الحقبة. قد يرجع الفضل إلى الطريقة المارغريتية التي اتبعتها شقيقة الملكة المشاكسة الأميرة مارغريت في محاولة اقناع الأمريكيين بضرورة مساندة بريطانيا للخروج من أزمتها، هذه الشخصية غير الراضية عن حياتها تلعب دورًا كبيرًا في إدارة دفة العلاقة البريطانية الأمريكية بالقيام بكل ما لا تقوى الملكة على القيام به، فهي النسخة غير المنضبطة والتي لم تمر عليها قواعد العيش وآداب السلوك الملكية، وتقرر لها منذ الصغر أن تقف على الجانب.
اقرأ/ي أيضًا: مسلسل "النخبة".. عن التعدّدية الجنسيّة وتنوّع الثقافات وفلسفة العالم الحديث
كل ما يدور في فلك الملكة هو متأثر بها بلا شك، إلاّ أن القلق يميز حياته بشكلٍ واضح وصريح. يعطينا هذا الموسم انطباعًا قويًّا بأن القصر الكبير صار ضيقًا على سكانه، كل منهم غير راضٍ ولكن على طريقته، ومتمرد أيضًا على طريقته خلال فترة زمنية تتسم بالتمرد ورفض الانصياع، سنوات الستينيات التي حملت كل التغيير إلى العالم لم يكن وقعها بسيطًا بين أروقة القصر الملكي البريطاني.
يتطرق هذا الموسم أيضًا لمرحلة شباب الأمير تشارلز ولقائه بالشابة كاميلا شاند، تجربة حبه وولعه بها، ويمر على ما قامت به العائلة للحد من تطور تلك المشاعر عبر إبعاد تشارلز وتكليفه بالمهام. من أهم المحطات السياسية أيضًا كانت إضراب عمال المناجم وموقف حزب العمال من الحكومة، وأزمة الوقود والكهرباء التي نزلت على بريطانيا وطريقة معالجة القصر لها. وما شهده من انقطاع للكهرباء في وقت عصيب، خلال أزمات العيش في المملكة التي تتفاقم شيئًا فشيئًا بين إهمال الملكة وترفعها عن الخوض في بعض القضايا وانغماس العائلة بأكملها بمشاكلها الداخلية وسط تناسي مقصود للخارج.
من أهم تلك المحطات أيضًا كانت كارثة أبرفان، فبعد أن تسببت كارثة مروعة في بلدة أبرفان الويلزية في مقتل العشرات من الأطفال، استغرقت الملكة أسبوعًا كاملًا لتقرر زيارة المدينة وتقديم العزاء لأفرادها، الأمر الذي وضعها وجهًا لوجه أمام مهامها الأخلاقية، طبع الشعور بالندم حياتها، ولكنه جاء على العكس من ذلك الإصرار الذي دفعها لإبعاد ابنها تشارلز عن حب حياته كاميلا.
يحمل "The Crown"، في موسمه الثالث، رؤية إنسانية تاريخية وسياسية لواحدة من أكثر الفترات اضطرابًا وقلقًا في تاريخ بريطانيا
يقف الموسم الثالث من مسلسل التاج عند تناقضات الشخصية البشرية ويحمل لنا رؤية إنسانية تاريخية وسياسية لواحدة من أكثر الفترات اضطرابًا وقلقًا في تاريخ بريطانيا، وواحدة من أكثر فترات حكم الملكة إليزابيث الثانية صعوبةً، حيث وجدت نفسها أمام تغييرات في الداخل والخارج جعلتها تتجاوز مهامها في بعض الأحيان وفي أحيان أخرى تكون تضع نفسها في موقع المتأخر والمتخاذل. من الملفت كان إظهار تأييد الملكة الكامل وحماسها تجاه فكرة الاتحاد الأوروبي، ورد ذلك خلال زيارتها لفرنسا وقولها عبارة "في الاتحاد قوة" باللغة الفرنسية. في الوقت الذي تقف فيه بريطانيا اليوم على أبواب البريكست، يعيدنا هذا المسلسل التاريخي إلى واحدة من أكثر اللحظات مفارقةً في تاريخ المملكة، وكأن فيه إشارة واضحة وإعادة تذكير لموقف الملكة.
اقرأ/ي أيضًا: مسلسل "آخر القياصرة".. الوثائقية أقوى من الدرامية
كانت شبكة نتفليكس قد أعلنت عن صدور موسم رابع للمسلسل أيضًا، يتطرق لفترة تولي حزب المحافظين وترأس المرأة الحديدية مارغريت تاتشر للحكومة، كذلك علاقتها الشائكة والغامضة مع الملكة والقصر وطريقة معالجتها لأزمات البلاد.
اقرأ/ي أيضًا:
رمزية اللباس في "La Casa de Papel".. سلفادور دالي والبزّات الحمراء