"وها هو الأربعاء مرّة أخرى!"، يقول بائع يفتح باب متجره للمارّة الذين يقفون على الرصيف ينتظرون – شيئًا ما – ولكن أحدهم يتطلّع إلى من حوله ويسألُ ببساطة: "ولكن هل هو الأربعاء حقًا؟ لقد شعرت وكأنه الخميس!"، ويجيبه أحدهم باستغراب شديد: "ولكن لا يمكنك أن تشعر بالأيّام. ذلك مستحيل! بالأمس كان الثلاثاء، واليوم هو الأربعاء، وغدًا الخميس، وإن لم تتمكن من تتبّع الأيام، ستسيطرُ الفوضى!" ويجيبُ المسكين: "ولكنّي شعرت أنّه الخميس!". ويُنهي المشهد أحدهم قائلًا: "وها هو الأربعاء مرّة أخرى.. وداعًا".
"A Pigeon Sat on a Branch Reflecting on Existence" فيلم عن ضجرُ الإنسان من نفسه المثقلة بتاريخها وهمومها وما وصلت إليه حالها
"A Pigeon Sat on a Branch Reflecting on Existence" عن الأربعاء المكرّر، المتجانس، الفارغ، الذي تشعرُ أنّه الخميس دائمًا، ولكنه يبقى الأربعاء دائمًا وأبدًا، ويبقى صباحًا دائمًا وأبدًا. الزمن السرمديّ الدائم الدوران الدائم الغرق في الفراغ. فيلم عن الضجر الإنساني، وتحديدًا، عن ضجر فصيلة من فصائل النّوع الإنساني تسمّى: "الهومو سابينز"، علميًا، أي، الإنسان العاقل/العلمي، الغارق في ضجره إلى حدٍ لا يُحتملْ.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "In This Corner of the World".. عن الفترة الأظلم في تاريخ اليابان
الفيلم يقع خارج المألوف، خارج السرد السينمائيّ أو الروائي، بل يقعُ تحديدًا في القلب من الضجر الإنساني. وعلى الرغم من شعوري الهائل بالضجر من حولي، إلا أن الفيلم كان متعبًا حدًا لا يطاق. كان متعبًا في تتبّع تفاصيل الضجر، ليس ضجر الزمن الحاضر وفراغه وحسب، بل اتّصال الزمن الحاضر بالماضي، بالتاريخ التّافه، وجلب هذا التاريخ إلى لحظة الحاضر والسخرية منه. كان متعبًا في وضوح معنى سخفِ الوجود الإنساني، وفي وضوح التّفاهة التي تؤلّف هذا الوجود وتصنعه وتعيد صنعه باستمرار.
وعلى غير عادة الأفلام تلك التي تتحدث عن الضجر والبؤس الإنساني. كان غيابُ الشرط الماديّ للوجود الإنساني لافتًا في الفيلم، الرأسمالي منه وحتميّة الشقاء. إلّا أنه لم يكن غائبًا تمامًا. هناك أفلام بالطّبع تجلبُ هذا الشرط وتصنع منه مأساة عُظمى لا يمكن احتمالها. ولكن هذا الفيلم، أورد المأساة على هيئة تافهة، تصنع من شخصيّاته شخصيات ثقيلة، ثقيلة حدًا لا يحتمل، وفي ثقلها هذا، تمثّل شرط البؤس الإنساني عمومًا، تمثّل شرطهُ الحتميُّ من الشقاء لمجرّد وجوده.
"هل من الصحيح أن تستغلّ الآخرين لمصلحتك الشخصية؟"، تسألُ أكثرُ الشخصيّات ثقلًا وتفاهة، وتجيبها أخرى: "ماذا تظنُّ أنك فاعلٌ؟"، ويجيبُ آخر: "يحاول أن يكون فيلسوفًا!"، ويقول الآخر: "ولكن هل علينا حقًا أن نناقش مثل هذه الأمور في منتصف الليل؟". يسود الصمت، تسود التفاهة، يسود ثقل الوجود الإنساني في ممرٍ كئيب مضاء بأضواء النيون الخفيفة المقرفة التي تطفأ بعد حين ويعود الجميع إلى غرفهم، لأن هناك أناسًا عليهم الاستيقاظ مبكرًا لكي يذهبوا إلى أعمالهم.
إنه ضجرُ الإنسان من نفسه المثقلة بتاريخها وهمومها وما وصلت إليه حالها. إنه عبءُ الإنسان العلميّ، لا عبء الإنسان الأبيض وحسب. خلال مشاهدتي الفيلم، وقد كنت مشاهدًا خائنًا لأنّني قد شاهدت مشهدًا منه على اليوتيوب قبل وصولي إليه في الفيلم الـ "متعب نفسيًا حدًا لا يحتمل"، كدتُ أقتنع بقرف الإنساني الأوروبي من نفسه. إنه حقًا، أي الأوروبي الأبيض الذي يعيش ببطء في نواح مترامية الأطراف في النرويج أو السويد، أو أية بقعة أوروبية أخرى، مليء بالتعاسة ممّا فعل أسلافه، مما يفعلهُ لمجرّد وجوده، بالآخر الذي لا يمّحي وجوده لا من التاريخ، ولا من الحاضر، ويصرُّ على هذا الوجود.
"التوظيف"، الكلمة التي كتبت على خزانٍ نحاسيّ يدورُ كسيخ الشواء ويجبرُ على الدّخول إليه بعضُ "السود الأفارقة" ومن ثمّ تشعلُ من تحته النّار وتبدأ الأبواق المثبّتة بهذا الخزان الدائري الشكل بإصدار أصواتٍ؛ هي أصوات الأفارقة ربّما، أصوات الموت.
تخيّلت فيما تخيّلت، محارق الهولوكوست النازية، تخيّلت محارق الموت في أوغندا على يدِ الهولنديين، تخيّلت خيام الأصلانيين التي حرقت، تخيّلت بيوت البروتستانت والكاثوليك التي حرقوا بعضها بعضًا، تخيّلت الأندلس تحترق، تخيّلت عائلة أبو خضير تحترق. رأيتُ عذاباتٍ مرّت ببطء، صرخ عبرَ فضاءات ينعدم فيها الصوت، جنود يحرسون "المحرقة"، أيًا كانت على يدِ أيٍّ كان، ومن مكانٍ ما، كما في المشهد السينمائي العبقري، يشاهد بعضُ البيض – البيضُ هنا لا تعني ذوي البشرة البيضاء، بل أولئك الذين يملكون امتيازات الوجود الإنساني الأبيض – المشهد من بعيد ويشربون النبيذ هادئين، يمشون على عكازات خشبيّة، يصبُّ بعض الخدم لهم النبيذ، بصمت، بهدوء، بتصلّب في مشاعرهم وبأعين فارغة كالزّمن الذي ما زالوا يصنعونه منذ قرون.
فيلم "A Pigeon Sat on a Branch Reflecting on Existence" فيلم الضجر الأوروبيّ. ضجر وكآبة وميلانخوليا بلا حد
يلي المشهد مشهد آخر، فيه يجلس شخص رأى نفسه أحد أولئك الخدم الذين يصبُّون النبيذ. يقول إنّه رأى نفسه يصنع أمرًا مريعًا، ولا يستطيع الحديث عنه. يليه ذلك المشهد الذي يخرجُ فيه هذا الشخص نفسه إلى الممرّ الكئيب نفسه ويسأل: "هل من الصحيح أن تستخدم الآخرين لمتعتك الشخصية؟". أحاول أن أفلسف الأمر، أقول إنّ القصد كان بعملية الحرق تلك، هي إدخال هؤلاء "السُّود الأفارقة"، إلى الخزّان الذي يدور وإجبارهم على الركض في مكانهم والصراخ، ومن ثمّ إصدار تلك الأصوات التي تخرج غنائية عذبة من تلك الأبواق، لإمتاع تلك الحفنة من البشر البيض من على بعد أمتار. أظنّ أنها مبالغة، لكنّي، أتراجع عن ظني؛ كانت روما تفعل هذا من قبل، إن أعظم أفلام هوليوود مبيعًا الآن هي تلك التي تصنع من فكرةٍ كهذه فيلمًا، مجموعة من المساجين يقتلون بعضهم بعضًا لمتعة المشاهد الافتراضيّ، إنّنا نحنُ، نستخدمُ الآخرين لأجل مصلحتنا الشخصيّة، ساديّون ربّما، بالفطرة، إن كانت هنالك فطرة.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "The Virgin Spring": بيرغمان مترددًا
فيلم الضجر الأوروبيّ. ضجر يحطّ في عيونِ ممثّلي الفيلم. كآبة وميلانخوليا لا حدّ لها. اعتراف روي أندرسن بقرفه النفسيّ من مجتمع غارق في التكرار والرتابة. تلك الشخصية التي تسألُ سؤالها ذاك، وترى نفسها في ذلك المشهد، من المفترض أنّها شخصية تعملُ في مجال الترفيه، تبيعُ أسنان الفامباير لإمتاع الآخرين، تكرّر جملتها: "نحاول أن نمتّع الناس بحيواتهم"، ولكنّه لم يقل أبداً خلال الفيلم: أنّ الأوان فات على ذلك. تجلس هذه الشخصية في مشهد من مشاهد الفيلم وتقول لشخصية أخرى، أنّها مكتئبة بسبب أغنية تخبره أنّه سيلتقي بأبويه اللطيفين بالجنة، ولكنّه لا يريد ذلك، وهو مكتئب لأنهما كانا لطيفين، وربما سيراهما. أتذكّر شخصيّة البروفيسور في فيلم: ذا سانسيت لميتيد، ذلك البروفيسور الذي يؤكد للأسود، أنّه لا يرغب برؤية أبويه في أي مكانٍ مرة أخرى.
إنه ندم الولادة. مأزق الوجود الإنساني المليء بحمّى الاحتمالات التي يوقدها اللايقين من الآن والغيب في آن. والضجر، الضجر من التاريخ، من الحاضر، من المستقبل، من العمل، من الوجود، من العدم، من الزمن الفارغ المتجانس بلغة فالتر بنيامين، هذه الكلمات الثلاث التي على ما يبدو أنّها ستسُودُ في فكرِ الفنّ والأدبِ الإنسانيين لمدى طويل.
اقرأ/ي أيضًا: