في حديث للمخرج العالمي الكبير فرانسيس فورد كوبولا، صاحب رائعة "العرّاب"، لصحفي ينتج فيلمًا وثائقيًا عن هذه التحفة السينمائية الرائعة، روى كوبولا عن استماتته في إقناع الشركة المنتجة كي يلعب آل باتشينو دور مايكل كوروليوني، فالشركة "بارامونت" التي كانت تريد إنتاج فيلم مليء بالمسدسات والدماء لم تر في آل باتشينو، الناعم صاحب الشفتين الرقيقتين والعيون الواسعة والبشرة النضرة، أي شيء مثيرًا للانتباه، يجعلها توافق على منحه دورًا بهذه الأهمية في فيلم يتمحور حول العصابات والجريمة والعنف.
ولم تر في وجهه حتى أي غموض أو غرائبية من تلك التي تميز رجال المافيا، وخاصة الإيطالية منها. يتحدث كوبولا عن انخراط آل باتشينو في تجارب أداء وصلت الى قرابة ستة عشر تجربة وكلها لم تكن كفيلة بثني الشركة عن قرارها، أو حتى التفكير في خيار كوبولا. لم يكن أحد من المتنفذين وأصحاب القرار في الشركة يرى ما رآه كوبولا في آل باتشينو.
استمد سكراغز القاتل المرح والساخر سحريته من غموض وسحرية الغرب الأمريكي، كل ما يحيط بسكراغز موحش وقاس، لكنه يغني بلا توقف وكل ما فيه يتناقض مع هذه البيئة
يقول كوبولا: "كان علي أن أضع عيني في رؤوسهم كي يبصروا، كان علي أن أجد طريقة لإقناعهم". وجد كوبولا ضالته في مشهد العنف وجد طريقة أخضعهم فيه لجمال الأداء عبر القسوة. مشهد قتل سولوزو الزاخر بالاضطراب والتردد والأداء السيكولوجي المثير الذي عمّد مايكل، كأب روحي قادم، في عالم الجريمة، وجعل من آل باتشينو واحدًا من أعظم الممثلين الأحياء.
لم ينجح كوبولا في ترجيح الكفة لصالحه إلا عبر القسوة واستخلاص الجمال منها، كمن يستعير مفردات وأدوات الكيميائي ليصنع مشهدًا سينمائيًا.
هذه التركيبة في تضادها تفترق عن الدور الوظيفي للعنف في السينما، في أنها أكثر تعقيدًا وأعمق بحثًا من الأفلام المختصة بالعنف، التي تنتج عنفًا مشروعًا ومجازًا لغايات التطهر من العنف عبر مشاهدته دون إغفال شرط المتعة والتجربة الهرمونية المصاحبة للمشاهدة والقريبة وظيفيًا من أفلام الرعب. غالبًا ما يتم إنتاج العنف في هذا النوع من الأفلام بنزعة شكلانية تبذل جهدًا بينًا في ابتكار وسائل وأساليب إنتاج العنف إمعانًا في التطهير، ولمنح المشاهد فرصة تجريبية بصرية لاختبار أقصى درجات العنف وأكثرها تطرفًا. أما في ميدان القسوة فلا يشترط الانحياز باتجاه الابتكار العنفي البصري، بل تصاغ التجربة كاقتراح أدبي يحفر عميقًا بمعول القسوة لاستنتاج الجمال على مستوى الشكل والمضمون، وعادة ما يستخدم هذا البحث السينمائي العنف بصورته التقليدية دون تطرف او ابتكار.
يمدنا الأخوان كوين بهذا الفهم التأملي للصورة والحكاية السينمائية عند مشاهدة تجاربهما، فمن الواضح أن الحكاية في أفلامهما المشتركة تنجرف منذ البداية نحو القسوة، ثم تبدأ في الحفر عمقًا فيها، وخلال تقدمها تبرز كل جماليات الصورة والحكاية والشخصية السينمائية المضطربة في عوالم قاسية، لكنها زاخرة بالجماليات والتأمل الجمالي. أحب تسمية هذا النوع من البحث السينمائي بـ"سينما الاستغراق"، فمنذ الدقائق الأولى من أفلامهما نجد أنفسنا في خضم تجربة ذهنية وبصرية لا نلبث أن نستغرق فيها ونستسلم لها طواعية، كون سينما الأخوين كوين تبدو وكأنها استعادة وتجسيم للحظة الاستغراق في قراءة رواية ممتعة لكاتب فذ، أو لنقل الفيلم بوصفه كتابًا جيدًا، وهذا الاشتغال لناحية مزاج التلقي يماثله اشتغال شديد الدقة لحالة السرد، فتشاهد وكأنك تقرأ وتستغرق في المشاهدة وكأنك تتخيل.
يأخذك فيلم "The Ballad of Buster Scruggs" منذ اللحظة الأولى إلى غلاف كتاب، هذا الكتاب سوف يروي لك تاريخ ظهور أمة عبر حكايا متفرقة من جغرافيات متناقضة لما سوف يصبح بعد ذلك أمريكا، وكل حكاية من هذه الحكايا تأخذ نصيبها من التخييل والسحرية من طبيعتها الجغرافية، فتلاحظ أن السحرية تتفاوت تبعًا لبيئة الحكاية الجغرافية، لذلك فالجرعة السحرية للحكاية الأولى، وهي حكاية باستر سكراغز، كانت الأكبر بين الحكايا الأخرى.
استمد سكراغز القاتل المرح والساخر سحريته من غموض وسحرية الغرب الأمريكي، كل ما يحيط بسكراغز موحش وقاس، لكنه يغني بلا توقف وكل ما فيه يتناقض مع هذه البيئة. أناقته ابتسامته، سخريته اللاذعة، طبيعته الثرثارة مقابل الصمت الأزلي لرجال الغرب واستخدامهم المحدود للكلمات، لا شيء فيه يتماهي مع بيئة الغرب سوى مهارته في التصويب وقدرته العجيبة على القتل بلا تردد.
يؤسس الأخوان كوين للسرد السينمائي بهذه الحكاية التي يناقض فيها البطل عالمه. عالم قاس تحني فيه الخيول رقابها بيأس وتجر نفسها بلا أي حافز، ويموت فيه الرجال على قارعة الطريق من أجل لا شيء. جفاف وتكرار أزلي لمواجهات يبدو الموت فيها كلعبة بقواعد بسيطة يمارسها الرجال لكسر الملل ليظهر سكراغز في هذا العالم حيًا أكثر من اللازم، منحه قدرة استثنائية على القتل، لكنه لم يستطع سلبه الرغبة في الغناء والثرثرة، والتأنق وحلق ذقنه والميل لإثارة البهجة، فبدا وجوده بحد ذاته وكأنه سخرية من كل هذه القسوة ورفض لكل هذه الجدية المفرطة في تقبل الحياة رغم قسوتها.
تثقب رصاصة سريعة جبهة سكراغز ويحلق بجناحين نحو السماء مكملًا أغنيته، ومعه يحملنا الأخوان كوين إلى تنويعات أخرى على القسوة. لكنهما بهذا التأسيس في الحكاية الأولى فتحا الباب لحكايا أخرى أقل سحرية، لكنها أكثر قسوة وجمالًا، فالحكاية الأولى رغم قصرها قياسًا بالحكايا الأخرى ورغم سحريتها، لا بل ميلها إلى "الغروتسك" (فن المبالغة)، إلا أنها حملت مضمون الفيلم كله وخلاصة البحث الفني والسؤال الجمالي المراد الإجابة عنه عبر القسوة.
ينتقي فيلم "The Ballad of Buster Scruggs" أبطال حكاياه البسطاء ويعرضهم بروح الأسطورة. فأبطاله ليسوا قادة أو سياسين بل أناس ينتمون بشدة إلى يومياتهم
وكأن الفيلم أراد أن يبدأ من النهاية، لتصبح رحلته نحو البداية حفرًا عميقًا وتوسعيًا في مفهوم القسوة، وصقلًا بطيئًا لنتوءاتها فيصبح الجمال منها وبها.
يتنقل الفيلم على امتداد الجغرافيا الأمريكية، وينتقي أبطال حكاياه البسطاء ويعرضهم بروح الأسطورة. فأبطال الحكايا ليسوا قادة أو سياسين أو أناسًا وجدوا في لحظات فاصلة في تاريخ الأمة وقلبوا موازين كانت ثابتة ومستقرة، بل أناس ينتمون بشدة إلى يومياتهم. فنان، وسائس، ومنقب عن الذهب، تاجر فراء، وصائدي جوائز. والفيلم لم يضع أبطال حكاياته في سياق درامي يجعل منهم أساطير، كل ما فعله الفيلم أنه أسطر القسوة التي تحيط بهم وجعلها تدفع بهم لخيارات عنيفة أحيانًا وتراجيدية أحيانًا أخرى. وقد لا يتسع هذا المقال لتفكيك كل الحكايا، لكن يمكن ذكر بعضها لتبيان أدوات هذا البحث الجمالي المأخوذ بالقسوة كديناميكية محركة لكل عناصر الفيلم.
ففي حكاية "المنقب عن الذهب"، تتسلل الأسطرة من تفاصيل المشهدية العالية التي يشكلها الأخوان كوين من مفردات قليلة، رجل عجوز يجر بغله عند مجرى نهر صغير يجري في أحد وديان كاليفورنيا وقد ربط عليه أدوات بدائية للحفر والتنقيب وبعض الأواني. لا أحد هناك سوى هذا الرجل وبغله، وبومة عششت فوق شجرة قريبة من منطقة التنقيب، لا شيء في البداية سوى صفير وغناء الرجل العجوز، وحوار متقطع مع هضبة قريبة لا يلبث أن يتحول هذا الحوار المتقطع إلى تحدٍ مشحون بدراما تحكي الكثير عن هذا الرجل دون أن يقول كلمة واحدة عن ماضيه، فهو يشعر أن صخرة الذهب العظيمة تستر داخل جوف الهضبة، وكلما شق طريقه نحوها أصبح أكثر يقينًا وصارت الهضبة أكثر استعصاءً وتمنعًا، ولا ندري كيف جعلت هذه المشهدية الحياة تدب في الصخر والتجويف وكيف بدت الهضبة بهذه الندية الدرامية، ولا ندري كيف ومتى وصلنا الى هذه المرحلة من العلاقة الملتبسة بين الرجل وهضبته، والمشوبة بالتحدي والحب والتمنع والإصرار. إلى أن تخلت الهضبة عن تسترها ومنحت الرجل الإشارة الأخيرة لنيل كنزه، فوقع في تجويفها مشحونًا بمشاعر تتجاوز مشاعر الفرح. في هذه اللحظة تظهر القسوة المتربصة على هيئة شاب كان يتابع الرجل العجوز منذ البداية؛ ليطلق على ظهره النار ويرديه، ويسيل الدم من ظهر الرجل وكأن التجويف المذهب هو الذي ينزف. اتخذت القسوة في هذه الحكاية مظاهر عدة. أولًا على مستوى الحكاية نفسها؛ رجل يواجه الطبيعة منفردًا، وثانيًا على مستوى الفعل الدرامي وتأويلاته الرمزية، وثالثًا، وهو الأكثر إبداعًا، على مستوى الشخصية السينمائية التي تكتسب مشروعيتها الدرامية ومواصفاتها الأسطورية من كونها نماذج عن القسوة. تعيش في كنفها، تستعملها ، تموت بسببها، فالقسوة في هذا الفيلم هي الموضوع والحدث والشخصية.
ويبدو هذا جليًا في قصة الفنان. الذي يحول عربته في دقائق الى مسرح جوال يقدم فيه عروضًا مسرحية كئيبة ووعظية، مستعينًا بظاهرة جسدية تثير الفزع آنذاك ممثل، شاب بلا أذرع وبلا أرجل. أو بالأصح نصف رجل. يتمتع بصوت قوي وحضور أخاذ، يلقي مونولوجات؛ يمكن تسميتها عظات ممسرحة. يعمل هذا الممثل مع الفنان بطعام يومه. ينظر الممثل الى نفسه من خلال المونولوج فيرى نفسه كاملًا وصحيحًا، بينما ينظر إليه الفنان كغرض أو إكسسوار في مسرحه الجوال، وكأنه ملكيته الخاصة التي تعود عليه بالنفع. لكنه أمام العروض الشحيحة والمكاسب التي لا تذكر من عروضه يقرر استبدال ممثله بدجاجة موهوبة بالحساب، تنقر على أزرار معدنية كلما طلب احد منها إعطاء نتيجة جمع رقمين. يشتري الفنان الدجاجة ويعلق قفصها الى جانب الممثل "النصف رجل" ويتقدم في طريقه. لكنه لم يعد قادرًا على إطعام الاثنين والعناية باثنين. يصادف الفنان في طريقه جسرًا شاهقًا فوق جرف نهري، فيقرر رمي الممثل في النهر، ويفعل.
فيلم "The Ballad of Buster Scruggs" رهان حقيقي على قدرة الصورة على تجسيد مخيلة المتلقي بصريًا، واحتفال فرجويّ بالسرد. فيلم يعيد كتابة تاريخ أمريكا بكل مصاعبه ومخاوفه ومعاناته من خلال القسوة؛ وإثارة سؤال الجمال الآتي من منها. إنه كتابة ثانية لتاريخ أمريكا وأمتها من خلال رجال قساة، شكلت القسوة أرواحهم قبل أن تحفر وجوههم.