مع اقتراب الاستحقاق الرئاسي في الولايات المتحدة الأمريكية يحوم طيف الحرب الأهلية في الأفق في ظل الانقسام الحاد الذي لم يشهده المجتمع الأمريكي منذ عقود.
وفي هذا السياق، نشر المعهد الملكي للشؤون الدولية "تشاتام هاوس" تقريرًا للزميل المشارك في برنامج الولايات المتحدة والأمريكيتين، بروس ستوكس، يتحدث عن إشارات تختمر لحرب أهلية في البلاد.
رفي حين يؤكد الباحث الأمريكي أنه لا يوجد تهديد وشيك لتصادم جيوش في ساحة المعركة، فإن تزايد مشاعر التمرّد المبالغ فيها هو نتاج إدراك متزايد بأن الولايات المتحدة الآن أكثر انقسامًا من ناحية الأفكار الأيديولوجية والقناعات السياسية من أي وقت مضى منذ خمسينيات القرن التاسع عشر.
انقسام متزايد
وبحسب ستوكس، فإنه من المرجح أن تكون الولايات المتحدة منقسمة على نحو متزايد، وأكثر انغلاقًا على نفسها، ومنشغلة بمواضيع الهجرة والعرق والتفاوت بين أفراد الشعب، وقضايا الهوية الجنسانية. ويتجلى هذا: "الاستيعاب الذاتي بالفعل في الانعزالية والحمائية على حساب التحالفات الأمنية والاقتصادية التي أفادت الولايات المتحدة والعالم إلى حدّ كبير لعقود مضت".
ووفق التقرير، يعتقد 54%، من المحتمل أن يكون الرقم كبيرًا أو إلى هذا الحدّ، ممن يصفون أنفسهم بالجمهوريين الأقوياء في الولايات المحتدة، بقيام حرب أهلية خلال العقد المقبل. وهناك أربعة من كل عشرة، حوالي 40%، من الديمقراطيين الأقوياء يشاطرونهم الرأي.
يقول التقرير إن هناك فعليًا أمريكيتان، وهما في حالة حرب حول القضايا الاجتماعية والسياسية والدستورية، وحول الدور الذي يجب أن تلعبه الولايات المتحدة في العالم
ويلفت التقرير إلى دعوة النائبة مارجوري تايلور جرين، وهي عضوة يمينية في الحزب الجمهوري من ولاية جورجيا، إلى طلاق وطني قائلةً: "نحن بحاجة إلى الفصل بين الولايات الزرقاء والولايات الحمراء"، في إشارة إلى اللونين اللذين يرمزان للحزبين الجمهوري والديمقراطي.
ويدعم واحد من بين أربعة أمريكيين، حوالي 23%، فكرة انفصال ولاياتهم عن الاتحاد الأمريكي.
ويشير ستوكس إلى أنّ الانقسام يمكن رؤيته في الانتخابات الرئاسية لعام 2020 بين الولايات الزرقاء التي صوّتت لجو بايدن، والولايات الحمراء التي صوّتت لدونالد ترامب. وكانت العديد من الولايات الحمراء ضمن الولايات التي انفصلت عن الاتحاد عام 1861، وشكلت الولايات الكونفدرالية الأمريكية.
ويمكن أيضًا رؤية هذا التباين بين "الأمريكيتين" عبر مجموعة من القضايا الاجتماعية المثيرة للجدل، التي تعكس انقساماتٍ أعمق من تلك التي تفرزها صناديق الاقتراع. فمن بين 15 ولاية أمريكية لديها قوانين بالغة التعقيد فيما يخص الإجهاض، صوّتت جميعها لصالح ترامب عام 2020، وكانت 7 ولايات في الأصل في الكونفدرالية.
ومن بين 21 ولاية لديها قوانين تتساهل في حمل السلاح، صوّتت 19 ولاية لصالح ترامب، و6 ولايات منها كانت مع الكونفدرالية.
ومن بين الـ19 ولاية التي قررت في عام 2022 تشديد القوانين المتعلقة بالتصوّيت، صوّتت 14 ولاية لصالح ترامب و7 منها كانت في الكونفدرالية.
ومن بين الولايات الـ23 التي سنّت تشريعًا عام 2023 يفرض قيودًا على رعاية تؤكد نوع الجنس، ومشاركة المتحوّلين جنسيًا في الألعاب الرياضية المدرسية، والتعليم المدرسي الذي يتطرّق إلى قضايا مجتمع الميم والمسائل ذات الصلة، صوّتت 22 ولاية لصالح ترامب، 9 منها كانت في الكونفدرالية.
شبح الحرب الأهلية
بالإضافة إلى ذلك، ظهرت هذه الانقسامات، التي تعود إلى فترة الحرب الأهلية، الآن في مواجهة دستورية بشأن القضايا المتعلقة بالهجرة. ففي كانون الثاني/يناير الفائت، أمرت المحكمة العليا الأمريكية ولاية تكساس بإزالة الأسلاك الشائكة التي وضعتها على طول نهر ريو جراندي لمنع المهاجرين من عبوره. ورفض حاكم الولاية، غريغ أبوت، الامتثال للأمر مدعيًا أنّ الاتفاق بين الولايات المتحدة قد تم نقضه بفعل فشل الرئيس جو بايدن في وقف الهجرة غير الشرعية.
ويلفت ستوكس إلى اقتراح أبوت بأن: "الدستور الأمريكي هو مجرد اتفاق يمكن للولايات تجاهله حسب تقديرها"، يشبه بشكل مذهل: "الأساس المنطقي للكونفدرالية الذي مكنها من مغادرة الاتحاد عام 1861".
وما يضاعف من هذه الانقسامات هو التباين المتزايد في آراء الجمهور وتفضيلات الاقتراع بين المناطق الريفية والحضرية.
ومن جهة الرأي العام، يعتقد ما يقرب من ثلثي "الأمريكيين الحضريين"، يمثلون 64%، أنّ الهجرة تقوّي المجتمع، بينما يقول 57% من "الأمريكيين الريفيين" إنّ الهجرة تهدد العادات والقيم الأمريكية التقليدية. كما أن 7 من كل 10، 70%، من "الأمريكيين الحضريين" يرون أنّ الحكومة يجب أن تفعل المزيد من الأشياء لحلّ المشاكل. ويعتقد نصف من يعيشون في المناطق الريفية، 49%، أنّ الحكومة تفعل الكثير من الأشياء التي من الأفضل تركها للشركات والأفراد.
ومن حيث تفضيلات التصويت، فإنه من بين 6 ولايات أكثر تحضرًا، صوّتت واحدة فقط لصالح ترامب، وكانت أيضًا في الكونفدرالية. ومن بين 6 ولايات أقل تحضرًا، صوّتت 4 ولايات لصالح ترامب، 2 منها كانتا في الكونفدرالية.
معارك في حرب
على الصعيد الخارجي، تنعكس هذه الانقسامات المتزايدة في المجتمع الأمريكي على "التحزّب المتزايد في العديد من المواقف تجاه دور الولايات المتحدة في العالم والقضايا الدولية الملحة".
ويعتقد 70% من الجمهوريين الذين يدعمون ترامب أنّ المساعدات لأوكرانيا لم تكن تستحق التكلفة، مقارنةً بـ69% من الديمقراطيين الذين يقولون إنها كانت تستحق ذلك.
وفيما يخص العدوان الإسرائيلي على غزة، يعتقد 6 من كل 10، 61%، من الديمقراطيين الليبراليين أن "إسرائيل" تذهب بعيدًا جدًا في عمليتها العسكرية بغزة، ويشاطرهم 8% فقط من الجمهوريين المحافظين هذا الرأي.
وتتجلّى الانقسامات العميقة بين الناخبين الأمريكيين في التوقعات المبكرة للنتيجة المحتملة للانتخابات الرئاسية القادمة في هذه المرحلة، من خلال تقرير كوك السياسي، الذي يحظى باحترام كبير، حول تقييمات المجمع الانتخابي لعام 2024، ويظهر أنّ بايدن سيحصل على 226 صوتًا من أصل 270 صوتًا ضروريًا في المجمع الانتخابي، مع أغلبية (116) من ولايات الاتحاد السابقة. ويحصل ترامب على 235 صوتًا، مع أغلبية (135) من الولايات السابقة في الكونفدرالية.
ويعتبر ستوكس أنّه "لايزال الإرث المستمر للحرب الأهلية قائمًا"، لافتًا إلى أنّه من غير المرجح أن تحلّ نتائج الانتخابات الأمريكية لعام 2024 هذه الخلافات، بل قد تعمقها على أرض الوقع، أيًا كان الرئيس القادم للولايات المتحدة.
ومثلما لم يقبل الجنوبيون أبدًا نتيجة الحرب الأهلية بشكل كامل، فمن غير المرجّح أن يقبل أنصار ترامب، يعتقدون أنّ انتخابات 2020 سرقت منهم، خسارة انتخابات 2024، ما ينذر بمزيد من الاستياء، وتجدّد العنف المحتمل.
وإذا فاز ترامب، فقد يعزو أنصار بايدن ذلك إلى تخريب الانتخابات من قبل الحزب الجمهوري، وهو ما يزيد من تنفير الديمقراطيين إزاء أقرانهم الجمهوريين.
يختم التقرير بالقول: "يحتاج أصدقاء أمريكا وحلفاؤها إلى فهم أن الولايات المتحدة أصبحت دولة غير متحدة الولايات. وهناك فعليًا أمريكيتان، وهما في حالة حرب"، مشيرًا إلى إنهما تتقاتلان حول القضايا الاجتماعية والسياسية والدستورية، وحول الدور الذي يجب أن تلعبه الولايات المتحدة في العالم. والانتخابات الأمريكية لعام 2024 هي مجرد معركة أخرى في هذه الحرب.