عند الحديث عن الأعمال الدرامية العربية التي تناولت النكبة الفلسطينية لا بد من الوقوف مطولًا أمام مسلسل "التغريبة الفلسطينية"، بما يحمله من وثيقة تاريخية صوّرت المأساة الفلسطينية منذ مطلع الثلاثينيات حتى هزيمة حزيران/يونيو من عام 1967، والتي تعتبر واحدة من أهم المراحل في تاريخ القضية الفلسطينية، بانعكاسها في الصراعات والتفاعلات الاجتماعية والإنسانية والسياسية بين شخوص العمل القائمة على عائلة أحمد الشيخ يونس أبي صالح، محور التصاعد الدرامي للأحداث، لما تمثله من انكسارات وخيبات ومحاولات جيل كامل من الفلسطينيين البحث عن خيط نجاة.
بعد مضي أكثر من 15 عامًا على عرض "التغريبة الفلسطينية" يمكن التأكيد أن شركات الإنتاج العربية لم تستطع إنتاج عمل يقدم قراءةً متوازنة لنكبة الفلسطينيين
اليوم، وبعد مضي أكثر من 15 عامًا على عرض الحلقات الأولى لـ"التغريبة الفلسطينية"، يمكن التأكيد أن شركات الإنتاج العربية لم تستطع إنتاج عمل يقدم قراءةً متوازنة لنكبة الفلسطينيين، كما حدث في العمل الذي كتبه السيناريست وليد سيف، وحمل توقيع المخرج حاتم علي، بتقديمه نصًا متكاملًا وشاملًا لقصة الفلسطينيين، وهو العيب الذي تفتقر إليه الدراما العربية عند الحديث عن نكبة الفلسطينيين بمشاهد عابرة تُظهر تضامن العرب مع الفلسطينيين في ثورة 1936 بإرسال السلاح للثوار الفلسطينيين.
لم يتطرق سيف في نصه لمعالجة أسباب نكبة الفلسطينيين بقدر ما أراد إبراز حقائق تاريخية متوازنة تُثير أسئلة إشكالية مرتبطة بالأحاديث الشفوية التي تقول إن الحق يقع على الفلسطينيين ببيع أراضيهم للصهاينة، ومحاولة تحويل الفلسطينيي من لاجئ صاحب قضية مركزية إلى تاجر أراضي أو سمسار، وهو ما ظهر واضحًا في حلقات العمل بظهورها في خلافات عائلة أبي أحمد مع المختار أبي عايد، وانكسارات الابن الأكبر صالح أبي أحمد بعد فشل الثورة الفلسطينية الكبرى في عام 1936 مما كان لها أثر سلبي على نتائج حرب 1948.
ما أراد سيف تقديمه في التغريبة الفلسطينية ليس صورة تقليدية عن نكبة الفلسطينيين، ولا حتى إعادة تأريخ المؤرخ بقصة مختلفة، إذ إنه ذهب في النص إلى الأسباب والنتائج الحقيقية التي كانت السبب في فشل الثورة الفلسطينية الكبرى، ظهرت في التفاعلات والانقسامات الاجتماعية ضمن عائلة أبي أحمد نفسها، والتفاعلات والانقسامات الاجتماعية داخل أبناء المخيم أنفسهم، والتخالط الاجتماعي بين سكنى المخيمات وأبناء المدن الحضرية مع ظهور واضح للفوارق الطبقية وإظهار الخلاف على وجهات النظر فيما يخص القضية الفلسطينية.
دائمًا ما يؤكد سيف على مقولة ثابتة يستخدمها في إجابته على أسئلة الصحفيين، يعتبر فيها أن "العمل الدرامي التاريخي ليس عملًا تسجيليًا تاريخيًا تعليميًا" إنما هو "عمل فني درامي في المقام الأول يوظف المادة التاريخية"، دون أن "تجور هذه الصفة الفنية على الحقائق التاريخية فتزيفها وتحرفها بدعوى الإسقاط أو التصرف الفني الدرامي"، من هذا المنطلق فإن تميّز "التغريبة الفلسطينية" لم يكن بسبب تقديم قصة جديدة عن نكبة الفلسطينيين بقدر ما قدم إعادة توثيق مأساة الفلسطينيين بصريًا عبر محاور مختلفة فيها الكثير من السرديات المؤرشفة في المراجع التاريخية.
لذا ليس غريبًا اعتبار أن العمل رغم عرضه في فترة زمنية متأخرة – عرض لأول مرة في تشرين الأول/أكتوبر 2004 – فإنه لا يوجد عمل فني أنتج في تاريخ الدراما العربية التي تحاكي القضية الفلسطينية قبل أو حتى بعد "التغريبة الفلسطينية" يوازي ضخامته الفكرية والثقافية، وهو عكس ما قدمته أو تقدمه الدراما العربية بتحميلها الفلسطينيين مسؤولية الدم، وتناول التسلسل التاريخي للقضية الفلسطينية من منظور يدخل ضمن عجلة الأجندة الإعلامية التي تروج لصفقة القرن عبر تحوير أهم الأسباب التي أوصلت بالفلسطينيين إلى شتاتهم العالمي.
وفي هذا السياق لا يمكن القول إن الأعمال التي أنتجت سواء في الموسم الرمضاني الحال أو في المواسم السابقة لم تقم بالإساءة للقضية الفلسطينية الحاضرة في الأعمال الدرامية بترميزات سريعة، والذي يمكن سوقه على مسلسل "سوق الحرير" التي تظهر فيه شقيقة أم عمران مع ابنتها في منتصف المسلسل قادمة من فلسطين، وهي المرحلة التي تستبق هزيمة 1967، لكن ظهور الشخصيتين في هذه الصورة يحمل ترميزًا سياسيًا يراد من خلاله التأكيد على استقبال دمشق للاجئين الفلسطينيين.
لم يهدف مسلسل "التغريبة الفلسطينية" إلى تقديم قصة جديدة عن نكبة الفلسطينيين بقدر ما أراد إعادة توثيق هذه المأساة بصريًا
بهذه السياقات السريعة نجد نكبة الفلسطينيين، بالإضافة للصراع العربي – الإسرائيلي حاضرة في الدراما العربية، تحاول فيها الدول المنضوية ضمن منظومة الجامعة العربية تحميل الفلسطينيين مسؤولية تشريدهم في الشتات، والتنصل من مسؤولية فشل حروب الفلسطينيين في صراعهم مع الإسرائيليين، باستخدامهم الدراما العربية لتبرئة أنفسهم أمام الرأي العام العربي.
أي أنهم حاولوا مساعدة الفلسطينيين حتى النهاية.. الآن أصبح على الفلسطينيين مساعدة أنفسهم، أو بمعنى آخر يحمل بذورًا قومية بتقديم مجموعة من الدول العربية نفسها على تفتح ذراعيها لاستقبال الفلسطينيين، غير أن ما يحصل عكس ذلك عبر ضخ سيل من الأكاذيب في إطار الأجندة الإعلامية التي تحاول التأثير على الرأي العام العربي عبر الدراما العربية، لكنها تؤكد في الوقت نفسه على أن الفلسطينيين دائمًا ما كانوا لوحدهم في صراعهم مع الإسرائيليين، وأن التغيير الذي طرأ على ذلك تسابق الدول العربية على التطبيع مع إسرائيل بشكل علني بعد أن كان من تحت الطاولة سابقًا.