لطالما كان المجتمع السينمائي في لوس أنجلوس ساحة اعتراك فكري نشطة تعجّ بالاصطفافات من كتّاب وممثلين ومخرجين ومنتجين، لإجراء مراجعات عميقة وجدية تجاه الصور النمطية السائدة حول القضايا التي تخص مجموعات عرقية بعينها، أو جماعات دينية، أو حتى اتجاهات جندرية.
وتسعى تلك التيارات الفكرية السينمائية، على الدوام، إلى التنبيه من خطر تنميط النماذج الإنسانية في قوالب حكائية سينمائية، من شأنها تأصيل الانطباعات العامة وتبنيها على المستوى المحلي والعالمي. وقد وصلت تلك المجادلات الفكرية التي تستحوذ على اهتمام الصحافة وتعليق علماء الاجتماع، وحتى السياسيين، إلى حد المقاطعة والاحتجاج وإطلاق حملات على مستويات عالية من الجدية، وبمشاركة نجوم ونجمات الصف الأول في "هوليوود"، طلبًا لإجراء تلك المراجعات، وتحطيم الصورة النمطية، وإنهاء التمييز، والتخلص من التعميم تجاه جماعات معينة.
قاد الجدل المحتدم بين البُعد الربحي للسينما التجارية، والتحولات في علوم الاجتماع وعلم الاجتماع السياسي، إلى سينما تبحث عن خلق توازن معين بين الهدف والمعنى
ساهمت تلك النقاشات الحامية بتصحيح صورة السكان الأصليين لأمريكا، وعملت على بناء ذاكرة سينمائية جديدة تنبذ التعميم وتتمسك بالحكاية السينمائية العادلة، ولا تركن للمزاج الشعبوي الذي يغذي تلك الصور النمطية ويُدرُّ المزيد من الأموال في حسابات شركات الإنتاج الكبرى، إذ حاولت السينما بعد مناقشات محتدمة إعادة الاعتبار إلى السود والاحتفاء بثقافتهم، كما توقفت عن نعتهم بـ"السود"، واستبدلت التسمية بـ"الأمريكيين من أصول أفريقية"، ولم تكن تلك معالجة سطحية تتعلق فقط بالتسمية، بل حررت السود مرة أخرى لكن سينمائيًا هذه المرة، وصارت تبحث عن معالجات أكثر عمقًا لتقديم الرجل الأسود بعيدًا عن مناخ الجريمة المنظمة، والمخدرات، والأحياء العشوائية، والخروج عن القانون.
لم يكن هناك مفر من أن تنعكس تلك النقاشات المدوية، على سياسات الإنتاج السينمائي بالنسبة لاستديوهات "هوليوود" الضخمة، ولم تعد تلك الشركات، كبيرة كانت أم صغيرة، تستطيع القفز فوق الجدل الدائر والاستمرار في تأصيل ونمذجة الشخصية السينمائية وفق قواعد الإنتاج الكلاسيكية القديمة، بل عملت على فهمها، ونقدها، والانتقاء منها بما يتناسب مع متطلبات سوق الفيلم الدولي.
واشتغلت أيضًا على تضمين تلك الرؤى الجديدة بشكل تدريجي وبحذر، إلا أن شدة تسارع الأفكار والقيم والمعايير في عالم متغير، جعل شركات الإنتاج تلهث وراء إجراء تحديثات متعاقبة ومتقاربة على فلسفتها الإنتاجية للنجاة والبقاء في مضمار المنافسة على شبابيك التذاكر. فما كان مقبولًا قبل سنتين، لم يعد مقبولًا الآن، وقد يُقرأ بطريقة فيها انتقاص من جماعة عرقية أو جندرية بعينها.
يمكن للمرء فهم خلفيات الصراع الفكري المحتدم في "هوليوود" من خلال الهجوم الذي شُن على فيلم "باربي" صيف عام 2023. فعلى الرغم من أن فكرة الفيلم قامت في الأصل على تحطيم الإطار الذي يحبس شخصية باربي، بوصفها أيقونة للمثالية وجمال المرأة، وإطلاقها في العالم الحقيقي لإعادة اكتشاف نفسها خارج مفردات باربي المعروفة، إلا أنه قُوبل برفض شديد، واتُّهم بالترويج للمثالية الزائفة وتسطيح النظرة تجاه المرأة، وبتأصيل صورة المرأة المثالية التي يريد الرجل أن تكون عليها.
وعلى الرغم من تحقيق الفيلم إيرادات عالية جدًا تخطت المليار دولار حول العالم، إلا أن هذا النجاح التجاري استُخدِم ضد الفيلم من قبل مجموعات الضغط التي رأت في الإيرادات العالية شيئًا مثيرًا للإحباط، ومؤشرًا على توجّه السينما في "هوليوود" نحو تأصيل الأفكار النمطية وتسليع المرأة، ولوصول هذه الجدلية إلى نقطة في منتصف الطريق يلتقي فيها التجاري بالفكري.
وكان على مجموعات الضغط الفكرية، من ممثلين وكتاب ومخرجين ومنتجين، أن يتقبلوا فكرة أنّ تبنّي فلسفة سينمائية جديدة يجب ألا تكون عائقًا أمام صناعة الترفيه ودفعًا لهذه الصناعة المربحة نحو الانكماش والتراجع، بل يجب العمل على إيجاد ما هو مشترك وممكن، وتنفيذه بذكاء وفطنة لتحقيق الهدفين معًا. وكان على حيتان الاستديوهات إرخاء القبضة البطريركية والاعتراف بسطوة ثقافة البيض على هذه الصناعة والتحرر التدريجي منها، وفسح المجال لجعل السينما ميدانًا للتنوع الثقافي، وفنًا يخص البشرية جمعاء، ولن يتحقق ذلك إلا بوجود فلسفة إنتاج عابرة للأيديولوجيا وعادلة في تأصيلها للنموذج الإنساني في السينما.
هذه الانحناءة في وجه رياح التغيير الـ"نيوليبرالية" التي قامت بها الشركات الكبرى في "هوليوود"، عززت على سبيل المثال حضور نماذج مختلفة وملونة من الأبطال الخارقين، ولم تعد سحنة البطل الخارق ملتزمة على الدوام بصورة الرجل الأبيض. فعلى سبيل المثال، انفتح "عالم مارفل"، على مجموعة كبيرة من الأبطال الملونين، وقد انعكس ذلك بشكل إيجابي بالمعنى التجاري، وسجّل انتصارًا لمجموعات الضغط بالمعنى الفكري.
أحدثت هذه القفزات الصغيرة المتلاحقة قفزة كبيرة بمفاهيم صناعة السينما التجارية، وصارت هذه الشركات الصانعة للترفيه تأخذ بجدية متصاعدة الأثر التراكمي الذي تُحدثه صورة ومفهوم البطل بالنسبة لجمهور السينما حول العالم، ويمكن ملاحظة هذه التحولات السريعة، بمثال واضح وصريح، تقدّمه لنا سلسة أفلام "الرجل العنكبوت" الشهيرة، إذ ثمة فارق شاسع بين النسخة الأولى المنتجة عام 2006 وبين الأجزاء اللاحقة، إذ يظهر جليًا تضمين السلسة لأبطال خارقين ملونين، فضلًا عن البطلات الخارقات. وبعد أن كان لدينا رجل عنكبوت مصاغ بالطريقة الكلاسيكية التي لا تختلف بجوهرها عن سيرة "سوبر مان"، الرجل الأبيض المنكفئ المتخفي، والأنثى التي تتحرك في ظله، صار لدينا عناكب ملونة متبانية باللون والجنس.
وبالطبع، سوف يقود هذا التحول إلى إعادة استكشاف صورة المرأة في السينما التجارية، وخلق صورة مغايرة لها عن تلك التي كانت تظهر فيها، كامتداد لشخصية البطل، وبمحدودية وظيفتها السينمائية، التي تحاكي مفهومي الحب والإثارة، لتتجه استديوهات "هوليوود" في السنوات القلائل المنصرمة، إلى تأصيل نموذج سينمائي مغاير للمرأة في السينما التجارية، وبدأت الشركات برفد هذه الصناعة بالمزيد من سيناريوهات البطلات الخارقات.
تنبّه التيارات الفكرية السينمائية في "هوليوود" من خطر تنميط النماذج الإنسانية في قوالب حكائية سينمائية من شأنها تأصيل الانطباعات العامة
هذا الاتجاه لم تبدأ به "مارفل"، بل التقطت هذا التوجه وعملت على تعميمه وتأصيله بشكل متلاحق، إن كان في أفلامها عن الأبطال الخارقين، أو في صناعة بطولة مطلقة للمرأة الخارقة، كما فيلم "كابتن مارفل". لكن هذه الفلسفة الإنتاجية بدأت قبل ذلك من خلال مجموعة من الأفلام التجارية والنوعية، مثل "ملائكة تشارلي"، وفيلم "كيل بيل" لترانتينو، وبعض أفلام الحركة والرعب، التي صارت تعتمد على امرأة خارقة في محاربة الوحوش والنجاة.
ولم ينحصر هذا الأمر في السينما التجارية، المتخصصة بإنتاج أفلام مبنية على القصص المصورة، بل تمدد داخل سينما الحبكة البوليسية والحركة، مثل سلسلة "مهمة مستحيلة"، إذ لم يعد شرطًا أن تكون شخصية الرجل الشرير المطلوب من قبل فريق العملاء الاستخباريين ذوي المهارات الاستثنائية، بل صار من الممكن أن يكون هذا الشرير امرأة جميلة تجمع بين الرقة والقسوة، وهذا ما سعت إليه مجموعات الضغط الفكرية في عدم تأطير المرأة في السينما التجارية، بأدوار جندرية نمطية، وصارت أكثر اهتمامًا بعرض وجهة نظر المرأة وفلسفتها حول مفاهيم مختلفة، مثل البطولة والقوة والعنف.
هذا الجدل المحتدم بين البعد الربحي للسينما التجارية، وبين التحولات في علوم الاجتماع وعلم الاجتماع السياسي، قاد وسوف يقود حتمًا إلى سينما تبحث عن خلق توازن معين بين الهدف والمعنى، بين الروح الشعبوية للسينما التجارية، وبين سينما رابحة وعادلة معًا.