للمفكر المغربي سعيد ناشيد العديد من المؤلفات ذات المساهمة في التنوير المجتمعي بالفلسفة، منها "قلق في العقيدة"، و"دليل التدين العاقل"، وأحدثها "التداوي بالفلسفة". كما أن له العديد التعليقات والمداخلات المواكبة للربيع العربي، وبحثًا وتفنيدًا.
سعيد ناشيد: لا يعيب الثورات العربية أنها فشلت، فالفشل فرصة للنجاح حين يكون التقويم هادئًا وملائمًا بشرط أن نملك شجاعة الاعتراف بالفشل
وهذا الحوار الذي خصه لـ"الترا صوت"، يضيء على إشكاليات الثورات العربية ومآلاتها، ويعرض لشؤون وشجون الشعوب العربية والآليات الممكنة لتحقيق الآمال والأحلام التي تخول للشعوب العربية الانتقال إلى الاستقرار والازدهار.
اقرأ/ي أيضًا: حوار | يانيس فاروفاكيس.. الحياة قصيرة الحرب أطول!
- ما حلّ بالثورات العربية، فشل أو موت؟
فشل الثورات ليس معناه سوى نهاية ما كان يسمى بالربيع العربي، أو موته المبكر. وفي كل الأحوال، أعتقد أن الأمر يتعلق بفشل ذريع وسريع أيضًا، وذلك بالنظر إلى قياس الفارق الكبير بين الأهداف المعلنة والنتائج المتحققة.
كانت الأهداف المعلنة متعلقة بمطالب الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، غير أن النتائج المتحققة لا تخرج عن أمرين: إما فتنة لا تبقي ولا تذر، أو عودة إلى استبداد أشد قسوة وضراوة. كما لو أن الأمر يتعلق بالتاريخ الدائري وفق رؤية ابن خلدون، أو بالزمن الدائري وفق أسطورة سيزيف.
لكن لا يعيب المحاولة أنها فشلت، فليس عيبًا أن نفشل، بل الفشل هو فرصة للنجاح حين يكون التقويم هادئًا وملائمًا، لكن شريطة أن نمتلك شجاعة أن نقول: لقد فشلنا. هل امتلكنا ذلك الشرط؟ أشك في ذلك.
مثلًا، خلال الشهور الأولى للثورة السورية، أنشأ الناشطون على فيسبوك صفحة رائدة بعنوان "نقد الثورة السورية"، كانت الصفحة فرصة للنقد الذاتي، والتقويم الذاتي، والاعتراف بمكامن الخلل. غير أن الصفحة لم تعمر طويلًا إذ لم يعد أحد يهتم بمساءلة الذات. لقد حل خطاب الحقد محل خطاب النقد. هنا مكمن الخلل.
- البعض يردد أن الربيع العربي كان مؤامرة ضد البلدان العربية، ما رأيك في هذه المقولة؟
إن كان هناك من ادّعى اكتشاف أن اندلاع الثورات لم يكن سوى مخطط استعماري لتقسيم المنطقة، فهناك في المقابل من ادعى اكتشاف أن العمل على إفشال الثورات هو المؤامرة التي حرمت مجتمعاتنا من محاولة التحرر من نير الاستبداد.
إن كان هناك من رأى في محاولة إسقاط بشار الأسد مؤامرة استعمارية على الدولة السورية لغاية القضاء على ما يسمى بمحور الممانعة، فهناك في المقابل من رأى أن تراجع النظام الدولي عن الرغبة في إسقاط الأسد هو المؤامرة عينها لكي يبقى الحال على ما هو عليه، وهكذا دواليك.
وبهذا النحو تغدو نظرية المؤامرة حمالة أوجه، حيث بوسعها أن تبرر القضية ونقيضها في نفس الوقت. ولكي لا ننسى، فإن العقل الذي يعتبر حرب الإرهاب على العالم مؤامرة غربية على الإسلام، هو العقل نفسه الذي يعتبر حرب العالم على الإرهاب مؤامرة على الإسلام.
أقول ما يقوله الحس السليم بمعزل عن وسواس المؤامرة: اندلعت ثورات الربيع العربي لعوامل داخلية بالأساس تكمن في استشراء الفقر والطغيان، وفشلت لعوامل داخلية أيضًا تكمن في تفشي الجهل والتهور.
أما العوامل الخارجية، فهي في كل أحوالها عوامل مساعدة. أي نعم، إن الذي يستعين بجزء من الخارج هو بالضرورة جزء من الداخل، سواءً تعلق الأمر بالأنظمة أو بالثورات. وهذا ما لا يجوز نسيانه في كل الأحوال.
- وماذا عما يقال لدى البعض بأن حلم الإسلام السياسي بالحكم هو الذي انتهى؟ هل تجد أن الرابط صحيح وواقعي بين الربيع العربي والإسلام السياسي؟
قد يركب الإسلام السياسي على الثورات، لكنه لا يصنعها. قد يسيطر على الدولة لكنه لا يبنيها. قد يسطو على المفاهيم والقيم لكنه لا يبدعها. قد يوظفه هذا الطرف أو ذاك، قد يهيج الناس ضد هذه الجهة أو تلك، لكنه لا يملك رؤية إستراتيجية للأمور.
ومع أنه (الإسلام السياسي) التيار الأكثر قوة عدديًا، إلا أنه لا ينجح في رهان التغيير حين يكون التغيير مطلوبًا، ولا ينجح في رهان الاستقرار حين يكون الاستقرار مطلوبًا. والواقع أن عناوين الإسلام السياسي لا تتضمن غير المزايدة والسجال: الرد على العلمانيين، الرد على الشيوعيين، الرد على ماركس أو فرويد أو داروين... إلخ. خارج هذا السجال الذي يتخذ طابعًا تبشيريًا ودعويًا، لا وجود لأطروحات أصلية.
- ماذا عن بعض الطموحات بالدولة المدنية العلمانية؟
لستُ متأكدًا إن كانت الدولة المدنية العلمانية حلم الشعوب العربية كافة، لكن المؤكد أن البدائل الأخرى مجرد كوابيس مرعبة، كما أكدت تجارب داعش وبوكو حرام على سبيل المثال. هذا ما جربته بعض الشعوب بنفسها، ودفعت ثمنه غاليًا.
هناك بالفعل نوع من اليقظة العلمانية في أوساط الشباب بنحو غير مسبوق، لكن المطلوب أن تتحول اليقظة إلى مشاريع حقيقية تشمل التفاصيل. وفي غياب ذلك، فإن السياسة مثل الطبيعة بدورها تخشى الفراغ، ومن الفراغ تنبع أشد المخاطر فتكًا.
دولة المؤسسات المدنية العلمانية والديمقراطية هي مستقبل البشرية جمعاء في آخر التحليل. إما أن نسير في هذا المنحى الذي يمثل حركة التاريخ المعاصر، أو سيأكل بعضنا بعضًا خارج التاريخ في آخر الحساب.
- هل يمكن القول إن الثورات العربية ستشهد بداية ثانية حين تظهر تداعياتها؟
لا يمكنني أن أنكر بأن معظم مجتمعات المنطقة لا تزال مهددة بالانفجار في أي لحظة. معضلتنا أننا لا نستوعب الدروس كما ينبغي، وبالأحرى لا نريد أن نتعلم.
غير أن مخاطر الفتنة لا تزال حاضرة في كل الأحوال، لا سيما أمام ضعف التنظيمات السياسية، وعجزها عن القيام بأعمال التأطير والوساطة بين الشعوب والدول.
- هل أنت متشائم أم متفائل بمستقبل الشعوب العربية؟
أن أكون متفائلًا أو متشائمًا فهذا لا يعني لي أي شيء، اللهم إلا حين يتعلق الأمر بمجالي الخاص. أما الذي يهمني حين يتعلق الأمر بمسائل الشأن العام فهو السؤال التالي: إلى أين يجب أن تتجه الأمور بالنظر إلى المعطيات المتوفرة؟ وبعد ذلك فأنا مدرك بأن الأمور لا تتوقف عليّ، اللهم في حدود "أثر الفراشة".
لكن دعني أعترف بأنني أحاول أن أعبر عن وجهة نظر "المناضل السعيد". نعم، كم أحب تجربة ناشطي جنوب أفريقيا حين كانوا يحتجون على نظام الفصل العنصري وهم يرقصون في الشوارع.
- هل تخشى لجوء الأنظمة إلى المزيد من الحملات الانتقامية الواسعة في المستقبل؟
ما يخيف في إجراءات الانتقام أنها قد تسرع من وتيرة السقوط في الفتنة، والفتنة بئر بلا قعر، مثلما جرى في الحالة السورية، وقد يتكرر في الحالة السودانية أيضًا.
المجتمع الذي يفكر في الانتقام من الدولة، هو مجتمع مختل يحتاج إلى إصلاح ثقافي. والدولة التي تفكر في الانتقام من المجتمع، هي دولة فاشلة تحتاج إلى إصلاح سياسي.
- هل ثمة أمثلة تاريخية يمكن استدعاؤها للمقاربة بنماذج الثورات العربية؟
أعتقد أن تجربة جنوب أفريقيا في مقاومة نظام الفصل العنصري، ومن ثم تدبير ما يسمى بالعدالة الانتقالية، تبقى تجربة رائدة وملهمة لمجتمعاتنا كافة، سواءً تعلق الأمر بالمجتمعات التي شهدت تجربة ما كان يسمى بالربيع العربي، وخرجت بأضرار فادحة، أو تعلق الأمر بالمجتمعات التي تحاول أن تضمن انتقالًا آمنًا بأقل ما يمكن من المخاطر والخسائر.
- هل يقاس عمر الثورات بسنوات معدودة على الأصابع؟ البعض نعى الربيع العربي في مدة لا تتجاوز عشر سنوات، ما رأيك في ذلك؟
إذا كنا نتحدث عن الثورات، فإن العنوان الذي أراه مناسبًا الآن هو النعت الذي سبق أن أطلقه تروتسكي على الثورة الروسية حين وصفها بـ"الثورة المغدورة". وأما إذا كنا نتحدث عن الحروب الأهلية والفتن، فالواقع يشهد أنها باقية، وتتمدد أحيانًا.
يمكننا أن نختار عما نتحدث، الثورات أم الحروب الأهلية؟ لكن لا يمكن الخلط. بالمناسبة أيضًا، عندما حكم تروتسكي على الثورة الروسية بأنها ثورة مغدورة، كان قد مر على اندلاعها أقل من عقدين من الزمن، وكان هناك من يزعم في المقابل بأن 20 سنة لا تكفي لتقييم ثورة عظيمة داخل إمبراطورية عظيمة!
- لماذا لا يمكن الوصول لحلول سياسية في دول الثورات العربية، بحيث يتم مشاركة السلطة بين العسكر والمدنيين؟
حين يكون الحسم العسكري باهظ الكلفة وطويل الأمد، يصير الحل السياسي هدفًا أخلاقيًا ملحًا، وذلك لأجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه. أنا من دعاة احترام المؤسسات العسكرية وعدم تبخيسها، غير أن حكم العسكر غير مرغوب فيه، وتقاسم السلطة بين العسكر والمدنيين كذلك غير مرغوب فيه، وهو لا يرقى إلى مستوى الحل السياسي بكل تأكيد.
إن الحل السياسي هو تدبير لمرحلة انتقالية تستغرق زمنًا محددًا، وتشمل العدالة الانتقالية بكل قواعدها ولوازمها، انطلاقًا من الحقيقة والاعتراف، ووصولًا إلى المصالحة والإنصاف.
- ما الذي أفرزته الثورات العربية بحسناتها وسيئاتها في رأيك؟
الحسنة الوحيدة في رأيي، أنها أقنعت الكثيرين بأن الإصلاح الديني يجب أن يصير ضمن الأولويات.
- ما هو مصير المثقف العربي مع فرض الأنظمة ثقافتها الأحادية أو ثقافة المنتصر؟
الضحية الأولى للاستبداد هو المثقف في كل أحواله، أكان ناقدًا للسلطة، أم ناقدًا للمجتمع، أم كان ناقدًا لنفسه وكفى. ذلك لأنه حتى وإن لم يكن ناقدًا للسلطة فإنه يبقى مزعجًا لها؛ إذ يكفي أن يكون مستقلًا لا يندرج ضمن خانة معلنة مسبقًا حتى يبدو كأنه يمثل حالة انفلات تحتاج إلى إعادة ضبط.
بل يكفي أن يفكر حتى يبدو مثيرًا للريب في كل أحواله، في صمته وكلامه، في زهده وعناده، في عزلته واختلاطه، في سفره ومكوثه... إلخ. ولربما يكمن أساس المشكل في أن النظم التقليدية لا تتوفر على برمجيات قادرة على التعامل مع المفكر الحر.
- كلمة أخيرة للشعوب العربية!
قد لا ينجح التغيير عبر ثورات كبرى متعطشة للدماء وتسحق أبناءها قبل غيرهم، مثلما جرى للثورة الفرنسية التي باسمها قُتل أهم قادتها، ومثلما جرى كذلك للثورة الروسية التي باسمها قُتل أهم قادتها. لكنه قد ينجح على الأرجح عبر ثورات صغرى تتخذ شكل معارك جزئية في التفاصيل، وأحيانًا في تفاصيل التفاصيل.
مثلًا: يمكننا في كل الأحوال الضغط لأجل تغيير بند في الدستور، أو قانون الأسرة، أو القانون الجنائي... إلخ. كما يمكن التركيز على بعض المناهج الدراسية، سواء باسم المساواة أو المواطنة أو حقوق الإنسان.
أعتقد أن قوة الحالة التونسية اليوم، والتي تمثل نوعًا من الاستثناء الحقيقي في محيط بالغ الخطورة والتعقيد، أنها مباشرة عقب هروب الديكتاتور، تخلت عن فكرة الثورة الجذرية الشاملة وفق أسلوب "كل شيء أو لا شيء"، خلاف الحالة الليبية التي تكاد تنتهي اليوم إلى لا شيء.
سعيد ناشيد: قد لا ينجح التغيير بثورات كبرى قد تسحق أبناءها قبل غيرهم، بل بثورات صغرى تأخذ شكل معارك جزئية في التفاصيل
لقد فضّل التونسيون الانتقال بسرعة من وهم الخلاص الثوري إلى معارك صغرى في التفاصيل: قوانين الانتخابات، تجريم التكفير، المساواة في الإرث... إلخ، وهي معارك قد لا تحقق كل شيء، لكنها تحمي الإنسان من مشاعر الخيبة والإحباط التي عادة ما تعقب اللحظات الثورية ذات السقف العالي، حين لا تتحقق الأحلام بضربة سحرية كما يتوقع كهنة الخلاص الثوري.