إعداد: أمل بوشارب وسفيان البالي
لا يختلف اثنان في أن الأدب الفلسطيني كان، ولا يزال، أفضل سفير للقضية. هو الذي، ومنذ ما يزيدُ عن نصف قرن من الزمن، يخترق الضمير العالمي بأداة الكلمة، وبقوَّة كتابه وشعارئه، معرفًا بالحق الشعبي لفلسطين في أرضها، ومحفزًا العالم ليقف بجانب هذا الحق. إن هو إلا دوره العضوي، كما دور مثَقَّفيه، أن يكون مكانه ومكانهم على خط الصراع، وإلى طرف العدالة التاريخية لشعب يناضل من أجل تحرره.
يحاور "الترا صوت" يولاندا غواردي، الناقدة الإيطالية وأستاذة الأدب والثقافة العربية بجامعة ماسيراتا، حول الأدب الفلسطيني في أوروبا
كيف دخل الأدب الفلسطيني أوروبا، وكيف يقرأ الأوروبيون هذا الأدب؟ وبالمقابل، أي صورة اكتسبها الإنسان الفلسطيني في الأدب الأوروبي؟ هي أسئلة نطرق باب إيطاليا للإجابة عنها، على لسان إحدى باحثاتها وكاتباتها المرموقات، الأستاذة يولاندا غواردي، الناقدة الإيطالية وأستاذة الأدب والثقافة العربية بجامعة ماسيراتا، التي تحضر في مقابلة حصريَّة لـ"الترا صوت".
- سيدة غواردي، لنبدأ بسؤال عام. هلَّا أعطيتنا نبذة عن تاريخ ترجمة الأدب الفلسطيني إلى الإيطاليَّة؟
الأدب الفلسطيني معروف على نحو لا بأس به في إيطاليا وذلك منذ زمن، حيث تعود الترجمات الأولى إلى اللغة الإيطالية إلى ثمانينيات القرن الماضي. وهنا لا يفوتني التنويه بإيزابيلا كاميرا دافليتو التي تعتبر أول من نشر الأدب العربي المعاصر في إيطاليا، والأدب الفلسطيني على وجه التحديد، حيث ترجمت غسان كنفاني وغيره من كبار الأدباء (كما أنها كانت المؤلفة الوحيدة التي خصصت كتابًا كاملا أفردته للثقافة الفلسطينية: مائة عام من الثقافة الفلسطينية).
تنتمي "كاميرا" إلى جيل كان لديه حس عالٍ بالأحداث التي كانت تدور في المنطقة، وهو حس اضمحلّ للأسف بمرور الوقت. إذ تضاءل الاهتمام بالأدب الفلسطيني على مر السنين إلى حد اختفائه تقريبًا. تناقُص الاهتمام بالأدب الفلسطيني تَرافق بطبيعة الحال مع قلة الاهتمام بالأدب العربي بشكل عام، والذي عاد إلى حد ما للازدهار في نهاية الثمانينيات بفضل حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل للآداب. هذه كانت نظرة سريعة لابد منها على المشهد العام للترجمة من اللغة العربية في إيطاليا.
- هل ارتبطت عمليَّة الترجمة هذه بتيارات معيَّنة، فكريَّة أو أيديولوجيَّة؟ وهل هناك تأثير ، كمي أو كيفي، للأحداث الحاصلة على الأرض عليها؟
ثمة اهتمام قليل بالإنتاج الثقافي للدول العربية بشكل عام، والفلسطيني على وجه أخص، والذي يتم اختزاله في "الإشكال السياسي" إذا جاز التعبير، وهو ما يعني تطبيق آلية استعمارية سالخة، تحول الفلسطينيين إلى شعب غير منتج لأي ثقافة. وهكذا تُركت مهمة نشر الأدب والثقافة الفلسطينية عندنا للجمعيات التي تدعم القضية الفلسطينية. وهو حال وسيم دهمش، أستاذ اللغة العربية في جامعة كالياري لسنوات، والذي أسس دار النشر EdizioniQ التي تُعنى بترجمة الأدب الفلسطيني في إيطاليا.
لكن وكما سبق أن حدَّثتكم في مقابلة سابقة، أنه للأسف ليس هناك بشكل عام توزيع كبير للإنتاج الأدبي العربي في إيطاليا، وبالتالي يبقى هذا الأدب معروفًا في مجالات محددة جدًّا. وأعتقد أن انتشار قراءة الأدب العربي في إيطاليا قد يساعد على فهم الهوية على شكل فسيفساء وليس بشكل أحادي، كون هذا الشكل الأخير هو الذي يسمح بتصاعد اليمين سواء في إيطاليا أو في البلدان الأوروبية الأخرى .
- وما هي الإضافة التي قدَّمها المشروع المذكور؟
مع كل ما يكتنف هذا المشروع من عراقيل، لأن الأمر هنا يتعلق بدار نشر صغيرة لا توزع في كبريات المكتبات الإيطالية. إلا أن دار EdizioniQ أصدرت على مدى سنوات العديد من الروايات، والمجموعات القصصية وبعض الأعمال الشعرية. وهذا مسعى مثير للاهتمام، لأننا عمومًا نصبُّ تركيزنا على الرواية فقط. وقد قام دهمش بنفسه بترجمة عملين شعرييين لإبراهيم نصر الله، أحد أكثر المؤلفين الفلسطينيين شهرة وغزارة في الإنتاج، والذي لم يكن معروفًا في إيطاليا بوصفه شاعرًا، وكان من الممكن التعرف على نتاجه بالإيطالية سوى من خلال رواية وحيدة نُشرت عام 2001. وإلى الآن له روايتان مترجمتان غير متوفرتان في السوق. فيما اللافت للنظر هو الإنتاج الشعري الضخم لنصر الله والتزامه الشديد بالدفاع عن حقوق الفلسطينيين. وقد كتب في شبابه كلمات أغاني فرقة موسيقية ملتزمة، لكن كل التزامه السياسي تم محوه تمامًا كما لو كان الكتاب يعيشون في عالم منفصل لا يتعاطى شؤون السياسة.
في هذا الصَّدد، هناك ملمح آخر مثير للاهتمام يتعلق بضرورة مطابقة الأعمال المترجمة لبنية الخط النمطي للرواية الذي يلتزم بها كتَّاب المغرب العربي المتأثرين بالنمط الفرنسي... EdizioniQ بالمقابل لها عناوين في الرواية التجريبية، كـ "بلاد البحر" لأحمد رفيق عوض، أثبتت أن الرواية الفلسطينية قادرة على تقديم أدب جميل ومعاصر.
- كيف يؤثِّر الموروث الكولونيالي الأوروبي على التعاطي الأدبي مع فلسطين أوروبيًا؟
عن هذا قد يتطلب مني الأمر كتابة مجلد بأكمله. الحقيقة أن النظرة الاستعمارية هي أشبه بضباب يلف البنية المجتمعية ويفرض علاقات قائمة على منطق عنصري وطبقي. بـ"طبقي" أعني ذلك "الامتياز الأبيض"، تلك النظرة التي تفرض وجهة وحيدة للنظر إلى العالم. هي نظرتها فقط ومعها تقوم بتنفيذ إبادة ممنهجة للمعرفة، أي محاولة إلغاء بقية وجهات النظر الأخرى ومنها بالطبع وجهة النظر العربية والمسلمة. من الصعب جدًا تقويض هذه المنظومة وأولئك الذين يحاولون فعل ذلك يدفعون الثمن من خلال نبذهم من المجتمع العلمي والأكاديمي. ثمة حاجة لنشر وجهات نظر مختلفة (وهذا ما سنحاول القيام به من خلال سلسلة أرابسك) لكن الأمر يبقى صعب للغاية. باعتقادي لا بد من إنشاء تحالفات بين المثقفين العرب ومن يحملون وعيًا باللحظة حتى ممن يحظون بالامتياز الأبيض (بمن فيهم أنا شخصيًا كاتبة هذه الكلمات). نحن بحاجة لنشر وجهات نظر مختلفة.
- وبالتالي ما هي الصورة التي يمنحها الأدب الإيطالي للإنسان الفلسطيني؟
لا أعتقد أن ثمة شخصية معينة لـ "الفلسطيني" في الأدب الإيطالي، وإنما هناك تعميم لخصوصيات شخصية "العربي". أحد تجليات هذه المسألة هو ما يحدث اليوم في غزة، الرواية السائدة عندنا تعتبر حماس تنظيمًا إرهابيًا، ولا يهمها كيف ينظر الفلسطينيون أنفسهم لحماس. ما يفكرون به الفلسطينيون، وجهة النظر المختلفة، لا تؤخذ في الاعتبار.
غواردي: ثمة اهتمام قليل بالإنتاج الثقافي للدول العربية بشكل عام، والفلسطيني على وجه أخص، والذي يتم اختزاله في "الإشكال السياسي" إذا جاز التعبير
في الغرب فكرة الحكم المسبق على الثقافة العربية، وبالتالي كل ما يخرج ويتمرّد عن تلك الفكرة يضع الهوية الغربية موضوع نقاش. لهذا السبب السوق الأدبي الأوروبي تفضل إصدار كتابات تدخل في تلك الكليشيهات. ومن جهة أخرى يجب أن أقول إن هناك كتابًا يؤلفون أعمالًا مكتوبة للقارئ الغربي، وهذا لا يساعد في معرفة الثقافة العربية بطريقة أحسن.