فقدت القدرة على النطق. حاولت جاهدًا أن أقول أي كلمة كانت ولكن الأمر كان مستحيلًا، كأن سدًا منيعًا قد أغلق حلقي فبات من المتعذر خروج الكلام.
حتى الأصوات التي لا تنتظم بها معان لم تفلح في التسلل.
حدث ذلك فجأة بينما كنت في البنك أنتظر دوري كي أجدد بطاقتي البنكية التي انتهى أجلها.
لم أعتد تجديد أوراقي عبر الإنترنت وكان ذلك بمثابة حكم بالأشغال الشاقة بالنسبة لسنواتي التي تعدت الأربعين، ولذلك اخترت أن أبادل هذا الزمن سرعته ببطئي، وإيقاعه بإيقاعي، وأن أنتظر دوري عند الطبيب كما يفعل كبار السن في هذه البلاد الأجنبية التي اخترتها لتكون وطنًا لغربتي، بل التي اختارها قدري.
الجوانب النفسية قد تكون الباب الذي يفتح أمام فهم أعمق لما يحدث، حيث يمكن للطبيب النفسي تقديم تحليل شامل للعوامل النفسية والعاطفية التي قد تكون تؤثر على الحالة الصحية
خرجت صباحًا ذلك اليوم بعد أن شربت القهوة وحضرت كل ما يلزم لأجل مقابلة الموظف في البنك، ورتبت خطة مدروسة كي أؤمن على صحتي وسفري وما أملكه، كما نصحني الأصدقاء العتاق الذين سبقوني في رحلة الاغتراب عن بلادنا.
جرى كل شيء كما العادة دون أي مفاجآت، فقد وصل الباص في موعده واستقليت المترو بعد ذلك في الوقت المحدد، والتزمت مجلسي في مقاعد الانتظار بعد أن حجزت رقمًا خاصًا بالمنتظرين.
كنت أراقب الموظف المختص بينما كان أحد الرجال يناقشه حول أمر ما، وكانت الأوراق تتنقل من يد ليد بينما تتضح الأمور للسيد الذي سبقني.
ولكن غير المتوقع حدث بعد أن خرج الرجل وظهر رقمي على الشاشة المخصصة مؤذنًا بالسماح لي بالدخول للمقابلة، حينها اكتشفت بأن صوتي قد غادر.
دلفت للغرفة الزجاجية حاملًا إضبارة أوراقي الثبوتية ووقفت قبالة الطاولة جامدًا ثم جلست بعد أن أذن لي.
سألني عن اسمي ورقمي الوطني، لكنني لم أفه بحرف، مضت عدة دقائق قبل أن أمسك برقبتي وأحاول عصرها علني أستعيد القدرة على النطق، وما أن بدأت الدموع بالتشكل في مآقي عيني حتى عرف الموظف أن هنالك خطبًا ما فطلب النجدة عبر الهاتف.
كان عبور الزمن في هذه اللحظة شبيهًا بالجناحين الذين يحملانني بعيدًا عن مكاني وزماني. لم أكن أدرك حتى الآن مدى تلك اللحظة البسيطة والتأثير العميق الذي سيكون لها على بقية حياتي.
هذا التجربة الفريدة قد غيرت تمامًا نظرتي للوقت والتواصل. أصبحت أقدر على سماع الصمت بوضوح، وأدرك قيمة الكلمات والصوت أكثر من أي وقت مضى. ربما كان هذا الصمت القسري هو طريقة لإعادة توجيه انتباهي لجوانب جديدة من الحياة التي كنت أغفلها.
لم أكن أتألم أبدًا، وهذا ما حدا بالأطباء للظن بأن الأمر لا يعدو مجرد صدمة نفسية شديدة قد ألمت بي، ولكنني كنت أهز رأسي نافيًا كلما افترضوا افتراضًا اعتقدوا بصوابه.
كتبت لهم عدة سطور بلغتهم، شرحت بها أنني على ما يرام، وبأن صوتي كان موجودًا قبل ساعة، حتى أنني خضت حديثًا سريعًا في الميترو مع سيدة كانت تتحكم بكلب ضخم، ذكرتني حلاقته بموضات قصات الشعر لمذيعات التلفزيون الوطني قبل سنوات طويلة في بلادي.
على الرغم من الجهود الطبية الكثيرة التي بذلوها لفهم حالتي، وبعد تحليل الدم وعينة من البول، وبالتزامن مع اتباع كل الخطوات التقليدية المعروفة في مثل هذه الحالات، اتخذوا قرارًا حكيمًا باللجوء إلى الجانب النفسي واستشارة طبيب نفسي.
قالوا لي إن الجوانب النفسية قد تكون الباب الذي يفتح أمام فهم أعمق لما يحدث، حيث يمكن للطبيب النفسي تقديم تحليل شامل للعوامل النفسية والعاطفية التي قد تكون تؤثر على حالتي الصحية. قد يكون هناك عوامل نفسية متأثرة بمشكلات الضغط والقلق أو حتى تجارب سابقة تلعب دورًا في هذا الصمت المفاجئ.
*
الطبيب النفسي: مرحبًا، كيف يمكنني مساعدتك اليوم؟
أنا: أشير بيدي لفمي إلى ثم أرفعها مشيرًا إلى أذني
الطبيب النفسي: أتفهم أنك تواجه صعوبة في التحدث. دعنا نبدأ بالتواصل بوسائل أخرى. هل تفضل استخدام اللوحة التفاعلية؟
أنا: (أوافق بإيماءة)
فقدان الأصدقاء يمكن أن يخلق فجوة كبيرة في حياتنا. لكن من خلال مشاركة تلك الذكريات وتوجيه الاهتمام نحو الجوانب الإيجابية، يمكن أن يتم تخفيف بعض من الألم الذي نشعر به
الطبيب النفسي: ممتاز، دعنا نبدأ. هل تحس بالقلق أو الضغط النفسي في الوقت الحالي؟
أنا: (رسمت علامة استفهام كبيرة على اللوحة)
الطبيب النفسي: هل هناك أي أحداث محددة تسبب لك هذا الشعور؟
أنا: رسمت له صورة للبنك وأنا في انتظار دوري.
الطبيب النفسي: أها، فهمت الآن. إن الانتظار في البنك قد يكون مصدرًا للتوتر للكثيرين. هل تشعر بالإحباط أيضًا؟
أنا: رسمت وجهًا ضاحكًا وأشرت إلى قلبي.
الطبيب النفسي: يبدو أن لديك نظرة إيجابية. ومن الواضح أن الابتسامة هي لغتك العالمية. هل هناك أي شيء آخر تود مناقشته اليوم؟
أنا: رسمت صورة لأصدقاء لم ألتق بهم منذ سنوات.
الطبيب النفسي: فهمت، تشتاق للتواصل مع الأصدقاء. ربما يمكننا مناقشة كيفية التواصل عبر الرسائل النصية أو وسائل التواصل الاجتماعي؟
أنا: رسمت صورة للهاتف وكتبت معها نعم.
الطبيب النفسي: رائع، سنعمل على البحث عن طرق لجعل التواصل مع أصدقائك أكثر يسرًا. شكرًا لثقتك.
أنا: كتبت، ولكن الأصدقاء الذين تريد مني أيها الطبيب التواصل معهم قد استشهدوا في الحرب منذ سنوات.
الطبيب النفسي: أعتذر عن ذلك، لم أكن على علم بذلك. يبدو أنها تجربة مؤلمة بالتأكيد. إن فقدان الأصدقاء في الحرب يمكن أن يكون له تأثيرات نفسية عميقة. هل تود مناقشة مشاعرك تجاه هذا الخسارة؟
أنا: رسمت وجهًا حزينًا
الطبيب النفسي: أنا هنا لأسمعك وأدعمك. يمكن أن يكون للحديث عن تلك المشاعر تأثير إيجابي على الصحة النفسية. هل تود أن تحكي لي المزيد عن أصدقائك وذكرياتك معهم؟
أنا: رسمت صورًا للأصدقاء وأحداثًا سعيدة وحزينة.
طبيب النفسي: شكرًا لمشاركتك هذه الذكريات. فقدان الأصدقاء يمكن أن يخلق فجوة كبيرة في حياتنا. لكن من خلال مشاركة تلك الذكريات وتوجيه اهتمامك نحو الجوانب الإيجابية، يمكن أن يتم تخفيف بعض من الألم الذي تشعر به.
أنا: رسمت له جبلًا ونهرًا وكتبت: كان النهر والجبل صديقان وكان النهر يفتت حجارة الجبل وكان الجبل يردم بحجارته المفتتة النهر.
الطبيب النفسي: (ينظر إلى اللوحة ويبتسم) إن هذا الرسم يحمل رمزية جميلة. النهر والجبل يمثلان تفاعلًا معقدًا بينهما. يشير ذلك إلى تواجد علاقة متبادلة، حيث يؤثر النهر على الجبل والجبل بدوره يؤثر على النهر، الحياة قد تحمل تحديات تشبه هذا التفاعل. نحن أيضًا نتأثر بالأمور والأشخاص من حولنا ونؤثر فيهم بالمقابل.
ومن خلال هذا التفاعل، نكتسب القوة للتغلب على الصعاب والتحديد، إنها رؤية ملهمة للحياة. هل ترى نفسك في أحد هذين العنصرين، النهر أم الجبل؟ أم هل تشعر بأنك تتبنى دور كلاهما؟
أنا: رسمت نفسي وبجانبي النهر والجبل.
الطبيب النفسي: إنه تفسير رائع. أنت ترى نفسك وكأنك تجمع بين النهر والجبل، تمتلك تأثيرك الخاص وتتأثر بالمحيطين بك. هذا يعكس قوتك واستعدادك للتأقلم مع التحديات.
ثم تابع قائلا، أنت شخص حالم كما يبدو لي، حسنًا، إذا جمعت أحلامك خلال النوم طوال عمرك في سلسلة متواصلة، فقد تكوّنت لديك حياة موازية تمتاز بالإدهاش والخيال الغريب. قد يكون لديك في هذه الحياة تجارب ومغامرات لا تصدق، وتفاعلات مع أشخاص ومخلوقات غير عادية. ولكن ماذا لو فعل الجميع ذلك، عندها ربما تتشابه الحيوات الموازية للبشر، حتى لو كانوا مختلفين عن بعضهم في الواقع.
لدينا مستويات أعمق من التواصل والتفاعل في العالم الحلمي، حيث يتقارب البشر بشكل أكبر وتتلاقى تجاربهم وأحلامهم. قد يكون هذا صورة مثيرة للتفكير في كيفية تأثير الأحلام على حياتنا وتواصلنا مع بعضنا البعض
أنا: فكرت، قد تؤدي هذه الفكرة إلى تأملات مثيرة. مثل أن نكتشف بأن لدينا مستويات أعمق من التواصل والتفاعل في العالم الحلمي، حيث يتقارب البشر بشكل أكبر وتتلاقى تجاربهم وأحلامهم. قد يكون هذا صورة مثيرة للتفكير في كيفية تأثير الأحلام على حياتنا وتواصلنا مع بعضنا البعض.
ولكن ما علاقة كل ذلك بي وبصوتي الضائع؟
رسمت له إشارة تعجب.
الطبيب النفسي: تخيل معي إذًا، أنت تحلم بأنك تقوم بنزهة مع صديقة على ضفاف بحيرة، وفي نفس الوقت تحلم تلك الصديقة بأنها تمارس التزلج وفجأة تهوي بشدة فتموت، هنا لدينا ثلاث مستويات للتعاطي، الواقع حيث تنام الفتاة في غرفتها، والمستوى الثاني هو حلمك، والمستوى الثالث حلمها، ثلاثة أزمنة وأمكنة في ذات الوقت!
أنا: رسمت مجددًا إشارة تعجب.
الطبيب النفسي: لكل حدث مستويات متعددة للفهم، وتحديد تلك المستويات سيساعدنا في تخطي الأزمات.
ستستعيد صوتك مجددًا..
أنا: رسمت صورة لنفسي في الوطن ولنفسي في الغربة ولنفسي كما كنت اتمنى أن أكون.
الطبيب النفسي: سنحدد معًا موعد جلستك القادمة.
في تلك اللحظات، تحركت بشدة فارتطمت يدي بكأس الماء التي كنت قد وضعتها بجانب سريري فهوت على الأرض مصدرة صوتًا قويًا، أيقظني من نومي.
كان كل ذلك مجرد أحلام، شربت الماء كي أرطب حلقي الجاف، وفكرت، لابد لي من تحضير القهوة، وإضافة هذا الحلم لسلسلة أحلام حياتي الموازية.
