أتراه يستعمل أدواتِ وتصوّراتِ زمنٍ آخر، أم أنه هو ذاته قادم إلينا من تلك الأزمنة البعيدة؟
بالحيرة التي يختزنها هذا السؤال يدخل الزائر إلى معرض الفنان الألماني ديتمار لوخنر (Dietmar Lochner) الذي يحمل عنوان "عالم ديتمار لوخنر الفانتازي" (Die fantastischen Welten des Dietmar Lochner) في "غاليري بايم شلومب" (Galerie beim Schlump) في مدينة هامبورغ. وعليه (أي الزائر) الانتقال من السؤال وما فيه من حيرةٍ إلى مفاجأةٍ يصعب تصديقها؛ هذا هو المعرض الأول للفنان الذي بلغ الرابعة والثمانين من عمره، وربما لولا مصادفةُ تعرّف مالكَي الغاليري عليه لما حدث المعرض، ولا شاهدنا هذه الأعمال الاستثنائية، فالرجل قضى سنوات حياته يرسم بإخلاص دون اكتراث بصناعة بيوغرافيا فنية، أو تسجيل حضور في عالم الشهرة.
ديتمار لوخنر مهندسٌ معماريّ، من الجيل الألماني الذي عاش طفولته في سنوات الحرب العالمية الثانية وما بعدها. درس الفن في وقت مبكر من حياته. وخلال أكثر من ستين سنة استطاع تطوير أسلوبه الخاص
ديتمار لوخنر مهندسٌ معماريّ، من الجيل الألماني الذي عاش طفولته في سنوات الحرب العالمية الثانية وما بعدها. درس الفن في وقت مبكر من حياته. وخلال أكثر من ستين سنة استطاع تطوير أسلوبه الخاص، المتصل بقوةٍ بأساليب فناني عصر النهضة الشمالية، خصوصًا هيرنموس بوش وشتيفان لوخنر (يالمصادفات تشابه الأسماء والرؤى!)، وبفنانين من زمن لاحق كاليوناني – الإسباني إل غريكو، ومن بعده الإسباني فرانثيسكو غويا.
لا جديد في فن القرن العشرين. هذا ما يؤمن به الرجل الذي يمشي على عكازه في معرضه الذي حدث مثل معجزة، وضمَّ أعمالًا مختارةً من مختلف مراحل حياته.
يصعب عليه أن يتقبّل تسمية فنان، ويفضّل أن يُدعى "صانع صور". ثمة صورة يراها في لمحةٍ سريعة، أو يحملها في رأسه زمنًا طويلًا، وكل ما عليه أن يعمل على نقلها إلى اللوحة بخطوطه الصارمة وألوانه الزيتية وخياله الجامح.
يشدّد على علاقته مع أسلافه من الفنانين الذين أشرنا إليهم، لكنه يؤكّد على وجود فرق تقنيّ، يكمن في أنهم، خصوصًا هيرنموس بوش، يستمدون أعمالهم من الكتاب المقدس، ما يعني أنّ لديهم فكرةً يعملون على تحويلها إلى صورةٍ، بينما يفعل العكس تمامًا، منطلقًا من صورةٍ يريد تحويلها إلى فكرة.
بالطبع يستمد مادته الأولى، صوره، من حياته الخاصة، ومن طريقة عقله في استقبال العالم من حوله، إلا أنه قادر على ملئها بكلّ ما هو عجيب ومدهش: بالشخصيات البشرية التي تمتاز بالدقة وقوة الملامح لكنها غريبة التكوين، تنوس بين أجساد ضخمة فيها الكثير من الزيادات في الحجم والأعضاء، أو أنها ناقصة. وبالمخلوقات الخيالية التي تنافس ما قدمه صنّاع الأساطير. وبالمباني التي تخلق هندستها التي لا تقيم وزنًا للمعايير الهندسية التي نعرفها، متضمنةً استكشافات للانهاية، إلى جانب حالات الانعكاس والتناظر.
إلى جانب ذلك، يبرع لوخنر في تحويل العادي إلى غريب، واللامألوف إلى مألوف، وبينما سعى أسلافه للذهاب ما وراء عالمنا من أجل تصوير الغريب، كي يُحضروا لنا نسخًا منه، قام بابتكار منعطف يؤكد أن الغريب هو عالمنا نفسه، فاللوحة ليست إبحارًا في المجهول، أو ما وراء الواقع، بل في الواقع العيانيّ أمامنا، لكنّ السؤال النهائيّ: كيف نرى؟ أو: ما الذي نرى؟
لطالما أثبت الفنانون أنهم يرون أكثر منا. ليس لأنهم يمتلكون قدرات سحرية، ولا لأنهم يمتلكون عيونًا كثيرةً، بل لقدرتهم على تحويل ما نمرُّ أمامه إلى شيء قابلٍ لفهم جديد، من خلال تمكّنهم من المجاز القائم ببساطة على إدراك التشابه العميق بين الأشياء المختلفة. ولطالما أثبت الفن أنه بمقدار ما يتيح للبشر إمكانية التعبير عن أنفسهم عبر شحنات عاطفية، يتيح لهم أيضًا إمكانية ممارسة التقييم، من خلال تقديم وجهات نظر للحقائق كما يتصورها الفنانون.
وهنا، في عالم لوخنر الفانتازيّ، يُعاد تشكيل عالمنا بشكل ملحمي، فالفنان لا يرسم كي يصنع صورة وحسب، بل ليقدم لنا قصة مكتملة العناصر، فيها شخصيات وأحداث وعقد درامية، وتنتهي إلى مصير فجائعيّ كامل. من خلال تصوير الإنسان في عالمنا عاجزًا، وحيدًا، منكسرًا، وفي حالة من الحزن الذي لا ينتهي. وتكتسب اللوحة صبغة جنائزية لشدة ما نرى فيها تجسيدًا بصريًّا للمصير المفجع للعالم الإنساني، فبعدما صوّر فنانون العصور الخالية، خصوصًا أسلاف لوخنر، الفجيعةَ من خلال قصة المسيح، أو عبر استلهامها، في كونها رحلةً للبشر من العذاب إلى الخلاص، فإن صاحبنا يقوم بوضع إنسان عالمنا في مصير لا مكان فيه لأي خلاص، إذ تحيط به أشكال متعددة من الانتهاكات والعذاب، تمارسها الحروب، والنظام الرأسمالي، وتغير الطبيعة نتيجة تغيرات المناخ، ونتيجة تقدم الزمن بالطبع. ففي لوحة اسمها "منظمة العفو"، يُقدّم لنا مقاربةً مؤلمةً لحالة حقوق الإنسان في زماننا، حيث نرى شخصًا يُشوى على آلةٍ تشبه سيخ الشاورما، ومن حوله رفوفٌ تتراكم فوقها رؤوس مرعبةٌ لأناسٍ يبدون أقرب إلى المسوخ. فهل الفرجة البلهاء الناتجة عن عجزهم عن مساعدة المُعذَّب هي التي مسختهم، أم من مسخهم هو ذعرهم من المشهد؟
بالقوة نفسها تذهب لوحته التي حملت عنوان "الذين نجوا" إلى سرد قصة مأساوية عن شخصين نجيا في حرب البوسنة، حيث اختبأا في بئر، وحين خرجا وجدا كل من يعرفونهم قتلى. الألم المركّز في هذه اللوحة يُشعر المتلقي أنه نفسه من يخرج من البئر ليجد عالمه الوديع اللطيف زائلًا.
في لوحة أخرى يسخر بشكل كاريكاتيري من سياسيي زماننا، من خلال مشهد عصي على الوصف، يظهر فيه قائد سياسي يقول "أصدقائي، معملنا سيُغلق". ولنا أن نواجه مفارقة ساخرة بمرارة، وهي أن هذا المعمل الذي سمّم الطبيعة مصرٌّ على إكمال دوره التدميري في قطع رزق هؤلاء العمّال.
في المعرض أمران واضحان، الأول احتجاج لوخنر على فن القرن العشرين، واعتبار مصدره ومرجعه قادمًا من عصور النهضة والباروك، حين عادلَ الفنُّ الفكرَ واللغة والموسيقى. أما الأمر الآخر فهو إعادة الاعتبار الى الحكاية في اللوحة، وإعادة كل ما أزالته الحداثة إليها: الرؤيا، والليونة، والخطوط، والزخارف، والسخرية، والخيال.
ليس عالمًا سعيدًا ذلك الذي يرسمه لوخنر، فالغابات مريضة، والأرض تشقّق جلدها، والرعب احتل عيون البشر والحيوانات والكائنات الخيالية.
تصر لوحاته على طرح مواضيع فاجعة: المرض، الطفولة الناقصة، حزن مأوى العجزة، الفيضان الذي يزيل مكانًا أليفًا، حادثة موكب الحب الشهير.. إلخ. وتصر على وضع كل ذلك في سياق رثائي لعالم ينحل ويضيع دون أن يرتجي أي أمل بالخلاص، فالحقيقة الفنية الثابتة هي هشاشة الوجود الإنساني، وبهذا يغدو واضحًا أنه بمقدار ما يبدو الفن وسيلةً سحريةً فإنه حقيقة واقعية، وبمقدار ما يبدو الفنان غامضًا فإنه يمنحنا تصوّرًا ثوريًّا للمشكلات الاجتماعية والسياسية والوجودية، لكن هذا التصور يتخذ شكل رثاء.