الدخول إلى معرض الفنان مارون حكيم دخول محفوف بانطباعات مسبقة عن ما يمكن أن تراه العين وتشاهده، ولعل ذلك مردّهُ العنوان "تحيّة إلى بلادي". يمكنُ للمشاهد أن يعتبر أن المعرض بكامله تحية إلى بلاد الفنان. لوحات الأكريليك الـ 36 تقدّم عرضًا مختلفًا قوامه انبعاث الألوان وتلقائيّتها. هذه الفرشاة الخاملة تعتمد على تدفق الألوان وتعوّل عليها يضاف إلى اللوحات 12 منحوتة مشغولة بالروحيّة ذاتها وموزّعة على أرجاء الصّالة.
زيارة معرض مارون حكيم محفوفة بانطباعات مسبقة عن ما يمكن أن تراه العين وتشاهده، ولعل ذلك مردّهُ إلى عنوان المعرض "تحيّة إلى بلادي"
بالعودة إلى اللوحات، تتوزّع على عدّة صالات من غاليري Art on 56 ، كل صالة تحتوي مجموعة متماثلة ومتناغمة. الصالة الأولى عبارة عن ملجأ لمجموعة فيها أبنية مائلة مطواعة تنتهي بأسقف زرقاء وسوداء ورماديّة وناريّة أيضًا، الأعمال هذه بكلّيتها مدعاة للحزن واليأس والدخول في عالم مأساوي، إلّا أنّ ألوان حكيم تَحولُ دون ذلك وتُبعِدُ شبح النفور ورعب الأسى عن المتلقي. الغرفة الثانيّة عالم علوي يعجّ بظلال البيوت والسّماء، يخال الناظر إليها أنّه أمام ذاكرة منبوشة لبقايا مدينة كانت موجودة هنا، والتي رحلت أو بقيت شذرات متناثرة منها بفعل تأثير الحرب والأحداث المتتالية على بيروت في فن واشتغالات الفنان.
في الصالة المحاذية نجد أنفسنا أمام حقول بألوان أكثر اسودادًا تتماوج بين الأسود والأحمر والأزرق والأبيض، تتنوع عناوينها بين "من أسر ظلك أيها الغيمة"، "حراس المدينة"، "دموع"، "البحر الجريح"، "العصافير حراس المدينة". السّكون الذي تقدّمه هذه الأعمال ليس سكونًا واقعيًا إنّما سكون رمليّ جاف. إذ تأخذ مساحات متفاوتة من النور والمدى وأخرى مساحات للّطخ والتبقيع تنتهي تلك أيضًا بسقوف وسماوات رماديّة داكنة وقاتمة ومذيّلة ببقعة لونيّة حرّة كأنّها بصمة.
تطرح الأعمال فكرة الحرب والإقامة بين حربين أو في حروب مستمرة وصراعات متوالية تتوالد من بعضها البعض. لا تصرّح بذلك بشكل واضح إنّما تتضح من خلال مراقبة سياقات الأعمال وتداعياتها وربطها ببعضها البعض ربطًا سريعًا. كما تعود بالذاكرة إلى أزمات بيروت وما مرّ عليها في السنوات الأخيرة.
في جهة ثانية نجد بناءات مدينة على مدينة، مدينة علوية بالأصفر والبنفسجي، واللوحات في أغلبها تحوي لطخات حرّة يمكن لها أن تتحدث رغم بكمها وإيغالها في الصّمت والكآبة. نضيف أيضًا لوحتين بالأبيض "سكينة في الأرض" و"دفء الثلوج"، أبيض داكن تحتلّه ألوان سماويّة وكائنات لونيّة عابرة تمشي في سياق تجاوزي إلى ممارسة أكثر حداثة ومعاصرة.
في متن اللّوحة التي يقدّمها حكيم أحاديث وآراء وتصورات عن إشكالاته المعقّدة والمتعلّقة بالبلاد وباللّوحة. اللوحة التي يحسّ المتفرّج أنّها ذات مرجعيّة واحدة، وأنّها محايدة لا تسعى إلى فرض انطباع ما، إذ تستغرق في وصف المشهد وتعريته. المشهد حول المدينة التي صارت ساحة للتجريب والعبث، النار والدخان يؤكّدان ذلك.
للوهلة الأولى نشعر أننا أمام أعمال تبقيعيّة إنطباعيّة تنقيطيّة، إلّا أنّ تأملها يفصح عن تبقيع وتنقيط مدروس ومدوزن يعرف أين يبدأ ومتى ينتهي. لو صحّ وصف لوحة أنّها تشتغل على الذاكرة وتربطها بالحاضر لكانت هي كذلك. السياقات المنمنمة تقدّمها اللوحات بلا أيّ ضخامة، وبحيوزاتها الطاغية داخل المساحة.
ما يجذب في تنويعات مارون الحكيم هو معانيها، معاني الأشياء الآفلة التي تحاول جاهدة إحياءها بالصّورة والصّوت الداخلي. محاولة قوامها رغبة جامحة في الانتصار على المأساة وكيفيّة إحالتها إلى قوام.