إذًا غيَّب الموت الفنانة ريم بنّا (1966 – 2018). لسنا هنا بصدد رثائها بعباراتٍ تقليديّة مُعتادة، تُفيد بأنّ رحيلها هذا لا يتعدّى كونهُ رحيلًا جسديًا لا أكثر، وأنّها ستظلُّ حاضرةً في وجداننا كفكرة، ذلك أنّه لا مجال للشكّ في هذا الأمر أوّلًا، وثانيًا، لأنّهُ من الصعب أن نتجاهل في سياق الحديث عن الجسد، ما كابدته الفنّانة من معاناةٍ جسديّة امتدّت لـ 9 سنواتٍ متتالية، نازلت فيها "سرطان الثدي" في حربه ضدَّ جسدها، لتعود في جولة أخرى لمواجهته بعد أن استهدف حنجرتها في هذه المرّة.
لم تكترث ريم بنا بالسرطان نفسه، بقدر ما تأثّرت بفقدانها القدرة على الغناء
لم تكترث ريم بالسرطان نفسه، بقدر ما تأثّرت بفقدانها القدرة على الغناء بعد أن ضرب هذا الخبيث أحد حبالها الصوتيّة. ورغم ذلك، ظلّت دائمًا تطلُّ على مُحبّيها بابتسامتها المعهودة؛ تلك التي تنطوي على معاناةٍ دفينة كونها فقدت سلاحها/ صوتها الذي سبق وأن حاربت به سرطانها الأوّل. ناسفةً عبره أوهام الأخير بأنّه انتصر عليها، أو سوف ينتصر. هكذا، ستجدُ صاحبة "جفرا، 1985" نفسها عاريةً من سلاحها، إلّا أنّ هذا الأمر لم يمنعها من المقاومة؛ مقاومة احتلال غزا أرضها وآخر غزا جسدها محاولًا النيل منه.
عبر هذه المقاومة، سوف يتكرّس حضور صاحبة "دموعك يا أمّي، 1986" في وجداننا، لا كفنّانة وحسب، وإنّما كمثالٍ يُحتذى به في مقاومة هذا المرض اللعين، والذي لم يأت وصفه بـ"الخبيث" من فكرة عابرة أو مرتجلة، إنّما من وصفٍ مُستحقّ ينبع من مدى وقاحته في سلب حيوات من نحبّ.
رحلت ريم بنّا إذًا، مُخلفةً وراءها إرثًا فنيًا لن يُمحى من ذاكرتنا، متمثِّلًا في عشرة ألبوماتٍ غنائيّة غنيّة بالتنوّع الذي كرّس تفرّد هذه الفنّانة فلسطينيًا وعربيًا. وسيتجلّى هذا التنوّع في اشتغالها على ترميم التراث الفلسطينيّ الذي جاءت استعادتها له – عدا عن أنّه نوع من المقاومة والاحتجاج – كدليل على عمقه وقدمه، وتكريسٍ للهويّة الثقافيّة الفلسطينيّة. وفي خطوة مميزة تُحسب لصاحبة "لم تكن تلك حياتي"، ستشتغل على مزج هذا التراث بالموسيقى العصريّة كدليلٍ آخر على أنّهُ مواكب لأيّة مرحلة زمنيّة كانت، وأنّهُ مستمر أيضًا داخل فلسطين بالرغم من الاحتلال وسعيه لطمس الهويّة الفلسطينيّة بمختلف أشكالها.
كما سوف يتجلّى هذا التنوّع أيضًا في تلحينها لقصائد عدّة شعراء عرب، داعمةً بذلك تجرّبتها الفنّية بالمزيد من التفرّد، حيث لحّنت وغنّت قصائد للشاعر محمود درويش وراشد حسين وابن الفارض وبدر شاكر السياب. ناهيك عن توظيف فنّها لخدمة قضايا إنسانية متعدّدة. ووسيلةً تعبّر من خلالها على رفضها للظلم والقهر والاستبداد. ولذلك، لن تتأخر طويلًا في إعلان موقفها المؤيد لثورات الشعوب العربيّة ضدّ أنظمتها الدكتاتوريّة، لا سيما الثورة السوريّة التي لم تثنها حملات التخوين التي شُنّت ضدّها من قطعان الشبيحة في فلسطين وسوريا عن دعمها.
سارعت ريم بنا في إعلان موقفها المؤيد لثورات الشعوب العربيّة ضدّ أنظمتها الدكتاتوريّة
ريم بنّا التي أكّدت دائمًا على أنّ ثمّة أحداثًا يجب أن يكون لصوتها دور فيها، وأنّ الحياة لا تزال تستحق أن نُقدّم لها أشياء كثيرة؛ لم تنته رسالتها بعد، ولن تنتهي لمجرّد غيابها عن شرفتها المقابلة لمرج ابن عامر، أو غياب كتاباتها في "الفيسبوك"، تلك التي دلّت في أيامها الأخيرة على صعوبة الأقدار التي تواجهها.