"فلسطين ليست موضوع بحثي، فلسطين قضية"، هكذا تحدث الباحث علي حبيب الله في أحد اللقاءات، وهو الباحث في التاريخ الاجتماعي، ركّز أيضًا على أهمية إعادة رواية تاريخ المدن والقرى الفلسطينية المهجرة لنحييها من جديد، وشبهها بمن يسقي الأرض الجافّة ماء فتنتعش.
تذكرت هذه الجملة حين أطلت الفنانة سناء موسى على خشبة مسرح الشمس في عمّان يوم الجمعة الأول من أيلول/سبتمبر، وافتتحت الأمسية التي كان عنوانها "من ذاكرة البلاد" بالحديث عن مشروعها المهم جدًا في توثيق أغاني الساحل الفلسطيني، متسائلة عن سبب غياب هذه أغاني البحر والصيد عن ذاكرتنا برغم أننا نغني لكل شيء، للفرح، للسفر، للموت، للغياب، للزواج، للولادة ولكل مناسبة لها أغنيتها، فأين اختفت أغاني البحارة؟
تجيب موسى عن هذا السؤال الذي طرحته على الجمهور الذي ملأ مقاعد مسرح الشمس مما دعا المنظمين إلى إقامة حفلٍ ثانٍ يبدأ بعد انتهاء الأول بقليل، إجابتها كانت أن هذه الأغاني التي رددها البحارة كانت تهدف إلى إزالة الخوف من البحر، وتشجيع البحارة لبعضهم البعض على العودة السريعة وبسلام من هذه الرحلات التي كانت أهمها تنطلق في الأيام العاصفة، لماذا؟ لأن الأجواء العاصفة تُحدث تقلبات في أعماق البحر مما يزيد من الثروة السمكية القابلة للصيد، وهو ما يجعها مغامرة خطرة.
لا تكتفي سناء موسى بالبحث عن الأغاني التراثية وإعادة إنتاجها لتبقى في ذاكرة البلاد والناس، بل تعمل أيضًا على حفظ التاريخ المروي من خلال مقابلات عديدة مع من تسميهم سدنة الرواية
إذًا، كانت هذه الأغاني هي المحرك الأساسي لدفع قوارب الصيد، وبث الحماس في قلوب الصيادين وركّاب المركب وحثّهم على العودة سريعًا إلى أهلهم، تقول سناء إن هذه الأغاني اختفت تدريجيًا في الثلاثينات تقريبًا بعد ظهور المراكب المزودة بمحركات، صار ضجيجها أعلى من صوت الأغاني، ولم يعد التجديف يحتاج زنود قوية.
"عندك بحرية يا ريس"، الأغنية الشهيرة التي غناها وديع الصافي، بحثت سناء عنها لتغنيها بكلماتها الأصلية التي ترددت في ذلك الزمن، إذ لم يكن من السائد أن يخاطب ريّس المركب أي كان، فكما أي مهنة أو مكان عمل، فإن هناك هرمًا وظيفيًا ولو لم يكن مكتوبًا للتواصل مع طاقم مركب الصيد.
والسبع ما طل!
الجمهور الذي طَالب بالأغاني التي يحفظها، كالروزانا وعيونها، صمتَ تمامًا حين غنّت "طلّت البارودة"، هذه الأغنية تحديدًا، تُبكيني شخصيًا وتُبكي كل من له علاقة بفلسطين، وأكاد أجزم أنه لا يوجد فلسطيني لا يعرف شهيدًا أو أكثر في حياته، وما يجري من أحداث اليوم على الأراضي الفلسطينية المحتلة من مقاومة ومواجهة في جنين ونابلس وطولكرم وأريحا وكل مكان تقريبًا، جعلتنا نبكي الشهداء الذين يقفون وحدهم أمام جيش استعماري احتلالي يسعى لقتل الهوية والتاريخ الفلسطيني في كل مكان.
سناء الحاصلة على درجة الدكتوراة في علم الدماغ من كلية الطب في القدس، لا تتعب من ترديد أغانيها، حيث تصف غنائها كأنه مواجهة العدو، وأنها حرب تدخلها لتنتصر فيها على المحتل، تفاعل معها الجمهور الذي ارتدت فيه الحجّات الأثواب المطرزة، والكوفيات البيضاء والسوداء ملأت المقاعد على أكتاف الشباب، وبذكاء شديد، ألهبت حماسنا حين غنّت مقطع من أغنية فرقة العاشقين "شفت البطل شفته، شفته اللي مش خايف، من طلّته عرفته وأعمى اللي مش شايف" على لحن أغنيتها "يا نجمة الصبح".
من ترويدة إلى سدنة الرواية
لا تكتفي سناء موسى بالبحث عن الأغاني التراثية وإعادة إنتاجها لتبقى في ذاكرة البلاد والناس، بل تعمل أيضًا على حفظ التاريخ المروي من خلال مقابلات عديدة مع من تسميهم سدنة الرواية، وذلك في برنامج تلفزيوني يحمل نفس الاسم، وتسلط فيه الضوء على حماة وحرّاس رواية فلسطين في شتى المجالات، وهذا البرنامج ليسَ محصورًا بالفلسطينيين وحدهم، بل لكل من يحمل فلسطين في قلبه كقضية إنسانية عادلة وفق قولها في إحدى المقابلات الصحفية، وقد استضافت فيه الروائي والشاعر إبراهيم نصرالله، المعمارية والكاتبة سعاد العامري، الفنان شهاب القواسمي، والكاتب صقر أبو فخر والفنان غنام غنام وغيرهم الكثير.
قبل ذلك قدمت سناء برنامج آخر تحت اسم ترويدة، وهو مختص بالبحث في التاريخ الاجتماعي للأغاني التراثية باختلاف قوالبها ومسمياتها وأسباب غنائها.
موطني، نشيدنا الوطني غير الرسمي
تحرص سناء دائمًا على الظهور بالثوب الفلسطيني المطرز في حفلاتها، كما تحرص أيضًا على أن تكون قريبة من الجمهور مَجازًا ومعنى، ببساطة وعفوية احتضنت شابّة أعطتها مروحة يدوية لتخفف عنها حرارة الجو في المسرح، كما ذهبت لتحضن شقيقها محمد موسى حين رأت دموعه بعد غنائها لمقطع "شفت البطل شفته".
اختتمت الحفلة كالعادة بنشيد موطني، الذي رددناه معها وقوفًا، النشيد الوطني غير الرسمي للفلسطيني أينما كان، وكما سافرت بنا سناء إلى الساحل الفلسطيني من رأس الناقورة إلى أم الرشراش بأغانيها، ستسافر هي عائدة إلى فلسطين وسنبقى نحنُ هُنا، نعمل بكل ما أوتينا من أملٍ وحلم على أن نحضر حفلة من حفلاتها كما تمنت لنا في نهاية الحفل؛ ألقاكم في فلسطين.