أكثر من أي وقتٍ مضى، يبدو قطاع غزة اليوم ضبابيًا يستعصي على الفهم. فالقطاع المعزول عن العالم والمحاصر منذ سنوات شهدت فظائع تصعب على الفهم والإحاطة؛ يعوم في الاختصارات والقوالب الجاهزة والتصوّرات المسبقة، ثم يضيق عنها كلها ليبرز متفردًا في الحالة والفعل.
وفي الوقت الذي نشهد فيه صعود تيار شجاع مخلص للحقيقة ينبذ الخطاب العنصري في الفهم والتحليل، يتطرق هذا المقال لبعض المقاربات السيكولوجية لاستغلاق الغزّي على الفهم الغربي على وجه الخصوص، ويحاول الإجابة عن سؤال: لماذا يصعب على الغربي أن يفهم دوافع الغزّي العربي المتصلة بقيمه الحضارية الخاصة وعلاقته بالتراب والمكان والذاكرة والمنزلة التي يحتلها لديه العنصر الغيبي والجزاء المؤجل؟ وكيف تعمل التفسيرات المتصلة بنماذج عنصرية للتفكير والتفسير والفهم على تأطير الدوافع الجمعية للفداء والتضحية بحيث تبدو غريبة وغير قابلة للفهم في المخيال الغربي؟
حطب في موقد التفوق العرقي
في كتابه "الخيال العنصري: الجذور اللاواعية للكراهية"، يرى تود ماكجوان أن العنصرية لا تعمل كظاهرة أيديولوجية أو كعلاقة قمع اجتماعية بمعزل عن الخيال العنصري الذي يحركها ويؤطرها.
هذا الخيال الذي يعمل كوقود للحرب الدائرة بين "أبناء النور الذين يمثّلون الإنسانية من جهة، وأبناء الظلام الذين يتبعون قانون الغاب من جهةٍ أخرى"، كما صاغها رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، يُعدّ جوهر التفوق العرقي الأبيض "White Supremacy" ويجمع المتضادات التي تلتقي في العدو – لا حبًا في معاوية ولكن بغضًا في علي – دافعًا باليهود الذين كانوا يومًا طبقًا رئيسيًا على مائدة التفوق الأبيض للتحالف معه وإعلاء قيمه وادعاء المحاربة في سبيله ونيابةً عنه ضد العربي الآخر، الذي يُعدّ وجوده ومعتقداته وما يؤمن به عقبة أساسية في تحقيق الكمال الإنساني الحضاري، الذي تَعِدُ به هذه الأيديولوجيا وتُطعِم به نارها المتأججة للبقاء والنضال المستمر.
لا تعمل العنصرية كظاهرة أيديولوجية أو كعلاقة قمع اجتماعية بمعزل عن الخيال العنصري الذي يحركها ويؤطرها
وتفسِّر أستاذة علم النفس الأمريكية كوليا لدويج التصاعد المريع في إبادة القطاع بكون الخيال العنصري للأيديولوجية التفوقية البيضاء يرى الغزّي، الذي تأكل النار جسده وثيابه وبيته، مادة أساسية للمتعة وتغذية الشعور بالإنجاز والتفوق وإحراز تقدم ملموس في محاربة الآخر "البربري المجرم" الذي يحول، وفق هذا الخيال، دون اكتمال الإنسانية والشعور التام بالرضى الذي تَعِدُ به أيديولوجيا التفوق أتباعها دون أن تستطيع إدراكه، ما يجعلها تعلّق فشلها على شماعة وجود الآخر الإشكالي.
ترى لدويج أن في صورة الضحية أهمية متزايدة لإمتاع المتفوق الغربي، الأمر الذي يثير نقمة المحتل الذي يسعى للتفرد في الأرض والرواية والتاريخ والجغرافيا، فيزيد في مقتلته وعنفه وجنونه. ويحول هذا الخيال دون محاولة فهم مادته الأساسية بعيدًا عن التأطير الجمعي للآخر الذي يجب محاربته كجزءٍ من المهمة الإنسانية السامية دون الحاجة للقضاء عليه كليًا كي لا تفقد الحياة مغزاها ومتعتها.
ومن ناحية ثانية، تؤمن لدويج أنه لا فكاك من الأيديولوجيا التفوقية إلا بالانخراط الواعي والفعال في حركة تضامن سياسية قوية وجامعة لكل مناوئي هذه الأيديولوجيا، واتخاذ كافة أشكال التعاضد والتضامن في الحركة البديلة كأداة لضرب أساسات الأولى ومنطلقاتها، ما يتطلب تعرّفًا واعيًا وعميقًا على "الإنسان العربي" في وجوده الفردي والجمعي الذي قد يطفو، وفقًا للدويج، العداء القديم ضده في أي لحظة ما لم يتم مجابهة أسباب هذا العداء بالتقارب التعريفي مع مادته.
ضع قدميك في حذائي
يرى إدوارد سعيد في تفسيره لأثر الاستشراق الكامن والظاهر في التعامل مع العربي المسلم، أنه لا قيمة ولا قياس للكينونة العربية إلا بشروط ومقاسات ومقارنات غربية، حيث يشكِّل "الآخر" العربي مادة دونية وقابلة للقهر. كما يرى، من ناحية أخرى، أن نتائج الاستشراق الحتمية شاملة بمعنى أنها تتغلغل في جميع هياكل المجتمع، وتعمل على إعادة تشكيل وإنتاج الهوية المهمشة للمجتمعات الخاضعة لخطاب الاستشراق.
ينطبق هذا التفسير لا على الغربي الذي يرفض أن يرى في العربي إنسانًا مساويًا له في مادة الحياة والحقوق ومتمايزًا عنه بالثقافة والتاريخ وحسب، ولكن أيضًا على الغربي الذي يحاول أن يفهم ما الذي يحدث في غزة، ومن هؤلاء الذين يُقتلون ولأي سبب.
ووفقًا لرؤية سعيد، لا يبدو الغربي المتدثّر بسنوات من الموروث الثقافي الإمبريالي، قادرًا على فهم التجربة العربية الإنسانية دون أن يجرّب "وضع قدميها في حذائه". فالإنسان العربي ليس سوى مادة متصلة في موقع مقارن لا يشكل كينونة منفصلة مستقلة ذات منطلقات ومبادئ وتأثيرات بيئية قائمة بذاتها ومستحقة بلا جدال. ولإفهام مأساته، فإن العربي يحتاج لاستحضار المآسي الغربية المشابهة، إذ يصعب عليه أن يشرح مأساته بكونها متفردة ومتكئة على نفسها ومنطلقة من أُطر فكرية وعقائدية غير مألوفة للغربي.
هكذا يكون الغزّي بحاجة إلى الحديث عن الإبادة الجماعية للسكان الأصليين في كندا وأستراليا، وعن مأساة التطهير في "معتقل أوشفيتز"، وعن جرائم النازية والفصل العنصري في ألمانيا.. إلخ، ليقرّب للغربي فهم قصته ويحمِلهُ على وضع وجهٍ مألوفٍ مكان الوجه الغزّي العربي والمسلم.
التضامن حكر على الضحايا
ساهمت قرون من الفكر الإمبريالي الاستشراقي الذي تحوَّل إلى ثقافة خفية تغذيها معسكرات إعلامية وسياساتية تنظر بعين الشك والريبة، أو العطف والشفقة، إلى المجتمعات العربي الأصلية وتجمعات المهاجرين الخارجين من فوهة الجحيم؛ في تأطير الفعل العربي المستحضِر للتضامن بالإطار السلبي المفعول به، حيث العربي الذي يستحق النزول إلى الشوارع والصراخ بملء الأفواه وشد القبضات هو العربي الضحية.
يرى الخيال العنصري للأيديولوجية التفوقية البيضاء في الغزّي مادة أساسية لتغذية الشعور بالإنجاز والتفوق وإحراز تقدّم ملموس في محاربة الآخر "البربري المجرم"
وحين يتحوَّل العربي للفعل العنيف المقاوم، يحضرالخوف وتطفو صور الأصولي المتطرف الذي يشكل مادة نموذجية للإرهاب. وقد ساهمت في ذلك بصورة مباشرة أيضًا سياسات الإسلاموفوبيا ومعاداة الأجانب التي شكلت مادة حيوية ورئيسية في الأجندات السياسية للأحزاب ومرشحيها، وعاشت عصرًا ذهبيًا بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر.
هكذا كان أسهل ما يمكن فعله بعد العبور الكبير في السابع من أكتوبر، هو تشبيهه بهجمات الحادي عشر من سبتمبر ليتم استدعاء تجربة كاملة بأدوارها وسيناريوهاتها وخطاباتها وآثارها في المخيال الغربي دون الحاجة لكثير شرح، وكذلك فعل الربط بين المقاومة وتنظيم "داعش".
لا يقتصر أثر هذا التفسير على الغربي المُطالِب بدك القطاع عن بكرة أبيه وتسويته بالتراب، على اعتبار أنه يوجد أبرياء في قطاع غزة وأن الكل شريك بالجريمة والفعل البربري، وحسب؛ ولكن يُرى أثره جليًا كذلك على الأصوات التي تُدين هجوم السابع من أكتوبر ولكنها ترفض "العقاب الجماعي" للفلسطينيين في القطاع، لتترجمها بشكل مباشر المفاهيم السائدة في التعامل مع الحرب الطاحنة، والتفصيل في شرعيتها وأهدافها، من خلال استخدام خطابات ثنائية خفية مثل "المدنيين الأبرياء"، و"جُلّهم من النساء والأطفال" و"القطاع ليس كله حماس"، وغيرها من الخطابات التي تعني تبرير استهداف المقاومة وحاضنتها ومن يشتبه بالفعل فيها ولو كان الفعل مجرد تأييد ومباركة.
كل الاطفال يبتسمون بالطريقة ذاتها
تسيَّدت نظرية بول إكمان حول عالمية المشاعر المشتركة "Basic Emotions Theory" ساحة علم النفس لأكثر من خمسين عامًا، مقدمةً نفسها في ساحات الأكاديميا والتطبيق كنظرية غير قابلة للشك. وقد جاءت هذه النظرية في سبعينيات القرن الماضي كانتصار للعلم على السياسة، مثبتةً أن أصل الإنسان واحد ومشاعره مشتركة، في الوقت الذي كان يعاني فيه العالم من عقائد تعلي من شأن العرق الأبيض على حساب الأقليات والملوّنين والشعوب الأصلية.
عملت هذه النظرية التي راجت في وقت كان يتوق فيه العالم للسلام والوحدة بعد الحرب العالمية الثانية، بمسطرة غربية عكسية ملغية الاختلافات التي تخلقها الخصوصية الحضارية والمجتمعية. وتجاهل إكمان في العينات المستخدمة لإثبات نظريته الشعوب الأصلية والملونة تمامًا، مع الحكم بأن اتساع العينين يعني مفاجأة لدى كل بني البشر، والأنف المجعّد يعني شعورًا بالتقزز، بينما تُتوَّج السعادة بانفراجة في الشفتين تمامًا كما تفعل عينته البيضاء المنتقاة.
ومع بداية الألفية الحالية، بدء الشك في عالمية المشاعر الأساسية كما طرحها إكمان، إذ رأى راسل 2003 أن البناء النفسي محكوم بالتنوع، وأن البنية السيكولوجية للمشاعر تخضع لعوامل الطبيعة والتنشأة والمجتمع دون أن يلغي فكرة العالمية بشكل كلي، معتبرًا أن هناك بؤرة مشتركة أساسية للجنس البشري تشكِّل عالمية في حدها الأدنى في تصنيف واسع جدًا لأطياف الشعور الواحد. وبالرغم من ذلك، ما زالت هذه النظرية المناوئة محصورة وتجابه بالرفض والتشكيك.
المسطرة الواحدة لتفسير الشعور وصور التعبير عنه، هي منطلق غربي آخر في اختصار الاختلافات والتكاسل عن فهم المجتمعات الأخرى، وتقبّل دور ثقافتها في تشكيل مشاعرها وطرق الإفصاح عنها. فالغربي قد يقف عاجزًا عن فهم الصمود والثبات الشعوري الكبير الذي يُبديه بعض الضحايا في القطاع، فإن لم يشكك ابتداءً في بشريتهم التي تتطلب خلاف ما يبدون، فقد ينحو باتجاه كونهم يعلون ثقافة الموت، ما يجعلهم غريبين وغير مفهومين للآخرين "العاديين".
تكرّس النظرية الشائعة حتى يومنا هذا إنكار دور التربية الجمعية والمبادئ الشرقية في الحالة الشعورية لأبناء المجتمعات العربية، وتقييمهم وفق دورهم في الجماعة، واستحقاقهم للزهو والفخر بناءً عليه. هذه المجتمعات التي تجعل من تعبير أفرادها عن كامل شعورهم المنفلت محكومًا بعوامل شتى متعلقة بصمود الجماعة والحفاظ على ما تبقى والشرف في التضحية والدفاع والثبات والخجل، مما قد يعتبر انهزامية وتخاذلًا، وتلعب فيها الغيبيات المرتبطة بالخلود دورًا جوهريًا وحاسمًا؛ لم تأخذ حقها في الفهم والتعبير باستخدام أداوتها الخاصة ومن خلال إطاراتها المتمايزة.
عن التعميمات والبُعد المسطّح
لا يقتصر استغلاق فهم الغزّي على الغربي البعيد وحسب، بل يظهر ذلك جليًا حتى في القريبين من عرب ومسلمين بل وفلسطينيين من خارج القطاع. يذكر الباحث الغزّي جهاد بوسليم في مقدمة كتاب "ضوء في غزة"، الذي جمع فيه مواد لأصوات غزية شابة، أن غزة تعرضت ومنذ عقود لسلخ فكري عن محيطها، وحصار تصوري ومخيالي جعل منها فكرة ضبابية للقريب قبل الغريب. وقد ساهم في ذلك عزلها الفيزيائي الجغرافي، وكتم أصوات أبنائها الممنوعين من المغادرة، وخنق قطاع السياحة فيها، مما جعلها لا تعدو كونها بؤرة للعنف والإرهاب لمن يتبنى الرواية الأمنية الإسرائيلية، أو مكانًا لقطيع هائل من الضحايا الذين يعيشون أوضاعًا غير إنسانية للمتضامنين، أو مكانًا للأساطير والأبطال الذين يقفون في مقدمة صفوف التضحية والنضال للثوريين والمتلهفين للفعل البطولي والتغيير بالقوة.
لا فكاك من الأيديولوجيا التفوقية إلا عبر الانخراط الواعي والفعال في حركة تضامن سياسية قوية وجامعة لكل مناوئي هذه الأيديولوجيا
وقد نزعت هذه التصوّرات، على تباينها، وجوه أبناء غزة ونبرة أصواتهم ومخاوفهم وأمنياتهم وتنوعهم كأي مجتمع إنساني ممتد، بل ويتجاوز ذلك لمجتمع شديد التنوع نتيجة حصر مساحته بعد النكبة و"تكويم" المهجّرين واللاجئين، على اختلاف بيئاتهم الحضرية والساحلية والبدوية، في تلك المساحة وتشكيل مجتمع رحّال يتم تنقيل فسيفسائه باستمرار بتهجيرات داخلية ترافق كل عملية عسكرية في أزقته، الأمر الذي حال دون فهم دقيق له مصداقية للتجربة النضالية الفريدة التي يخوضها الإنسان الغزّي في حياته اليومية ووجوه تواجده الفردي والجمعي وما نجم عنها من علاقات وأدوار متشابكة وفريدة.
لكثيرين، لا تبدو الدراسات الإنسانية المجتمعية والنفسية والفكرية ذات أولوية في ظل المقتلة المستمرة والتذبيح المتواصل في القطاع؛ وقد طغت التحليلات العسكرية والسياسية عليها، وعلت مطالبات بتوفير الحاجات الأساسية من مأوىً وغذاء وماء ودواء في مقابل خفوت المطالبات بالفهم الدقيق لأهمية الخدمات المجتمعية وتلك المتعلقة بالصحة النفسية وإعادة التأهيل كعتبة أساسية في طريق فهم الغزّي وإسناد تجربته ووجوده.
جزءٌ من هذه التوجهات يأتي نتيجة طبيعية للوضع القائم، بينما يأتي الجزء الآخر من التصوّرات الجمعية غير الدقيقة إما بكون هذه الخدمات والدراسات المتعلقة بها رفاهية ثانوية، أو غير ذات حاجة ملحة كون البُعد الديني أو البطولي وحده قادرٌ على تعويضها والتعافي منها، أو في البُعد الأخير العنصري: لا مكان لها بين متطرفين هم مشاريع موت وعنف.