يبدو السؤال عن من سيحكم غزة في اليوم التالي على الحرب سؤالًا لا أخلاقيًا، إذ من المفترض أن تكون الأولوية للملمة معاناة "اليوم الحالي" بوقف الحرب وما ينجر عنها من قتلٍ وتدميرٍ وتهجير وتجويع مستمر أولًا. لكنّ جانبًا كبيرًا من مساعي وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى على علاقة وطيدة بسؤال لمن سيؤول الأمر في القطاع المحاصر والمدمّر بعد مرور نحو 10 أشهر على العدوان؟
تصدّى أستاذ برنامج الدراسات الأمنية بجامعة جورج تاون، دانييل بايمان، للإجابة عن هذا السؤال الذي بات الشغل الشاغل لجميع الأطراف.
وسيشتبك هذا التقرير مع أهمّ الإجابات التي يقدمها مقال بايمان المطول الذي نُشر في موقع فورين أفيرز الأميركي.
خلفية
توالت سلطاتٌ عدة على إدارة قطاع غزة، ففي عام 1967 احتلت إسرائيل القطاع حتى عام 1994، وبموجب مفاوضات اتفاق أوسلو تم نقل السيطرة الرسمية على غزة إلى السلطة الفلسطينية، وذلك على الرغم من أنّ إسرائيل حافظت على إحدى وعشرين مستوطنةً فيها حتى عام 2005.
وعرفت إدارة القطاع منعرجًا جديدًا عام 2006 عندما فازت حركة المقاومة الإسلامية "حماس" في الانتخابات التشريعية الفلسطينية، حيث تمكّنت الحركة في غضون أقل من عام من السيطرة على غزة وحكمها، رغم العديد من القيود الإسرائيلية.
في ضوء نقاط الضعف التي تعيب البدائل الفلسطينية المختلفة لحماس، فإن هناك خيارًا آخر يتمثل في سيطرة جهات خارجية على غزة في هيئة وصاية بحكم الأمر الواقع، كما حدث في كوسوفو وتيمور الشرقية
وشكّل السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 منعرجًا جديدًا في تاريخ القطاع المعاصِر، إذ احتلّت على إثره إسرائيل غزة من جديد ردًّا على عملية "طوفان الأقصى".
ومن ساعتها ومصير إدارة القطاع غير محسوم، وإن كانت جميع السيناريوهات المطروحة لا تخلو من أحد خمسة احتمالات، الأول أن تواصل إسرائيل احتلال القطاع والثاني أن تتخلى عن إدارته لصالح السلطة الفلسطينية والثالث أن تتولى إدارة محلية تختارها إسرائيل مهمة حكم غزة والرابع أن تعود حماس إلى حكم القطاع من جديد. والاحتمال الأخير هو سيناريو الطرف الثالث أي أن تتولى جهة خارجية إدارة غزة حال فشل البدائل الفلسطينية والإسرائيلية.
ومن الواضح أنّ بعض هذه الخيارات المحتملة لمستقبل غزة يترك حركة حماس قويةً للغاية، في حين يتطلّب بعضها الآخر احتلالًا مكلفًا للمنطقة من جانب إسرائيل أو قوًى أجنبية. وفي الوقت الذي يبدو فيه الاحتمالان الأول والأخير مستبعدان، تحظى الاحتمالات الثلاث الأخرى بدعمٍ كبير إلى حدٍّ ما.
حكم السلطة الفلسطينية
يحظى هذا الخيار بدعمٍ أميركي، وببعض الدعم في دوائر القرار الإسرائيلية على الرغم من التشكيك في كفاءات السلطة للقيام بهذه المهمة إسرائيليًا ورفض نتنياهو العلني لمثل هذا الخيار، وأيضًا رفض حركة حماس له ظاهريًا، وهذان أمران يصعّبان تحقيق هذا التوجه، ففي حين تأمل الولايات المتحدة أن تحكم السلطة الفلسطينية غزة، وأن تصبح في النهاية شريكًا أكثر مصداقيةً في المفاوضات من أجل "حل الدولتين المأمول" فإنّ الحكومة اليمينية المتطرفة في إسرائيل ترفض بشكلٍ قاطع تقوية السلطة والتفاوض على إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة. بدعوى أنّ الدولة الفلسطينية سوف تتحول إلى "ملاذ للإرهاب" حسب نتنياهو الذي أكد أكثر من مرة أنه "غير مستعدٍّ لتسليم غزة إلى السلطة الفلسطينية".
على الورق تتمتع السلطة الفلسطينية بالفعل بحضور بيروقراطي في غزة، دفعت رواتب بعض الموظفين المدنيين هناك، وهو ترتيب لا يزال قائمًا من فترة ولايتها السابقة في السلطة، ولديها حكومة ظل تدعي إدارة التعليم والأمن على الرغم من أنها في الواقع لا تفعل شيئًا.
إذا تولت السلطة الفلسطينية المسؤولية فإن بايمان يرى أنه "سوف يكون من الأسهل على الدول العربية العمل مع إسرائيل لإعادة بناء غزة، إذ إن العديد من الحكومات العربية تكره حماس بسبب علاقاتها مع جماعة الإخوان المسلمين وإيران، "وكلتاهما تمثلان تهديدًا سياسيا لمصر والمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة خصوصًا".
وفي الوقت نفسه، يقول بايمان إنه من الخطير سياسيًا أن تعمل الحكومات العربية مع إسرائيل لأنها غير شعبية للغاية بين مواطنيها، خاصةً عندما تقتل الفلسطينيين بشكل يومي.
وإذا قدمت تل أبيب تنازلات للسلطة الفلسطينية ووعدت بالتقدم نحو حل الدولتين فإن بايمان يرى أنه يمكن للقادة العرب حينها تبرير العمل مع إسرائيل لأنهم يستطيعون أن يظهروا لشعوبهم أنهم لا يتخلون عن الفلسطينيين.
لكن بايمان يرى أن تنصيب السلطة الفلسطينية لن يكون الحل السحري، إذ إنّ سجلها في الضفة الغربية ضعيف، وتعد منظمةً فاسدةً وتفشل في تقديم العديد من الخدمات الأساسية، ولم تجرِ انتخابات حقيقية منذ عام 2006 لأن قادتها وداعميها الأجانب يخشون أن تخسرها.
ومن جهة أخرى، يريد ما يقارب 90% من الفلسطينيين استقالة الرئيس محمود عباس (88 عامًا)، والأمر الأكثر أهمية هو أن العديد منهم ينظرون إلى السلطة الفلسطينية باعتبارها أداة في يد إسرائيل لأنها تتعاون مع أجهزة الأمن الإسرائيلية.
وتزداد صورة السلطة الفلسطينية سوءا في كل مرة يبني فيها المتطرفون اليهود مستوطنةً جديدة أو يهاجمون الفلسطينيين.
في الماضي كان ينسب إلى السلطة الفلسطينية الحفاظ على بعض مظاهر النظام، والآن مع تنامي العنف في الضفة الغربية لا تستطيع حتى أن تزعم ذلك، ففي الفترة من 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 إلى 15 تموز/يوليو 2024 هاجم المستوطنون الإسرائيليون الفلسطينيين أكثر من 1100 مرة، وفقًا لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية.
ويقول بايمان إنه على الرغم من تعاون السلطة الفلسطينية مع إسرائيل فإن العديد من الساسة الإسرائيليين يعارضون فكرة سيطرة السلطة على غزة، ويزعمون أنها تعمل على تطرف الفلسطينيين.
يطرح بايمان فكرةً جديرة بالتوقف عندها، مقتضاها أن تدعم الولايات المتحدة وحلفاؤها تشكيل حكومة تديرها السلطة الفلسطينية بعد تنحي قيادتها الحالية بزعامة محمود عباس، ثم الضغط على إسرائيل لحملها على قبول هذا الخيار.
لكنّ ما هو أكثر فلسطينيةً هو التوجه نحو حكومة وحدة وطنية على أساس إعلان بكين الأخير الذي يعدّ متقدّمًا بالمقارنة مع الصيغ الأخرى.
لكن بايمان يعتقد أنّ المستقبل الأكثر ترجيحًا هو أن يتحول قطاع غزة إلى دولة تحتفظ فيها حماس ببعض السلطة في الوقت نفسه الذي تغزوها فيه القوات العسكرية الإسرائيلية بانتظامٍ لقمعها.
ويعني هذا السيناريو، في وجهة نظره، استمرار معاناة سكان غزة، ولكنه أيضًا يعني تراجع حدة الاحتجاج الدولي، إذ يصبح الناس في مختلف أنحاء العالم غير مبالين بالعنف.
إدارة الاحتلال
إن أحد الاحتمالات المستقبلية المحتملة بالنسبة لقطاع غزة هو أن تعيد إسرائيل احتلاله بالكامل، فحاليًا، وعلى الرغم من أن إسرائيل، تحتل القطاع وتحتفظ بوجود عسكري كبير فيه إلّا أنها لا تديره بشكل فعلي، وزيادةً على ذلك تعرقل إسرائيل تدفق المساعدات وعمل العديد من المنظمات الدولية والجمعيات الخيرية، مثل اليونيسيف وأطباء بلا حدود، التي تقدم بعض الخدمات لكنها عاجزة عن القيام بما ينبغي بسبب القتال الدائر والقيود الإسرائيلية على دخول البضائع إلى غزة، وتدمير البنية الأساسية الصحية في القطاع.
تعرقل إسرائيل تدفق المساعدات وعمل العديد من المنظمات الدولية والجمعيات الخيرية مثل اليونيسيف وأطباء بلا حدود
ويرى بايمان أنه إذا عاودت إسرائيل احتلال غزة فإن الفلسطينيين في القطاع سيفقدون السيادة على أرضهم، لكنهم قد يتمكنون من التمتع ببعض السلام والخدمات الأساسية، وربما تقوم إسرائيل في نهاية المطاف بتسليم بعض السلطات للفلسطينيين المحليين، ولكن هذه العملية سوف تكون تدريجية حتى في ظل السيناريو الأكثر تفاؤلًا.
كما أن إسرائيل ستطارد أعضاء حماس بشكل روتيني لمنع الحركة من الظهور مرةً أخرى، وهو ما يتطلب عمليات عسكرية متكررة، ولهذا واستنادًا إلى الحسابات التي أجراها المحلل جيمس كوينليفان من مؤسسة راند لتحديد حجم عمليات الاستقرار فإن الاحتلال سيضطر إلى الاحتفاظ بنحو 100 ألف جندي وشرطي أو أكثر في مدينة غزة إلى أجل غير مسمى، نظرًا لأن المدينة حضرية في معظمها، وهو ما يجعل العمليات العسكرية صعبةً بشكل خاص.
ويعد هذا عدد ضخم بالنسبة لإسرائيل، فهي دولة صغيرة يعتمد جيشها بشكل كبير على الاحتياط، خاصةً بالنظر إلى أنها تواجه أيضًا اضطرابات في الضفة الغربية وحربًا محتملةً مع حزب الله المدعوم من إيران.
وإذا أعادت إسرائيل احتلال غزة بعدد أقل من القوات فقد تعود حماس إلى أجزاء من القطاع، وقد حدث هذا بالفعل في كانون الثاني/يناير 2024، عادت المقاومة إلى مدينة غزة بعد أن سحبت إسرائيل الجزء الأكبر من قواتها من هناك، ثم عادت إلى مناطق أخرى اعتقد المسؤولون الإسرائيليون أنها خالية من المقاومين.
ويضيف بايمان أن حماس لن تقف مكتوفة الأيدي، فمن المحتم أنها ستشن تمردًا بمستويات محددة ضد الجيش الإسرائيلي، وستقوم بعمليات اختطاف باستمرار. وذلك سيلحق ضررًا كبيرًا بسمعة إسرائيل إذا ما حدث، فصورتها أصبحت ممزقةً بالفعل، بما في ذلك بين جيل الشباب في الولايات المتحدة حليفتها الأكثر أهميةً.
فضلًا عن ذلك تعارض واشنطن هذا الخيار حسب بايمان، فهي لا تريد أن يُنظَر إليها باعتبارها شريكةً في احتلال المزيد من الأراضي الفلسطينية على المدى الطويل، كما أن القتال المستمر سيصرف الانتباه عن أهداف أخرى للولايات المتحدة في المنطقة، مثل توحيد الحلفاء ضد إيران.
عودة حماس
يظلّ هذا السيناريو محتملًا، وإن كانت الصعوبات التي تواجهه كثيرةً، وجانب من هذه الصعوبات يعتري قدرات حماس نفسها التي تعرضت لضربات قوية دمّرت، حسب مقال فورين آفيرز، الكثير من بنيتها التحتية العسكرية وقتلت العديد من عناصرها. ومع ذلك تظل حماس، حسب المقال، أقوى جهة فلسطينية في القطاع وقد تستعيد السيطرة عليه، ومن الممكن أن تستخدمه قاعدةً لإعادة بناء قواتها المسلحة وشن هجمات على إسرائيل واستعادة مصداقيتها ككيان حاكم، وفق تعبير بايمان.
مع الإشارة إلى أنّ إسرائيل ستستمر في شن ضربات منتظمة على حماس، في محاولة لقتل قادتها ومنعها من إعادة تجميع صفوفها، وستفرض هي ومصر قيودًا شديدة على النشاط الاقتصادي في القطاع، بحسب بايمان.
وبالنسبة لإسرائيل، فإن عودة حماس إلى الحكم أمر غير وارد، إذ أكد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مرارًا وتكرارا أن إسرائيل تسعى إلى "النصر الكامل"، كما ستبدي الولايات المتحدة تحفظًا إزاء احتمال عودة الحركة إلى السلطة علنًا.
وفي سيناريو أكثر معقولية، بالنسبة لبايمان، فإن حماس قد تمارس سلطتها خلف الكواليس كما يفعل حزب الله في لبنان، فرغم أنه هو القوة الأكثر نفوذًا في البلاد فإنه يحافظ على واجهة مفادها أنه ليس المهيمن ويتجنب أن يصبح الوجه العام للبنان.
وحتى قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر كان حكم غزة في ظل العزلة الدولية صراعًا مستمرًا، وحاولت حماس السعي مع السلطة الفلسطينية لتشكيل حكومة وحدة وطنية، ورغم أنهما وقّعتا بعض الاتفاقيات التي تدعم هذه الفكرة فإنه لم تفلح أيٌّ منها في إنهاء الانقسام.
وفي هذا الدور التي تحكم فيه من خلف الكواليس يمكن لحماس أن تقاتل إسرائيل عندما تريد، وأن تترك المهمة الصعبة المتمثلة في إعادة بناء غزة وتقديم الخدمات لشخص آخر.
قوى محلية مستقلة
لم تقدم إسرائيل سوى القليل من التفاصيل بشأن الطريقة التي تعتقد أنه ينبغي أن يحكم بها قطاع غزة. لكن من بين ما طرحته، حتى اللحظة، فكرة تولي زعماء فلسطينيين محليين أو مستقلين غير منتمين إلى أي جهة المسؤولية بدلًا من حماس أو السلطة الفلسطينية.
وقد تكون مثل هذه الحكومة، حسب موقع فورين أفيرز، لامركزيةً، حيث يتولى زعيم عشيرةٍ المسؤولية في جزءٍ من غزة، ويتولى سياسي محلي المسؤولية في جزء آخر، وقد تسيطر إسرائيل بنفسها على مناطق معينة وتساعد زعماء غزة المحليين في إدارة بقية القطاع والإشراف على إعادة الإعمار بدعمٍ دولي وتقديم يد العون للحكومة في المهام اليومية.
وفي نهاية المطاف قد تتولى الولايات المتحدة أو غيرها من الدول الأجنبية الدور الذي تلعبه إسرائيل.
وفي الأمد القريب، يرى مقال فورين أفيرز أنّه ربما يرحب بعض الفلسطينيين بحكومةٍ قادرة على توفير الخدمات الأساسية، وهو ما يشكل خطرًا أقل في إثارة المزيد من الحروب مع إسرائيل.
لكن هذا النهج، حسب كاتب المقال، هو في الأساس مجرد حلمٍ بعيد المنال، لأنّ أي جهةٍ فلسطينية لم تعلن استعدادها، وكل المحاولات لتجربة هذا المقترح باءت بالفشل وتعرضت بسرعة للضرب من طرف حماس.
السيطرة الخارجية
وفي ضوء نقاط الضعف التي تعيب البدائل الفلسطينية المختلفة لحماس، حسب بايمان، فإن هناك خيارًا آخر يتمثل في سيطرة جهات خارجية على غزة في هيئة وصاية بحكم الأمر الواقع، كما حدث في كوسوفو وتيمور الشرقية.
فقد تولت إدارة الأمم المتحدة الانتقالية في تيمور الشرقية -والتي تأسست عام 1999- تعيين القضاة وتنظيم الاقتصاد وتدريب الموظفين الحكوميين، إضافةً إلى مهام أخرى، وإذا تم إنشاء هذه الترتيبات في غزة فقد تكون نتيجةً في حد ذاتها أو تستخدم للانتقال إلى سيناريو آخر.
وربما يكون بوسع الوصي -الذي يتألف ربما من مسؤولين وقوات من بلدان عربية وأوروبية تعمل تحت رعاية الأمم المتحدة- أن يوفر الأمن ويدير الخدمات.
ويشير بايمان إلى أن سيطرة طرفٍ ثالث قد تسهل محادثات السلام الإسرائيلية الفلسطينية في نهاية المطاف إذا رعى الوصي مجموعةً من الزعماء السياسيين الفلسطينيين الذين يتمتعون بالشرعية المحلية والدولية.
لكن في الممارسة العملية فإن الوصاية من المرجح أن تفشل، ولا أحد يتطوع للقيام بهذه المهمة، حسب بايمان.