افتتح المدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات المفكر العربي عزمي بشارة، أعمال المنتدى السنوي لفلسطين، صباح اليوم في السبت، والذي يُنظّمه "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" و"مؤسّسة الدراسات الفلسطينية"، في العاصمة القطرية الدوحة.
وبدأ بشارة كلمته، بملاحظة، قال فيها: "ليست الدراسات ذات الصلة بفلسطين، تخصصًا قائمًا بذاته، فهي تتداخل مع العلاقات الدولية، والدراسات الإقليمية، والتاريخ العالمي والإقليمي، فضلًا عن التخصصات المختلفة في العلوم الاجتماعية".
وعاد إلى كلمته في الدورة الأولى من المنتدى، قائلًا: "وقد حققت تقدمًا كبير، أي الدراسة المرتبطة بفلسطين، لناحية استقبالها في المؤسسات الأكاديمية المرموقة، بما في ذلك الجامعات والدوريات وغيرها في مختلف البلدان. ولكنّ لا يمكن تجاهل الخطر المحدق للإنجازات في هذه المرحلة، نتيجة لمحاولة جماعات الضغط الإسرائيلية، ورأس المال المرتبط بها واليمين المتحالف معها، وبعض الأكاديميين غير المسيسيين المرعوبين من تهمة العداء للسامية، فرض مكارثية جديدة على المؤسسات الجامعية في الغرب. وذلك، باستغلال أجواء تعرض إسرائيل لهجمات المقاومة الإسلامية يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، وحرب الإبادة الإسرائيلية التي تشن على قطاع غزة حتى اليوم، وإذكاء حمى مكافحة الإرهاب تارة، ومكافحة اللاسامية تارة أخرى، أو جمعهما معًا. فقلما يدقق في صحة استخدام المفاهيم والمصطلحات، في زمن الهستيريا الحربية، التي تُسخر للتغطية على مراجعة منجزات حرية التعبير والحريات الأكاديمية في الجامعات وتخفيض سقفها".
وأضاف بشارة: "أنها الحرية الأكاديمية، التي طالما ضاق بها اليمين الشعبوي، وتتطلب مواجهة هذه الحملة، إرادة وعزيمة والتحلي بالحكمة والتنسيق مع القوى المنحازة للعدالة في عالمنا، وجميع أولئك المتمسكين بالحريات المدنية والأكاديمية في الدول الديمقراطية".
واستمر صاحب كتاب "فلسطين: مسائل في الحقيقة والعدل"، بالقول: "لن أتناول في هذه الافتتاحية بالتفصيل، ملابسات استحضار تهمة اللاسامية الجاهزة ضد نقاد إسرائيل، ولكن يصعب تمالك المرء نفسه عن الإشارة إلى واقعة غريبة، هي اضطرار حملة الدفاع عن الشعب الفلسطيني في غزة إلى مواجهة قوى، تمثل الاستمرار الفعلي للاسامية، كما عرفتها الحضارة الغربية. لقد أصبح عدوها الدوري "الذي يلوث الحضارة الأوروبية" العرب والمسلمين، ونموذجها المفضل عن الدول العسكرية القوية هو إسرائيل. يصعب تفويت الإشارة إلى هذه المفارقة العجيبة، المتمثلة في تحول كارهي اليهود سابقًا إلى محبي إسرائيل حاليًا، وامتلاكهم الجرأة الكافية، لاتهامهم المدافعين عن حقوق الإنسان في فلسطين باللاسامية".
وبعد الملاحظة الافتتاحية، قال المدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات: "صحيح إن تعقيد قضية فلسطين، يعود إلى تداخلها مع قضايا المسألة اليهودية في الغرب، وما سبق أن سميته المسألة العربية في الشرق. لكن استمرارها لهذه المدة الطويلة، دون حل، أدى إلى تداخلها مع قضايا إقليمية ودولية يصعب حصرها. وقد طرح العدوان على غزة، تحديات جديدة على مستويات القضية الفلسطينية كلها، وأيضًا على صعيد العلاقات الدولية والإقليمية، والأبعاد الثقافية والسياسية والقانونية، التي تتداخل معها".
وأضاف بشارة: "كشفت الحرب على نحو أوضح من أي وقت مضى، الطبيعة الاستعمارية الاستيطانية، ليس فقط للعلاقة بين الحركة الصهيونية والشعب الفلسطيني، وإنما لطابع دولة إسرائيل ذاتها، لقد تصرف المجتمع الإسرائيلي كقبلية موحدة، كما في جميع الأزمات الكبرى، بحيث تشده عصبية نابذة لأي رأي مخالف، وطغت غريزة الثأر والانتقام على تفكيره، فالسكان الأصليون يجب أن يدفعوا ثمن ما جرى جماعة، كي يتعلموا الدرس، وهم لا يفهمون سوى لغة القوة، وفق هذه العقلية. وكان الطبيعي، أن يختفوا ويغادروا، لأن العقلية الإحلالية لم تسلم يومًا بوجود من بقي منهم، وتسامح الدخيل مع وجود الأصيل على الأرض، مشروط بسلوك مقبول من طرفه، إذ لا يتقبل المحتل أي مظهر قوة أو ثقة بالنفس، يظهرهما السكان الأصليون. وأي خرق لقواعد هذا السلوك، يُرد عليها بالعقوبات الجماعية، يبدأ ذلك بهدم بيت عائلة من يقدم على عملية مسلحة ضد الاحتلال، ومعاقبة القرية أو المدينة التي خرجت منها جماعة مسلحة، مرور بتجميد تراخيص العمل في إسرائيل، أو إغلاق المناطق المحتلة برمتها، وصولًا إلى تدمير قطاع غزة وجعله غير صالح للحياة، فعمليات التدمير والإبادة في قطاع غزة، عبارة عن تمادي هذا النهج إلى درجة التوحش".
وتابع بشارة: "يعتمد الاحتلال في نهاية المطاف على العنف، وأي توانٍ في ممارسته يؤدي إلى انكشاف مجتمع المستوطنين أمنيًا، ما يضطر الدولة استخدام أضعافًا مضاعفة، فتعبئ كل الطاقات لصالح المعركة، بوصفها ردًا على تهديد وجودي، والتهديد الوجودي يشمل الوجود كله، ويتطلب التعبئة الشاملة، العسكرية والثقافية والإعلامية والأكاديمية، وتتغلغل التعبئة في المجال الخاص إلى إنتاج نظام شمولي، يُحول الأفراد إلى مجرد جنود، يعبرون عن الحب بواسطة الكراهية، وتتعسكر فيها أكثر المناسبات حميمية، وتختلط فيها الفاشية بالسماجة الاستعراضية، وتعد تحديًا لمن يعد البحث المقارن، إذ لا يرجح أن يجد لها نظيرًا".
وأشار بشارة، إلى أن "الثأر والانتقام لا يمارس لإرضاء كبرياء المحتلين وشعورهم بالتفوق، اللذين مست بهما عملية كتائب القسّام فقط، حافرةً في الذاكرة صورًا، مثل صورة الفلسطيني الذي يعتقل جنديًا إسرائيليًا أو يخرجه من دبابة بالقوة، ما يقلب نظام الأشياء في عالم المستوطنين رأسًا على عقب. بل يمارس أيضًا عن سبق الإصرار، تطبيقًا لاستراتيجية مفادها، تلقين الفلسطينيين وجيرانهم، درسًا لا ينسى، ومن هذه الناحية ليس الضرر اللاحق بالمدنيين الفلسطينيين، عرضيًا أو جانيًا، بل هو من أهم أهداف الحرب، ما يؤدي حتمًا للإبادة، بتعريفها الدولي".
وأوضح بشارة في الحديث عن العدوان الإسرائيلي: "في خدمة هذه الحملة على مجتمع السكان الأصليين تصبح كل الأساليب مُباحة، بما في ذلك التفنن في الكذب وشيطنة الآخر والاستخدام المغرض لاستعارات المحرقة النازية، التي وقعت في مكان وزمان آخرين وحضارة أخرى. إلى درجة أن جنودًا إسرائيليين، قالوا إنهم يشعرون بأنهم يدخلون إلى معسكر أوشفيتز لمحاربة النازية، فأساءوا بذلك لضحايا النازية، وقللوا من شأن النازية ذاتها، وذلك في الوقت الذي يشاركون فيه بأنفسهم في حرب إبادة جماعية، تشن على معسكر اعتقال كبير، لا ملجأ فيه ولا مفر مما تمطره على الناس أحدث القاذفات الحربية".
واستمر في تشخيص الحرب على غزة، مضيفًا: "هذا والجو العام السائد، هو التشجيع على ارتكاب الجرائم ضد الفلسطينيين لا المحاسبة عليها. وهذا خلافًا لادعاء القاضي أهارون باراك، الذي مثل إسرائيل في محكمة العدل الدولية، في تعقيبه على قرار المحكمة، إذ لا يسود قانون ولا قضاء في إسرائيل في زمن الهستيريا الحربية. حيث تتعرى على نحو سافر النظرة الفوقية العنصرية، إلى السكان الأصليين، التي كانت مموهة مؤقتًا بتسامح القوة في أزمنة الرخاء والاسترخاء، إذ تصعد من جديد رؤية الآخر بوصفه تهديدًا ومشكلة أمنيةً، وهذه لا تتطلب القوة الرادعة والرقابة الكاملة فحسب، بل أيضًا تعليم المستعمَر الذي لم يهجر وتدريبه على قبول واقع الأبارتهايد، حتى لو تطلب ذلك فرض العقوبات الجماعية القاسية، بوصفها أسلوبًا في التربية، يعقبها تغيير مناهج التدريس، بحيث يتحول فيها الدخيل إلى أصيل، وتقتل فكرة مقاومة الظلم من العقول والقلوب".
وواصل بشارة تفكيك السياسة الاستعمارية الإسرائيلية، بالقول: "في كل مرة يصعق حكام إسرائيل وحلفائهم، من فشل هذه السياسات، ومن أن كل جيل فلسطيني ينتج ثقافته المناهضة للاحتلال وأساليبه في مقاومته، فلا يستنتجون من ذلك، ضرورة تغيير السياسة جذريًا للتعايش مع الشعب الفلسطيني على أساس العدالة والمساواة، بل تطوير أساليب القمع وتعزيز قوة الردع، وتتيح الديمقراطية الحرية الكاملة والتعددية، في مناقشة وسائل السيطرة وتنجيعها".
أمّا على مستوى العلاقة بين الدول العربية وقضية فلسطين، قال بشارة: "أكدت الحرب على غزة مرة أخرى -ما سبق أن كشفه حصار بيروت، وحصار المقاطعة في رام الله، وحرب 2006 على لبنان، والحروب المتتالية الأربعة على غزة- ليست قضية فلسطين، قضية كل دولة عربية على حِدةٍ، بعض الدول تتأثر بها أكثر من غيرها، ولكنها قضية العرب المركزية، بوصفهم عربًا، بوجود مشروع عربي -إذا وجد مشروع عربي- لا بوصفهم دولًا منفصلةً، قد نختلف على تعريف المشروع العربي أو حقيقة وصفه أو تحديد موعد انهياره، الأمر الواضح لا علاقة لمواصلة التوقعات والخيبات واللوم والهجاء، إذ ليس هناك في الواقع فاعل يمكن تسميته النظام العربي إلّا شكليًا، وما يوجد في الحقيقة هو أنظمة عربية لديها أجندات داخلية وخارجية، من دون مفهوم أو حتى تصور للأمن القومي العربي، ولو كان هناك مفهوم كهذا، لما كان الحال ما هو عليه في سوريا واليمن وليبيا والسودان، ويمكن إضافة دول أخرى، وليس في فلسطين فقط".
وأضاف بشارة: "للأسف، بدأنا نسمع ونقرأ مصطلح الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، وثمة محاولات جارية لتسريبه إلى الوثائق الرسمية العربية، وإذا كانت دول عربية قد تخلت عن مصطلح الصراع العربي الإسرائيلي، فهذا شأنها، أمّا أن تستبدل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي بقضية فلسطين، فهذا أمر آخر. ليس الصراع في فلسطين نزاعًا بين طرفين، بل قضية تحرر وطني، هي القضية الفلسطينية".
وفي السياق نفسه، قال بشارة: "لماذا نستمر في التوقع والتطلع، الذي يليه الشعور بالإحباط والغضب -غضبنا في حصار بيروت حين لم تحرك الدول العربية ساكنًا لفك الحصار عن منظمة التحرير الفلسطينية، وكذلك عندما حوصرت المقاطعة في رام الله، وكانت مقدمة لاغتيال زعيم فلسطيني وعربي وهو ياسر عرفات من جانب قوة استعمارية محتلة-، لماذا نُصرّ على التمنيات التي تجر الخيبات؟ أهي مازوخية نستمتع بها؟ هذه انفعالات طبيعية، بسبب عناد الهوية العربية التي تجمعنا، وإصرارها على النبض بالحياة على الرغم من التحولات الدولية والإقليمية، وقد يكون سبب الأمل الذي لا شفاء منه، أن الرأي العام العربي، عمومًا متضامن مع فلسطين، وليس فقط مع فلسطين، بل مع فعل المقاومة أيضًا، وهو رافض لأي تطبيع مع إسرائيل، بغض النظر عن درجات الوعي بما يجري، وقد يكون هذا التضامن بين الشعوب خميرةً للمستقبل، كما حصل بعد الحرب على غزة عام 2009. لكنه في حد ذاته لا يغير، على نحو فوري سلوك الحكومات، الناجم عن شبكة تربط بنية كل نظام على حدة، في علاقات إقليمية ودولية، وإن كانت تضطر إلى مسايرة الحراك الشعبي خطابة. من هذه الناحية، من المفيد أن نمعن النظر في الفرق بين حركات التضامن الإنساني مع قطاع غزة، المتواصلة في بعض الدول الغربية وذات النفس الطويلة والتي تتصاعد ولا تتراجع، وبين ثورات الغضب التي تصعد في بلداننا، ثم تخبو، ولا أشير هنا إلى مشكلة ثقافية، فربما كان العامل الرئيس في هذا كله، هو الخوف من تبعات المشاركة في أي حراك شعبي، فقد أصبح حتى التضامن مع فلسطين في بعض بلداننا محظورًا".
وأكد بشارة، على أن حركات الاحتجاج العربية المتضامنة مع فلسطين، لو كانت مستمرة ومثابرة ومنظمة، ويمكنها أن تؤثر أيضًا في مواقف الدول الغربية، المعنية باستقرار الأنظمة الحليفة لها في المنطقة.
وأضاف: "حاليًا ثمة تناسب عكسي، بين تقلص الحراك الشعبي وتفشي المَكلمة على وسائل التواصل الاجتماعي، التي تصور آلام الناس في مقابل تراجع الفعل السياسي المؤثر في الفضاء العام، وهذا أمر يجب التعامل معه نقديًا".
وتابع صاحب كتاب "في المسألة العربية: مقدمة لبيان ديمقراطي عربي"، بالقول: "الواقع العربي المرير، هو معطى يجب أن يؤخذ في الحسبان، ضمن حسابات النضال واستراتيجيات المقاومة، المشاعر القومية والوطنية والتوقعات النقدية، وإن تبعتها خيبات الآمال شيء، والحسابات الاستراتيجية العقلانية هي شيء آخر. في الحالتين، لا يوجد أي مبرر في الدنيا، لعدم تحد الحصار على قطاع غزة، بالإغاثة والدعم الإنساني، وتنفيذ القرار الذي ينص على ذلك، والذي صدر عن القمة العربية والإسلامية".
وفي معالجة للتحالف والعلاقة بين إسرائيل والدول الغربية، قال بشارة: "كشف العدوان على غزة، أن هذه العلاقة تقوم على المصالح، ولكن لا تقتصر عليها وقد شهدنا سلوك المؤسسات الإعلامية الكبرى بمعايير مزدوجة، ليس فقط في القضايا السياسية بل حتى مع الأمور الإنسانية، وسوق يلاحق عار عدم فعل المزيد للتواجد الصحفي المباشر في غزة لمرافقة الحدث الكبير مهنيًا وتغطية الجريمة الكبرى المستمرة، هذه المؤسسات للأبد، سوف يلاحقها بعدما فرضت حرب الإبادة عليها نشر أخبار أكثر توازنًا".
واستمر بشارة في المحاضرة الافتتاحية، قائلًا: "لأول مرة تعمل إسرائيل بهذه القوة، على فرض رؤيتها للمنطقة، بما ذلك شيطنة مؤسسات أممية، وعلى دول مجتمعات كاملة، بما في ذلك مؤسساتها الجامعية والإعلامية إلى درجة تخوين من يخالفها أو معاقبته، بما يشبه الحرمان في العصر الوسطى. وتتحمل الإدارة الأمريكية مسؤولية كبرى في بلوغ إسرائيل، هذه المبلغ من الغطرسة، ومن المرجح أن يضيق الناس ذرعًا بهذا الأسلوب، وأن تنقلب الأمور عليها في مرحلة قادمة، فلا يعقل أن تستمر هذه السطوة المخالفة للعقل والمنطق"، موضحًا: "لقد طورت إسرائيل، في علاقتها مع الدول الغربية، لاسيما الولايات المتحدة، مصالح مشتركة لا تقتصر على تلقي الدعم، كما طورت شبكة علاقات تحتفظ فيها ببعض الاستقلالية في صنع القرار، بحيث تكون قادرة على أن تفرض على دول الغرب مواصلة دعمها، رغم الاختلاف في الرؤية، بوصفها حليفًا لا بديل منه. ومن نافل القول، إن للدول الكبرى مصالح واهتمامات مختلفة في المنطقة، وأن إسرائيل تعد حليفًا مستقرًا وقوة عسكرية رادعة، ولكن هذه المقولة تفسر ذاتها ولا تفسر وحدها شيئًا آخر. فحين تعبر الحكومات في الدول العربية الرئيسة، عن إرادة الشعوب، ولو كان ذلك لأسباب داخلية لا علاقة لها بفلسطين، فسوف تصطدم مع تصورات إسرائيل للإقليم، وقد تصبح إسرائيل نتيجة لذلك، عبئًا على الدول الكبرى، ولو كانت الدول العربية قادرة على الاتفاق على أجندة عربية مشتركة، في التعامل مع الولايات المتحدة في قضية فلسطين وغيرها من القضايا الإقليمية، عوضًا عن التنافس بينها على الاقتراب منها، لكانت قادرة على صنع المصالح، وتحجيم التأثير الإقليمي والدولي لإسرائيل"، وأضاف: "لا يوجد لوم في التاريخ، لكني أتحدث عن المستقبل لا التاريخ، وفي المستقبل أكثر من لوم واحد".
وأكد بشارة، قائلًا: "لقد أعادت عملية طوفان الأقصى وحرب الإبادة الإسرائيلية التي شنت على غزة، القضية الفلسطينية إلى الواجهة وجدول الأعمال الإقليمي والدولي، لكن إسرائيل تسابق الزمن، في محاولة لمراجعة هذا التطور الهام، ولذلك تواصل عدوانها حتى إنهاء ما تعتبره مهمتها في هذه الحرب، وهو القضاء على المقاومة الفلسطينية المسلحة المنظمة في قطاع غزة، كهدف قائم بذاته، وكي تقتنع دول عربية بمواصلة التطبيع مع إسرائيل بدون حل عادل لقضية فلسطين".
وفي اتصال مع النقطة السابقة والتطبيع مع إسرائيل، أوضح بشارة: "من المفهوم، أنه لا يمكن إنشاء محور عربي- إسرائيلي، إلا بتهميش القضية الفلسطينية وهذه بديهية، حتى لو تحدثوا كثيرًا عن فلسطين، وما يعرقل مخططها هو تجاوز مدة الحرب، حتى التوقعات الإسرائيلية المتشائمة، وفشلها في تحقيق الهدف الاستراتيجي المتمثل في القضاء على المقاومة المسلحة، التي عادت وانتشرت فوق الركام وتحته". وعن ذلك، أضاف: "تفرك القيادة الإسرائيلية أعينها، غير مصدقة ما يجري، هذا فضلًا عن عدم تمكنها من تحرير المحتجزين الإسرائيليين، والهدف الوحيد الذي تم إنجازه هو تدمير قطاع غزة وجعله غير قابل للعيش، على أمل حصول موجات هجرة قسرية مستقبلًا، ولا سيما في الفترة الحساسة الواقعة بين وقف إطلاق النار وإعادة الإعمار، أو إشغال الشعب الفلسطيني سنوات طويلة في تعافي مما تعرض له".
وعن استمرار العدوان على القطاع المحاصر، قال المفكر العربي: "تواصل إسرائيل الحرب، على الرغم من انتشار القناعة لدى الحكومة الأمريكية وفي دولة الاحتلال نفسها، بعدم جدوى مواصلة التدمير بعدما لم يعد هناك ما يدمر، واحتمال استنزاف إسرائيل رصيد التعاطف معها، ولا تستطيع دولة الاحتلال مواصلة حرب طويلة، دون اعتماد مطلق على الدعم الأمريكي، لذلك تزداد قدرة الولايات المتحدة للضغط على إسرائيل، ولكنها لا تفعل، بل ما زالت تقدم النصائح لرئيس وزرائها الذي يفتخر أمام حكومته، بأنه يعرف كيف يتعامل مع الولايات المتحدة".
عزمي بشارة: لا يمكن إنشاء محور عربي- إسرائيلي، إلا بتهميش القضية الفلسطينية وهذه بديهية، حتى لو تحدثوا كثيرًا عن فلسطين
وعن مواصلة الحرب على قطاع غزة وما يعرف بـ"اليوم التالي"، تحدث بشارة قائلًا: "في هذه الأثناء، تواصل دولة الاحتلال الحرب، في انتظار ترتيبات لليوم التالي، بحيث يمكنها عدها هي ذاتها، أي ترتيبات اليوم التالي، نصرًا في الحرب، لأنها تشمل إدارة جديدة لقطاع غزة، خاضعة لإشراف أمني إسرائيلي، ما يتطلب تعاونًا أمريكيًا وإقليميًا. ويقصد نتنياهو باليوم التالي، اليوم الذي يتلو القضاء على المقاومة الفلسطينية، ولا يفترض أن يقبل العرب أو الفلسطينيين بذلك، بل أن ينطلقوا من أن اليوم التالي، هو اليوم التالي لأوهام استمرار الاحتلال على الرغم من كل ما جرى، وهذا ممكن".
بناءً على ما سبق، قال بشارة: "نحن على مفترق طرق، فمن ناحية سوف تحاول إسرائيل، فرض ترتيبات سياسية جديدة تبعد الشعب الفلسطيني عن ممارسة حقوقه الوطنية، أكثر مما أبعدته اتفاقيات أوسلو، وإذ فرض هذا الترتيب الجديد، سوف يمر الوقت، كما مر منذ تلك الاتفاقيات، بتعود المراحل الانتقالية الجديدة، واستيطان لا يبقى أي أثر لاحتمال نشوء دولة فلسطينية، وانتخابات إسرائيلية ثم انتخابات أمريكية، وصراعات على سلطة بلاد سيادة. ومن ناحية أخرى، لا تستطيع المنظومة الدولية والإقليمية، تجاهل الثمن الفادح الذي دفعه الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، ولا يمكن تجاهل بسالة المقاومة وصبرها ومثابرتها، وهي فوق ذلك كله، إنجاز للشعب الفلسطيني، على مستوى التنظيم وبناء المؤسسات".
وربطًا بما سبق، قال بشارة: إن "تضحيات الشعب الفلسطيني والمنجزات على مستوى المقاومة، تعزز موقف قيادة فلسطينية موحدة، تشمل فصائل المقاومة والوطنيين المستقلين، في إطار منظمة التحرير، إذا أصرت على الحل العادل، ودعمتها الدولية العربية، والرصيد المعنوي كبير ولا يمكن تجاوزه إقليميًا دوليًا، ولا يجوز ذلك".
واستكمل بشارة الجزئية السابقة، بالقول: "نقف على مفترق طرق، لأن قضية فلسطين عادت للواجهة، ويمكن أن نقترب من تحقيق إنجاز على مستوى الحل العادل، ويمكن أن نبتعد عنه. في المفترقات التاريخية تحديدًا، يمكن أن تحقق الفواعل البشري، تفوقًا على البنى والهياكل التي تتحكم بها، الفاعل البشري يصبح مؤثرًا في المفترقات التاريخية".
وعن دور السلطة الفلسطينية، قال بشارة: "إذا أرادت السلطة الفلسطينية، أن تحبط مخطط نتنياهو، وأن تحكم سلطة واحدة الضفة الغربية وغزة، عليها أن تدرك أن هذا غير ممكن، إلّا من خلال التفاهم الوطني مع فصائل المقاومة في الطريق إلى السيادة والاستقلال، أو على ظهر دبابة إسرائيلية، في الطرق إلى تكريس سلطة فاقدة السيطرة".
أمّا عن خيارات المقاومة الفلسطينية، أوضح المفكر العربي: "إذا أرادت فصائل المقاومة المشاركة في تقرير مستقبل الشعب الفلسطيني والمناطق المحتلة، وأن تترجم نضالها وتضحياتها، إلى إنجازات سياسية يجب أن تدخل في منظمة التحرير، وأن تتوافق الأطراف على شروط هذا الدخول".
وكرر بشارة قوله: "نحن على مفترق طرق، ويجب أن يتخذ القرار في أسرع وقت، ولا مجالات لجولات مصالحة، كالتي تسببت للشعب الفلسطيني، بالسأم والإحباط".
وفي الجزء الأخير من محاضرة المفكر العربي عزمي بشارة في منتدى فلسطين، عالج النقاشات التي ارتبطت في عملية "طوفان الأقصى".
وافتتح بشارة هذا الجزء، بالقول: "تذكرون بلا شك الصدمة والذهول بعد عملية طوفان الأقصى، إعجاب المؤيدين للمقاومة بالقدرات التخطيطية والقتالية، بعد 17 عامًا من الحصار ورقابة تكاد تكون محكمة على قطاع غزة وأربعة حروب تعرض لها القطاع، وصدمة الإسرائيليين من وقوع عملية شبه حربية، لا تشبه عمليات المقاومة الأخرى، داخل حدود 48، وحجم القتلى من الإسرائيليين، والغضب والشعور بانعدام الأمان، وصولًا إلى القلق الوجودي، ليس من العملية ذاتها، بل من احتمال خسارة هيبة الردع مستقبلًا، إذا مرت من دون رد مختلف جذريًا عما سبق. قد أعقبت العملية نقاشات مطولة حول مسؤولية المقاومة، والجيش الإسرائيلي عن حالات قتل المدنيين، والفوضى التي شابت تدفق جمهور واسع من المدنيين، نتيجة لاختراق السياج الحدودي، وما زالت المعلومات متضاربة حول التجاوزات التي تستحق النقد، وحتى الإدانة في بعض الحالات، إذ صح حصولها، بدون المس في الحق بمقاومة الاحتلال".
عزمي بشارة: كشفت الحرب على نحو أوضح من أي وقت مضى، الطبيعة الاستعمارية الاستيطانية، ليس فقط للعلاقة بين الحركة الصهيونية والشعب الفلسطيني، وإنما لطابع دولة إسرائيل ذاتها، لقد تصرف المجتمع الإسرائيلي كقبلية موحدة، كما في جميع الأزمات الكبرى
وأضاف: "استخدمت آلة الدعاية الإسرائيلية، جميع ما في جعبتها، لكي تدين ويتسيد هذا الموضوع الحوارات الإعلامية، بحيث يطغى ما تعرضت له نتيجة عملية واحدة من المقاومة، وإن كانت استثنائية في مقاييسها، على فظائع الحرب الشاملة، المكونة من آلاف العمليات والمجازر، التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، التي لخصها بدقة باسمنا جميعًا، كتاب الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا على إسرائيل"، متابعًا القول: "حسنًا فعلت حركة حماس مؤخرًا، بنشرها وثيقة تشتمل على روايتها عن أحداث ذلك اليوم، وأصرت فيها على أن عمليتها عسكرية وتستهدف الجنود، مؤكدةً على عدم استهداف المدنيين، وحصول نوع من الفوضى لا تتحمل هي مسؤوليتها، والأهم من ذلك دحضت مرةً أخرى، أي علاقة بين هذه العملية وبين استهداف اليهود، بوصفهم يهودًا، وشددت على مقاومة إسرائيل، بوصفها قوة احتلال".
واستمر في هذا السياق، قائلًا: "ثمة انتقادات حادة من جانب خصوم المقاومة، وأخرى همسًا من دون ضجيج من جانب مؤيدي المقاومة، حول الحكمة من هذه العمليات، ونعرف هذه المجادلات ليس فقط في تاريخ القضية الفلسطينية، بل في تاريخ مقاومة الظلم عمومًا، هل تتحمل المقاومة التي تثور على الظلم عفويًا أو على نحو منظم لكن غير محسوب، المسؤولية عن قمع النظام الوحشي للشعب الرازح تحت الاحتلال؟ هل تتحمل القوى التي بادرت إلى عملية لم تتحكم في نتائجها المسؤولية عن العقوبات الجماعية بحق المدنيين؟".
وأوضح بشارة: "يجب أن نفصل بين مستويات النقاش المختلفة، ولاسيما عندما يدور بين الباحثين والمثقفين، إذ لو شاورتك حركة مقاومة قبل القيام بعملية ما، ربما تسنح لك الفرصة للتعبير عن رأي حصيف بشأن العملية وتوقيتها، وبعد وقوعها ثمة دائمًا متسع لنقد هذا الجانب أو ذاك من عمليات المقاومة، سواء كان أخلاقيًا أو استراتيجيًا، هذا النوع من النقاش، يمكن بل يجب أن يخاض، داخل المعسكر المناهض للاحتلال والمؤيد مبدئيًا للحق في مقاومته".
وبما يرتبط في ذلك، قال بشارة: "إذا وجدت نفسك أمام واقع شعب فقد وطنه قبل 75 عامًا، ويقطن جزء من لاجئيه في قطاع محاصر منذ أكثر من عقد ونصف، وتعرض للحروب أربع مرات، وخرجت عمليات مقاومة وردت عليها إسرائيل بحرب إبادة، أين تقف؟ لم يسألك أحد عن رأيك في التوقيت ولا في نوع العملية، وأنا لا أتحدث هنا عن نقاش استراتيجي مشروع وربما ضروري، بل أتحدث عن موقف أخلاقي في واقع قائم، نخبة مقاومة كما يبدو تتكون من عشرات الآلاف، من شعب مكون من ملايين، وتتحمل هذه المقاومة عبء التنظيم والالتزام والمثابرة طوال سنوات، وتخرج إلى عملية مسلحة، فهل تظل قادرًا على تشخيص القضية الرئيسة، رغم ملاحظاتك ورغم نتائج العملية. تبقى القضية الرئيسة، هي قضية الاحتلال وممارساته، التي أدت إلى هذه العملية، وحملة العقوبات الجماعية والثأر والانتقام، التي تصل إلى حد جرائم الإبادة التي أعقبتها، ويفضل أن نتذكر دائمًا أن بعض من ينضم إلى مناقشة جدوى عملية مقاومة بعينها، يعارض أصلًا جميع عمليات المقاومة، و يؤيد السلام مع إسرائيل بدون حل عادل لقضية فلسطين، أي يؤيد الاستسلام للاحتلال، بوصفه أمرًا واقعًا".
ووضح بشارة ما يرتبط في هذه النقاشات، قائلًا: "من الضروري أن نرسم خطًا فاصلًا، بين الموقفين وبين نوعين النقاش. ولا بد من خوض نقاش آخر لا علاقة له بالأمر، مع أولئك الذين لا يمرون في مرحلة الدفاع في الحق في مقاومة الاحتلال والدفاع عن الشعب ضد جرائم الاحتلال في محاولة لتقييد أيدي دولة الاحتلال عن ارتكاب المزيد من الجرائم، إذ يعدون معاناة الناس مجرد تفاصيل، ويبشرون بالنصر منذ اللحظة الأولى، والنصر في قاموسهم، لا يتلخص فقط بصمود المقاومة لإفشال العدوان، وإنما يتجلى أمام أعينهم انتصارًا مؤزرًا وشاملًا على دولة الاحتلال، لأنها في طريقها إلى هزيمة منكرة وانهيار محتوم، ويحدد البعض حتى سنوات معينة لزوال إسرائيل، بناءً على حسابات غيبية".
وتابع بشارة، قائلًا: "يمكن إن يقال أي شيء استنادًا إلى علم الغيب، أو نتيجة لتفاؤل مفرط يعوض عن بؤس الواقع بنسج الخيال. وكلها مقولات وانفاعلات ممتنعة عن الدحض والإثبات"، مضيفًا: "لا علاقة لهذا كله بواقع الحرب على غزة، الذي يتعرض فيه الشعب إلى جرائم إبادة، وتطالب فيه المقاومة بوقف إطلاق النار، وهي التي يفترض بموجب هذا الكلام أنها هي المنتصرة، وتحاول فيه الدولة المنهزمة أن تواصل الحرب، ما المنطق في هذا الكلمة؟ أعتقد أن هذا الخلط بين المستويات، المستوى الأخلاقي والتحليلي، وبين دعم الصمود ونسج الأوهام التي تعقبها الإحباطات هي مغالطات تلحق ضررًا بقضية العدالة، وتعوق توجيه الناس لاتخاذ مواقف والقيام بأعمال من شأنها أن تسهم في صمود الشعب الفلسطيني في وجه ما يتعرض له، وفي تقليل الإضرار وتحقيق إنجازات سياسية لقضية فلسطين، لا لخصومها، الذين ينتظرون تصفية المقاومة وتصفيتها، ولكي لا تذهب هذه التضحيات سدى".
وأوضح بشارة: "ليس التقليل من أهمية معاناة الشعب الفلسطيني، في ظل جرائم الإبادة، رفعًا للمعنويات، بل إساءة لهذا الشعب وتغطية على جرائم الاحتلال. ومثل ذلك، تحميل المقاومة مسؤولية جرائم الاحتلال، ومثلهما أيضًا نشر الأوهام عن الانتصار الفوري الناجز على إسرائيل وانهيارها نتيجة الحرب".
وختم بشارة الكلمة بالقول: "المقاومة صامدة وفاعلة بفضل، الإرادة والعزيمة والإيمان والتدريب الجيد، والاستعداد لمعركة الدفاع عن غزة، وبفضل ذلك هي صامدة، وهو استعداد استمر لسنوات، والشعب الفلسطيني يعاني معاناة تفوق التصور ويجالد متحملًا بحيث لا يفقد إنسانيته وكرامته، بسبب احتلال عنصري وفاشي، لا يتورع عن ارتكاب جرائم إبادة". مضيفًا: "أجد ما يمكن أن يقوم به، المثقفون الفلسطينيون اليوم، عدا ما يقومون به أصلًا، كل من موقفه ووفقًا لقيمه، هو التضامن الوطني والإنساني، والعمل للتصدي لدعاية حرب الإبادة الإسرائيلية، والضغط على القوى السياسية الفلسطينية المركزية، كي تجتمع في قيادة موحدة، في إطار منظمة التحرير، بحيث تمنع ذهاب كل هذه التضحيات هدرًا، باستثمارها لصالح ترتيبات ما يسمى اليوم التالي، بدون حل عادل لقضية فلسطين، يضمن عدم تكرار مثل هذه الجرائم الإسرائيلية".