يُخصص "ألترا صوت" هذه المساحة الأسبوعية، كل جمعة، للفنّ التشكيليّ كي يحدّثنا أهله عن عوالمهم ومعنى أن نكون فنّانات وفنّانين. إنها محاولة لاكتشاف التجارب عبر العودة إلى بداياتها، والوقوف على تحولاتها وما ظل ثابتًا فيها، مما يجعلها مقاربة للسيرة، أو نبشًا في خلاصتها.
مارون الحكيم نحات وفنان تشكيلي لبناني من مواليد مزرعة يشوع، وسط لبنان، عام 1950. حاصل على إجازة في الرسم والنحت من معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية عام 1975، وإجازة في فن السيراميك من "istituto di Roma" في روما عام 1976. عمل أستاذًا لمادتي الرسم والنحت في عدة جامعات لبنانية.
ترأس قسم الفنون التشكيلية في معهد الفنون الجميلة (الفرع الثاني) في الجامعة اللبنانية بين عامي 1986 – 2014. وجمعية الفنانين التشكيليين اللبنانيين بين 1998 – 2000، ونقابة الفنانين التشكيليين التي أسسها عام 2002، وترأسها حتى عام 2009. أقام 35 معرضًا فرديًا في لبنان والخارج، وشارك في أكثر من 66 معرضًا جماعيًا، ونشر كذلك كتابين هما: "المرايا الخلفية" (2013)، و"بالفن أحيا" (2020).
1- متى وجدت نفسك فنانًا؟ وما الذي يعنيه ذلك؟
نشأت في عائلة قروية تمتهن كار العمار. أبي وإخوتي خبروا التعامل مع الصخر وتطويعه بأدواتهم البدائية المتداولة في النصف الأول من القرن العشرين من مطارق وبوشارد وشوكة وأزاميل. تعامت مع الإزميل منذ صغري، شُغفت به كما أحببت ألعابي. حجز الإزميل الصغير الذي سرقته من عدة أخي المعمرجي مكانًا بين مقتنياتي الطفولية من بلابل مزركشة وكلُلٍ بلورية متعددة الألوان، وخبأته في خزانة خاصة بي.
بدأت محاولاتي الأولى في حفر بلاطات السطيحة في منزلنا الجبلي وفي تجسيد بعض الأشكال البسيطة. اكتشفت أن الإزميل بإمكانه إنتاج أشكال غير تقصيب الحجر وترتيبه، وتبيّن لي الفرق بين الصنعة الحرفية والأشكال الزخرفية أو الفنية. ألِفتُ معشر الصخر والرخام محوّلًا المادة الهامدة إلى كائنات تهتز في عروقها نبرات الحياة. في البداية لم أكن أعرف أن هذا الفرق بين الصنعة ذات الاستعمال النفعي والشكل الجميل لذاته، دون ضرورة لاستعماله، هو الفن بذاته وشعرت أني مختلف عن إخوتي في صنعتهم.
في البداية بسط النحت رهبته على براعم محاولاتي الفطرية الطفولية والساذجة. كنت أتهيب صعوبة الأمر لكن شغفي جعلني أتخطى كل الصعاب التقنية. لست أنا من قرر بإرادته ووعيه منذ الصغر أن أكون فنانًا، بل هو القدر من اختارني ودعاني. وإنني مسرور بما أنا فيه، وبما توصلت إليه وبما أسعى لأجله.
ماذا يعني أن أكون فنانًا؟ يعني أن أظل شغوفًا راضيًا بما أفعل ليبقى للفن أثره الإنساني والجمالي بكل الأبعاد. وأن أكون قريبًا من الينابيع الأولى لمنبت الفن، أي الطبيعة بما فيها من إنسان وجماد وتحولات وتبدلات. وأنّي حُمّلت منذ ولادتي مسؤولية رسالة زرعها الخالق بي، وأنني حاضر دائمًا للتأمل والاختزال والتظهير والبحث والتعبير والتأثير والحوار. وأنني متيقظ لملاقاة القلق وجعله حيلة لاستنباط أفكار وطرق ووسائل جديدة تعبّد دروب الخلق. وأني مستعد للمغامرة في البحث والتجارب المخبأة خلف أكوام المصادفات الناتجة من ظروف العيش والأقدار ومسار الحياة. وأني أعرف كيف أقتنص اللحظة وأجسدها بأعمال تمثلني ولا تتكرر في زمن آخر. وأن أسعى بجد واحترافية، دون تزلف، لأحظى باحترام مجتمعي وأبناء وطني، ولكي أكبر في عيونهم وأكون رائدًا في بناء الحركة التشكيلية في لبنان أولًا، وفي كل بقاع الأرض ثانيًا.
2- ما هو الشكل الفني الذي انشغلت فيه؟ ولماذا هو بالذات؟
بعد المرحلة البدائية والدراسة في معهد الفنون الجميلة، وبعد التدرب على اللون والتأليف، تخرجت من الجامعة وسافرت إلى إيطاليا لتعلّم فن السيراميك بهدف الجمع بين كوني نحّاتًا ورسامًا في الوقت نفسه. ومع استكمال العدة الدراسية والتمكن من استعمال المواد بالطرق الأكاديمية، صار الهم إيجاد طريق جديدة وأسلوب شخصي يعتمد خاصية متفردة. لقد وحّدت دراسة فن السيراميك الرؤية الفنية لدي فتوصلت من خلال تجارب عديدة إلى استنباط "اللوحة المنحوتة"، التي جمعت فيها بين الحجم واللون في الآن ذاته عام 1978.
تركّزت التجربة على الحفر بالخشب المضغوط، ومن ثم تحضيره وتلوينه بواسطة الألوان الزيتية. وفي مرحلة أخرى (1982 – 1990)، تابعت التجارب نحتًا ورسمًا فتوصلت أيضًا إلى إنتاج "القماشة المنحوتة"، حيث حوّلت القماش من مسطحات بيضاء إلى أعمال نافرة ذات أحجام تحاكي سابقتها "اللوحة المنحوتة" وجداريات الفخار النافرة. كان الهدف من كل ذلك جميع شخصيتي النحات والرسام الملون لدي في أسلوب واحد موحّد وخاص بي، للخروج من تلك الازدواجية بين فني النحت والرسم وجمعهما في بوتقة واحدة.
المعيار الجمالي هو الذي يحكم عندي الرؤية والمقاربة والتأمل. هذا المعيار الجمالي هو الذي، منذ البداية، دفعني كي أدمج المنحوت بالملون. لهذا التاريخ الفني أهمية مفصلية، لأنه يعكس الجوهر الاختباري، البحثي، والتأليفي. يجمع المتباعدات والمتفارقات ويضعها على منصة واحدة منسجمة العناصر والتكوينات، متناغمة ومتآلفة.
قبل هذا الاختبار التوليفي التشكيلي الصعب والشاق، كان لا بد لي من اختبار أول يتمثّل في العمل التأسيسي المتماسك والمتين، في مادة الحجر وفوق سطح اللوحة كل على حدة. وقد نجحت في هذين الاختيارين، المتوازنين، والمتداخلين. وإنني أواظب على هذا الفعل منذ ذلك التاريخ، باندفاع ومهنية وتبصّر وهدوء ومثابرة وبحث واستكشاف.
العمل التشكيلي قبل أن يكون إحساسًا ومشاعر، هو عمل عقلي. والفن الحقيقي غير قابل للعيش خارج الرؤية العقلية. هندسة القلب والروح والعاطفة والوجدان لن تصل إلى مبتغاها الجوهري خارج هندسة العقل. لذلك فإنني أبني عمارتي الفنية والجمالية هذه حجرًا بعد حجر، ولوحة بعد لوحة، وأملي كبير بأن تكون هذه العمارة محفوظة بمكانتها، ومكرّسة في الحياة التشكيلية اللبنانية والعربية والعالمية.
3- هل هناك نقاط تحول أثرت بإنتاجك الفني، سواء كانت أعمالًا فنية أو أشخاصًا أو كتابًا أو أحداثًا؟
بشكل مباشر، لا أعتبر وجود تأثيرات واضحة ومفصلية، لأي عمل خارجي، على إنتاجاتي الفنية التشكيلية. خلال دراستي اطلعت على كافة المدارس الفنية العالمية وتطورها عبر الزمن والعصور. تعلّمت الكثير من تجارب وأساليب فنانين فُتنت بأعمالهم وبطرق أدائهم، أمثال: رودان، وبيكاسو، وسيزان، ومونيه، وماتيس، وبوردال. وفي لبنان النحات يوسف الحويك، رائد النحت اللبناني والعربي، وميشال بصبوص، وسلوى روضة شقير، وصليبا الدويهي، وجان خليفة، وحليم جرداق، وعارف الريس. ولآخر ثلاثة تأثير ومودة خاصة وقد تتلمذت عليهم خلال دراستي في معهد الفنون الجميلة؛ جان خليفة لأنه جريء ومتمكن في حرفته ومعلّم ناجح. حليم جرداق بهدوئه ووساعة ثقافته ولأنه كاتب جيد في الشؤون الفنية. وعارف الريس لجنونه وتفلته من القيود الاجتماعية ولأنه ثائر مقدام.
ومن خارج الأجواء التشكيلية كانت لي ولا زالت صداقات مع شعراء وأدباء لبنانيين أمثال: يوسف الخال، أنسي الحاج، وديع سعادة، عقل العويط، عبدو وازن.. استأنست بأشعارهم وكتاباتهم لأنني أعشق الشعر وأعتبره محفزًا على التخيل من خلال الصور الشعرية الخلاقة. أما نقطة التحول الكبرى، فقد كانت أحداث الحرب الأهلية اللبنانية بدءًا بالعام 1975 وتزامنها مع تاريخ تخرجي من الجامعة. تأثيرها جاء واضحًا جليًا لأن شعوري بالمرارة والانكسار وأحيانًا بالانهزام والانسحاق جراء الظروف الصعبة التي عشتها بسنواتها الطويلة جعلتني أمزّق مساحات اللوحة بخشبها وقماشها مضيفًا إليها الشرائط الشائكة والصور الفوتوغرافية. وما زالت الحرب تلاحقنا بأهوالها ودمارها تاركة الجراح العميقة في الوجدان. وبالتالي على مساحات أعمالي الفنية المنتجة حاليًا.
الفنان ابن بيئته، يتأثر بما ومن حوله من ظروف وأشخاص وأحداث، مما يطبع أسلوبه وهويته وما يميزه عن غيره من الفنانين.
4- إذا كان العمل الفني لغة بصرية، فما هي مفردات هذه اللغة؟
لكل نوع من الفنون مواضيعه وأساليبه وأهدافه. وكما للغة المكتوبة حروفها وقواعدها وتركيباتها، كذلك فإن لغة التلوين والرسم والنحت لها ما لها من أساليب وأنواع ومفردات تعتمد المتعة البصرية وما تحدثه من تأثيرات في نفس المشاهد المتذوق. فالتأليف هو إحساس جوهري في أنواعه وعناصره وخصائصه، فالأنواع تختلف بتعدد المواضيع والأهداف، أهمها رسم الوجوه، الفن الميثولوجي، التاريخي، الطبيعة الصامتة، النموذج الحي، المناظر الطبيعية، المشاهد من الحياة اليومية، والفن التجريدي.
يعتمد التأليف الخطوط الدائرية أو المستقيمة أو المتعرجة والمكسّرة والمائلة حسب الحالات والمواضيع. أما عناصر التأليف، فهي: النقطة والخط، الشكل، واللون، التقميش (أو الملمس وهما نوعان حسي وبصري)، والقيم اللونية. ومبادئه هي: التوازن، السيطرة، الانسجام، التضاد، الوحدة. هذه العناصر والخصائص ما هي سوى مهارات تقنية، معرفية، يتقنها الفنان الملون ويمتلكها بالدراسة والتمرّن ويوظفها لاحقًا لامتلاك هيمنة وسيطرة سيادية جمالية تصل بمشاعره إلى خلق نهايات خصبة في صفحة البياض. أما العنصر الأساسي في عملية التأليف، فهو اللون بتدرجاته وتنوعاته وتقميشاته وانصهاره مع غيره من باقي الألوان، لخلق عالم جديد من تصورات المخيلة المتولدة من التأملات العميقة للطبيعة وموجوداتها.
يتدرب الفنان منذ البداية على مزج الألوان الأساسية، وهي الأحمر، والأزرق، والأصفر أولًا مع الأسود وثم الأبيض وبعدها الرمادي وفيما بينها أيضًا، فيكتشف العدد اللامتناهي من الألوان بتدرجاتها الباردة والحامية. وحين يتمكن من كل هذه التمرينات والخبرات، عليه أن يتحرر من سلاسلها وينطلق حرًا لاكتشاف ذاته وأسلوبه وسلوك دروب جديدة تعتمد التحدي والثورة على كل سائد في الفن.
هذا الانحياز إلى التحرر لدى الفنان يفسّر نشأة المدارس الفنية وتعدّدها واختلاف أساليبها عبر العصور ومواكبة التطور العلمي. اللون هو المفردة الأبرز في عملية التكوين الفني بتأليفه وحركته. اللون حالة في حاله، تحولاته ثمار من تداعيات المزج والتدرجات والصيغ المتنوعة بفعل الأدوات والأساليب والاختبارات. اللون هو الوسيلة المادية المرئية في املاء البياض، إنه التجسيد الخلاق لمخلفات اليد، يد الفنان وأفعالها وخلفيات الفكر والإحساس وتداعياتهما.
اللون هو ثوب الأشكال والمواد وتقميشاتها، هو السحر الملتصق بأجساد الأعمال وروحها. يتربع اللون على عرش أعمالي الفنية، لذا فهو خبزي اليومي.
5- هل يعتمد منتجك الفني على الاستيراد من العالم الخارجي أم على التصدير من عالمك الداخلي؟
مثل كل البدايات يتأثر الفنان بما يراه وما يقرأه بهدف تحصيل معارفه وخبراته، للإحاطة بالتيارات والمدارس الفنية والاستفادة من خبرات فنانين عالميين ومحليين. أما في مراحل النضوج، فعليه أن يتخلّى ويبتعد عن كل المصادر البصرية المغرية بغية تكوين شخصيته ذات الخصوصية الخلاقة التي تستند إلى جهد الفنان المستمر في البحث والاستكشاف ليصير هو وأسلوبه المرجع والأصل الأصيل، فتنتشر إبداعاته المرتكزة على عوالمه الداخلية المتحررة من كل التأثيرات الخارجية الجانبية. هذا ضروري، وأنا اتبعت وأتبع هذا النهج في كل ما أقوم به حاليًا في التلوين وفي النحت.
6- ما الذي تغيّر فيك، وما الذي ظل ثابتًا؟
مع مرور الزمن وإنجاز هذا الكم من الأعمال الفنية نحتًا ورسمًا، اكتسبت خبرات جمّة واجتزت الكثير من المصاعب للوصول في التقنية والأسلوب إلى ما يشبه ذاتي وخصوصيتي. إنني ابن خبرتي وإصراري، بكل شغف وحماس، على ابتكار تبدلات وتحسينات أدائية تقنية وجمالية تضفي على أعمالي تجديدًا مستمرًا أستمده من مجريات الحياة ومن التعمق والتطوير في تصوّر الشكل النهائي لأعمالي مستندًا إلى قدرة فيض واستلهامات مفاجئة لا تنذر بحدوثها، وأستمد عزمي من الرغبة المتأصلة فيّ لمحبة الفن. إنني أحترم عملي، أتهيب مسؤوليتي، أحلم دومًا وأعمل كثيرًا. أراجع فأخطو، ثم أراكم وأولد مجددًا.
أما الثابت، فهو طبعي الداخلي، وهو كشكلي لا يتغيّر بجيناته الوراثية المكتسبة من موروثات غامضة لامعة، وما الطفولة سوى صفحة بيضاء تجمع في حناياها صفاتٍ متفردة تُلاحقني مدى العمر، فالطبع هو الذي يوجه الميول ويقرّر السيطرة عليها وتوجيهها، وهو الطاقة الثابتة المحفّذة لاستيلاد ميول الفرد.
لقد ساهم الفن بدروبه المتعرّجة والطويلة، في صقل شخصيتي الفنية وأبرَزَ خصوصيتها من خلال الأساليب والتجارب والأبحاث المتشعبة والمتنوعة. لقد زودني الفن بقوة الصبر والتمهل والتفحص لسبر أغوار المواد والأحاسيس للإضاءة على المناطق المظلمة في الذات، ولقد طهّر الفن نزواتي وجعلني أسمو بإنسانيتي وينقّيني من غرائز هي من طبيعة البشر. الفن مسلك للتنسّك والتأمل والغوص في الذات؛ الفن يصقل وينقي وهو سحر خارق للاستشراف والاختراق.