في نهاية الحلقة الأولى من مسلسل "واحة الغروب"، المقتبس من رواية بالعنوان نفسه للروائي المصري بهاء طاهر، يدور بين الضابط المصري محمود عبد الظاهر (خالد النبوي)، العائد لتوّه من الإسكندرية، وجاريته نعمة (مها نصّار) حوارٌ قصير بدأته نعمة بسؤالها: "كنت غايب عني فين المدة دي كلها يا سيدي؟"، يجيب محمود: "كابوس، كنت في كابوس يا نعمة"، تسأله: "وصحيت منه؟"، فيجيب: "خايف عمري ما أصحى منه".
تحيل قصص شخصيات "واحة الغروب" إلى عالم قوامه الأسى الذي لا يبدو إلا نتيجةً لعجزها عن تجاوز ماضيها ونسيان ما جرى فيه
اختزل محمود عبد الظاهر في إجابته الأولى ما رآه في الإسكندرية أثناء قصف الإنجيلز لها خلال أحداث ثورة أحمد عرابي عام 1882. أما الثانية، فتنبأت بالآتي من حياته التي آلت إلى كوابيس لن يصحى منها.
فما رآه في الإسكندرية ليس أشد من إجهاض الإنجليز لثورة عرابي، واحتلالهم لمصر، واختفاء جاريته نعمة، ثم وصفه لعرابي ورفاقه، خلال التحقيق معه بعد إجهاض الثورة، بأنهم عصاةٌ خوفًا من الإعدام، وصولًا إلى نفي الإنجليز له، بشكل غير مباشر، إلى واحة سيوة عبر تعيينه مأمورًا عليها بعد قتل سكانها لسلفه.
محمود عبد الظاهر هو الشخصية الرئيسية في المسلسل الذي عُرض عام 2017، ولكن الأخير ليس حكايته وحده فقط وإنما حكاية شخصيات أخرى كثيرة لكل منها قصتها وخيبتها، بل وكوابيسها أيضًا.
إنه حكاية زوجته الإيرلندية كاثرين (منة شلبي) التي تُعاني من مزاجه المتقلّب نتيجة عجزه عن تجاوز ماضيه. كما أنه حكاية الواحة التي تسعى فيها خلف مقبرة الإسكندر، فيما يجهد محمود لجمع الضرائب من سكانها المنقسمين إلى عشيرتين. ولهؤلاء أيضًا حكايات كثيرة تدور مدار الخرافات والحرب القائمة بينهم منذ أمد طويل.
تحيل هذه القصص، على اختلافها، إلى عالم قوامه الأسى الذي لا يبدو إلا نتيجةً لعجز شخصيات المسلسل عن تجاوز ماضيها ونسيان ما جرى فيه. وهذا العجز هو ما يجمع محمود عبد الظاهر بسكان الواحة، وهو الذي يجعل من حياته مأساةً يغذيها شعوره المستمر بالندم والحسرة على ما جرى فيه: وفاة والديه، وهزيمة الإنجليز للثورة العرابية، واحتلالهم لمصر، ووصفه لعرابي ورفاقه بأنهم عصاة، وهجر نعمة له.
يوحي سلوك محمود وتصرفاته وتقلباته المزاجية وتناقضات شخصيته الهشة أحيانًا، والصلبة في أحيان أخرى، إضافةً إلى رغبته المستمرة في الموت، بأنه يقتص من نفسه تكفيرًا عما ارتكبه في ماضيه الذي لا يسمح لأي صلح يلفقه معها بأن يعيش طويلًا، وهذا بالضبط ما يجعل من حياته صراعًا مستمرًا مع نفسه. أو، بجملة أخرى، حربًا طويلة ضدها.
ينطبق ما سبق على سكان الواحة بطريقة أو بأخرى. فالماضي الذي جعل من حياة محمود صراعًا مستمرًا مع نفسه، هو الذي يدفعهم إلى قتال بعضهم البعض بين وقت وآخر، ما يعني أن حربهم هذه مردّها إلى أن أجواد الواحة لا يريدون تجاوز الماضي ونسيانه وترك لمن سيأتي من بعدهم مجالًا لفعل ذلك أيضًا. إنهم، بطريقة أو بأخرى، يتوارثون الماضي فيعيدون بذلك إنتاجه جيلًا بعد جيل حتى أصبح العنف عاملًا أساسيًا في فهمهم لأنفسهم، وعنصرًا حاسمًا في ضبط علاقتهم ببعضهم البعض.
هكذا أصبح العنف جزءًا أساسيًا من حياتهم اليومية التي تبدو متخيلة بقدر ما تبدو واقعية بسبب ارتباطها الوثيق بالخرافات والأساطير، التي جعلت من العنف حدثًا عاديًا مألوفًا بل وواقعًا مستمرًا. فالأرملة، مثلًا، "غولةٌ" دنسة لا يزول دنسها حتى يمضي على وفاة زوجها أربعة بدور. وخلال هذه المدة، تُمنع من مغادرة بيتها حتى لا تمس الشياطين من يراها، أو تنزل بالواحة لعنةٌ لا تزول إلا بقتلها.
والغولة خرافةٌ من بين خرافات أخرى كثيرة لا يؤمن بها سكان الواحة فقط، بل يُحكمون من خلالها أيضًا. الأحرى أنهم يُحكمون بخوفهم منها ومن الحرب. يقول الشيخ صابر (رشدي الشامي) كبير عشيرة الشرقيين: "بالخوف وحده أستطيع أن أحكمكم. الخوف لا الحكمة هو أساس الملك. لا بد من إخافة العامة دائمًا بالعقاب والعذاب على الأرض وفي السماء لكي يعرفوا الطاعة والاستقامة".
الماضي الذي جعل من حياة محمود صراعًا مستمرًا مع نفسه هو الذي يدفع سكان الواحة إلى قتال بعضهم
وعقاب أهل الواحة على الأرض هما الحرب والخرافة، اللتين بنى عليهما الشيخ صابر نبوءته التي تقول إن الواحة لن تعرف الاستقرار إلا بعد أن يفني الشرقيون الغربيين أو العكس. وفي هذه النبوءة ما يضمن له استمرار الحرب التي لا يؤمن الشيخ يحيى (أحمد كمال)، كبير الغربيين، بجدواها. ولكنه، مع ذلك، يخوضها مكرهًا بوصفه كبير قومه.
للشيخ يحيى حكايات كثيرة تدور مدار الفقد وألمه ورفضه للحرب وسعيه إلى إنهائها وإخراج الواحة من ظلماتها. إنه الوحيد الذي يدرك بأن النسيان ضرورة، وأن الغاية من تذكّر ما حدث هو تفادي وقوعه مجددًا. كما أنه الوحيد الذي بدا قادرًا على فهم محمود الذي أدرك بأنه لا يخاف الموت، بل ويتمناه ويسعى إليه أيضًا. كما عرف بأن كل ما يحتاج إليه هو التصالح مع نفسه. وهذا بالضبط ما يحتاج إليه سكان الواحة وبقية شخصيات المسلسل.