أصدرت "منشورات تكوين" في الكويت، حديثًا، الطبعة العربية من رواية "في عمق البحر حيث لا تُلمس الأرض" للكاتب الإيطالي فابيو جينوفيزي، ترجمة أماني فوزي حبشي.
تدور أحداث الرواية التي تبدو غريبة بقدر ما تبدو مألوفة في أجواء تجمع بين الحزن والفكاهة
تدور أحداث الرواية، التي تبدو غريبة بقدر ما تبدو مألوفة، في أجواء تجمع بين الحزن والفكاهة. وفيها، يروي بطلها "فابيو"، بلغة بسيطة تتمتع بالعمق والحساسية معًا، قصته منذ بلوغه سن الخامسة وصولًا إلى مرحلة المراهقة.
تتقاطع قصة بطل الرواية مع قصة العائلة التي يعيش معها. وهي عائلة يتسم سلوك أفرادها بالغرابة، وتلاحق رجالها لعنة ما تصيبهم في سن الأربعين، وتؤثر على ما تبقى من حياتهم.
يعرف فابيو بأمر هذه اللعنة بالصدفة، فتبدأ حينها محاولاته لتجنب الوقوع في هذا المصير. لكن حياة هذه العائلة ستتغير إثر حادث غير متوقع يقلبها رأسًا على عقب، ويعيش أفرادها بفعله، ومنهم فابيو، تقلبات مختلفة يُطلعنا عليها من خلال سرده لما يراه وما يدور في ذهنه وما يحدث له ومن حوله.
ننشر هنا مقطعًا من الرواية.
1.
اللعنة
كيف بدأت؟ لا أحد يعرف. ربما دَنَّس أحد أسلافنا مقبرة أحد الفراعنة، ربما أغضب ساحرة ما أو قتل غدرًا حيوانًا مقدسًا لدى أحد الآلهة المنتقمة، الشيء الوحيد المؤكد أنه منذ تلك اللحظة حملت عائلتنا على كاهلها لعنة مخيفة.
الأمر سيئ ولكنه كذلك، وكان الشيء الأول الذي تعلمته من المدرسة.
بل لا، الشيء الأول الذي تعلمته بمجرد دخولي إلى الفصل، هو أنه في العالم يوجد أطفال آخرون كثيرون في سني، وأولئك الأطفال لديهم فقط ثلاثة أو أربعة أجداد لكل منهم. أما أنا فلدي عشرة.
لأن جدي من جهة أمي كان لديه الكثير من الإخوة العُزَّاب، الذين لم يتزوجوا قَط، ولم يقبضوا قَط على يد امرأة، ولهذا، من هذه العائلة الضخمة لم يخرج سواي، وكنت أنا حفيد الكل.
في الواقع يتشاجرون يوميًّا ليقرروا من سيأخذني في نزهة، وعندما مات جدي، ازداد الأمر سوءًا، لذلك علقت جدتي جوزيبينا ورقة على شجرة الدلب في بداية الطريق، كتبت عليها الأدوار خلال الأسبوع: الاثنين صيد السمك مع الجد ألدو، الثلاثاء صيد الحيوانات مع الجد آتوس، الأربعاء آيس كريم مع أديلمو، الخميس البحث عن الطيور مع الجد آراميس، وهكذا حتى ترضيهم جميعًا. الوحيد الذي لم يكن يصل قَط إلى التقويم هو يوم العطلة، الذي يمكن أن أقضيه مع أطفال في مثل عمري. لأنهم كانوا يتقابلون فيما بينهم، ويعرفون العديد من الألعاب المجنونة والتي في ذلك الصباح في المدرسة سمعت عنها للمرة الأولى: الغميضة، الجرس، سرقة العلم. كان يكفيهم أن يقولوا اسم إحداها وعلى الفور يبدأ الجري والقفز تبعًا للقواعد العبثية بالنسبة إليَّ ولكن بالنسبة إليهم طبيعية جدًّا، بل وكانوا ينظرون إليَّ بتعجب إذا سألتهم كم سمكة شبوط صادوها هذا الصيف، أو إذا كان لديهم بعض ريش بري للتبادل.
ولكنهم لم يروا ديكًا بريًّا قَط، ولم يكونوا يعرفون ما الماعز، إذن مكثت اليوم الأول لأراقبهم من بعيد، تلك المخلوقات الغامضة ذات الألعاب الكثيرة والأجداد القليلين، وكأنني هبطت على كوكب مارس في فصل مع كائنات فضائية.
في الواقع، في نهاية اليوم الأول من المدرسة، وفي طريق عودتي إلى المنزل وأنا أبدل الدراجة خلف أمي، شعرت بأنني بالفعل مثل رائد الفضاء الذي يعود من مهمته في الفضاء، من مكان بعيد جدًّا ومستحيل، إلى حد أنني بالعبور من الطرق المعتادة خشيت ألَّا أعثر على الطريق إلى عالمي. والذي كان يقع في شارع ضيق نهايته مغلقة، حيث كل جد قد بنى منزله الصغير ولا يعيش فيه أحد سوانا. في الواقع على بداية الشارع توجد لافتة خشبية مكتوب عليها بخط اليد:
مرحبًا بكم في قرية مانشيني
ممنوع الدخول
ومثل عودة رائد الفضاء، في الشارع الصغير وجدت في انتظاري حشدًا كبيرًا: فها هي عائلتي، والتي لم تتركني أنزل من على الدراجة، أحاطوا بي وأرادوا معرفة كيف كان يومي، بماذا شعرت وإذا آذاني أحدهم.
لم أقل لهم بماذا شعرت، لأنني لم أكن أعرف ذلك. نظرت إليهم واحدًا واحدًا فقط، أجدادي العديدين، وبدا لي أنني أراهم للمرة الأولى. ثم سألتهم إذا كان في إمكاني منذ اليوم أن أدعوهم أعمامي.
صرخوا في أمي: إليكِ! هل رأيتِ؟ لم يكن علينا إرساله إلى المدرسة!
وكنت أوافقهم الرأي، في الحقيقة لم أكن أريد العودة إليها قَط. إلا أن أمي قالت لي إذا لم أذهب فسيأتي العساكر ويأخذونني إلى السجن. طلبت أن يشرحوا لي كيف يكون السجن، وفي الحقيقة كان يشبه المدرسة كثيرًا، مع فارق أنه لا بد من الذهاب حتى مدينة لوكَّا. إذا أصررت على المدرسة، أصبحت تلك الكائنات الفضائية رفاقي في الفصل وأصبح أجدادي الكثيرون هم أعمامي: العم ألدو، والعم آتوس، آراميس، أديلمو، أرنو، وهكذا. كانت أسماؤهم جميعًا تبدأ بحرف الألف، مثل والديهما اللذين كان اسمهما أرتورو وأركيلدا، حتى المولود الأخير الذي كان جدي الحقيقي، والذي كان يجب أن يسمياه رولاندو. درسا الموقف طويلًا وتشاجرا لمدة تسعة أشهر، وفي النهاية أطلقا عليه اسم أرولاندو.
أُقسم، سموه أرولاندو. ولماذا كان يجب أن يدعوه رولاندو؟! لا أحد يعرف. عائلتي هكذا، خلف كل حماقة توجد قصة لا نهاية لها، آلاف من الحكايات التي تتناثر من كل مِلِّيمتر من مسيرتنا المعوجة، مع تفاصيل دقيقة جدًّا بالأطنان. ولكن لا أحد يعرف شيئًا، عن الأشياء المهمة بالفعل. لا أحد يتحدث عنها، وبسبب عدم الحديث عنها توقف الجميع عن معرفتها، وهكذا تحولت الأسرار إلى غموض.
مثل السبب الذي جاء منه رولاندو-أرولاندو، بل والأهم مثل حكاية اللعنة تلك التي نحملها، والذي لا يعرف أحد كيف بدأت ولماذا. ثم إنني لم أكن أعرف حتى بوجودها حتى تلك الظهيرة من عام 1980، عندما كنت في السادسة من عمري وكنت قد بدأت المدرسة لتوِّي.
كنت في متجر السيدة تريزا، أنزع الغلاف عن مصاصة آيس كريم بالليمون، بينما تتحدث معها أمي بعيدًا عند منضدة الدفع.
كان المتجر بالقرب من قرية مانشيني، وتقريبًا كبرت بداخله. وهذا بالمعنى الحرفي، فمنذ أن وُلدت والسيدة تريزا تضعني على الميزان الذي تستخدمه في وزن اللحوم المقددة والمرتديلا، وتقول لأمي كم جرامًا اكتسبت.
ويبدو أنني في ذلك اليوم لم أكن كبرت بالدرجة الكافية، لأنها هي وأمي أخذتا تتحدثان فيما بينهما بكلمات متقطعة حتى لا أفهم، لتبعداني عن ذلك السر الذي سيتسبب في تقدمي المفاجئ في السن.
عبارات وجيزة وغريبة، أصوات من الحنجرة ونظرات، كلمات تتطاير هنا وهناك وكأننا في مباراة تنس، حيث كنت أنا الشبكة وكل معلومة لا بد أن تمر فوقي دون أن تلمسني. ومثل التنس، من حين لآخر يخرج موضوع قصير أكثر من اللازم ويسقط فوقي، وعندئذ استطعت الإمساك بأجزاء ذات معنى، مثل: أمام الفصل كله يا تريزا. أو: يا للخجل، أقل شيء يجب أن تبلغ عنه المدرسة، يا للخجل!
كنت ألعق مصاصة الآيس كريم وعيناي في الهواء، في محاولة لأن أُركب تلك الأجزاء معًا، وشعرت بالغضب بعض الشيء لأن أمي والسيدة تريزا لا ترغبان في أن أفهم حوارهما. إلا أنني في الوقت نفسه شعرت بالرغبة في الضحك، لأن تلك القصة التي تحاول لاعبتا التنس أن تخفياها عني أعرفها أنا أفضل منهما ومن العالم كله.
لأنني للأسف، ذلك الصباح، كنت موجودًا في المدرسة.