على الرغم من محاولات إسكاتهن التاريخية، من أجل إيصالهن إلى مستوى من الخَرَس النطقي والنَّفْسي، إلا أن النساء استطعنَ التعبير عن ذواتهن بأشكال عديدة، وفي مقدمتها الغناء.
غنت المرأة دومًا، وستظلّ تغني، على اعتبار أن حضورها الصوتي هو جزء أساسي من حضورها الحياتي.
يقول ابن عبد ربه الأندلسي في كتابه "العقد الفريد": "إن أول من غنى في العرب قينتان لعاد يقال لهما الجرادتان، وإنما كان أصل الغناء ومعدنه في أمهات القرى من بلاد العرب ظاهرًا فاشيًا وهي: المدينة، والطائف، وخيبر، ووادي القرى، ودومة الجندل، واليمامة".
يقول ابن عبد ربه الاندلسي في "العقد الفريد": "إن أول من غنى في العرب قينتان لعاد يقال لهما الجرادتان، وإنما كان أصل الغناء ومعدنه في أمهات القرى من بلاد العرب ظاهرًا فاشيًا"
وهذه القرى مجامع أسواق العرب، ولم يكن العرب حينها قد عرفوا نظام الحريم، حيث كانت النساء، كما يروي هنري جورج فارمر في كتابه "تاريخ الموسيقى العربية"، لهن ما للرجال من حرية تقريبًا، وكانت نساء القبيلة يغنين في الأعياد والمناسبات الدينية ويعزفن بآلاتهن.
تلك العادة استمرت حتى عصر النبي محمد الذي احتفل بزواجه من خديجة بالغناء والموسيقى، بالإضافة إلى نساء القبيلة ومغنياتها كانت توجد أيضًا القينات أو القيان (مفردها قينة) وهن المغنيات اللواتي كن يقمن بالعزف والغناء، ولعبن دورًا مهمًا في الحياة الاجتماعية والسياسية ما قبل الإسلام، وحتى مع ظهوره. بالرغم من تاريخ الغناء النسائي الفردي والجماعي في المنطقة العربية الضارب في القدم، إلا أنه لم يكن بأفضل أحواله في القرن الماضي، خاصة مع بداية تشكل الأغنية العربية التقليدية وظهور التخت الشرقي العربي، وذلك بفضل جهود الشيخ الموسيقي عبد الرحيم مسلوب، نهاية القرن التاسع عشر.
عانت النساء المغنيات في شبه الجزيرة العربية والعراق وبلاد الشام، خلال تلك الفترة وحتى ثمانينات القرن العشرين، من جملة من الظروف الاجتماعية والسياسية أثرت على مسيرتهن الفنية، وأنهتها بأغلب الأحوال، ولم يقتصر تأثير تلك الظروف على المغنيات والموسيقى، بل شمل كل مجالات الفنون، وحتى مجال القراءة القرآنية والإنشاد الديني، كما حصل في مصر مع القارئة منيرة عبدو، أول امرأة قارئة معتمدة في الإذاعة الرسمية في القاهرة بعد إنشائها، وتصدر صوتها الإذاعة العامة لسنوات قبل أن تصدر بحقها مجموعة فتاوى بتحريم صوتها ورضخت إذاعة القاهرة وكذلك لندن وباريس عن بث صوت منيرة عبده، وتوقفت عن القراءة في المأتم والمناسبات وانتهت رحلة هذا الصوت الجميل.
بالعودة إلى شبه الجزيرة العربية والعراق وبلاد الشام، نجد أنّ مغنيات كثر ناضلن على عدة مستويات لتقديم أنفسهن والغناء في وسط اجتماعي محافظ ومقيد بألف قيد وقيد، نجح بعضهن بترك بصمة موسيقية وغنائية مهدت لظهور أقرانهن من المغنيات لاحقًا، إلا أن قصص الكثير منهن انتهت بطريقة مأساوية، قد لا تتسع سطور هذا المقال لذكرها جميعًا بشكل منصف.
يمكننا القول إن لبلاد الرافدين الحصة الأكبر منهن، نذكر بعضًا من رائدات الغناء النسائي: زكية جورج ومنيرة الهوزوز ولميعة توفيق وصديقة الملايا وسلطانة يوسف ووحيدة خليل وزهور حسين ونجاة سالم.. وغيرهن العشرات ممن حاولن أيضًا تأدية المقام العراقي في مطلع القرن العشرين، لكن الطريق لم يكن سهلًا لعدة أسباب، أهمها أنه كان عليهن ارتياد المقاهي العامة حيث يُغنى المقام، وكان من الصعب أن ترتاد المطربات تلك المقاهي حتى نهاية العقد الثالث.
ارتبط أول ظهور عام للغناء النسائي للمقام العراقي على يد صديقة الملاية، وبعدها زهور الحسين، ومائدة نزهت.. وغيرهن.
في بلاد الشام، استمعنا إلى سهام رفقي وزكية حمدان ونعمت قسومة والمطربة حنان وسحر مقلي، وفي فلسطين يذكر لنا الأخوة سحاب في كتاب "الموسيقى والغناء في فلسطين قبل 1984 وبعدها" المغنية خيزران، البارعة في العزف على القانون، وثريا قدورة وفروسو زهران وأمينة المعماري وجوليا السلطي.. وغيرهن.
في شبه الجزيرة العربية والعراق وبلاد الشام، نجد مغنيات كثر ناضلن على عدة مستويات لتقديم أنفسهن والغناء في وسط اجتماعي محافظ ومقيد بألف قيد وقيد
في الخليج العربي، كانت أوجه المعاناة أشد مرارة وتقاطعت الظروف ذاتها مع نظيراتهن في العراق وبلاد الشام، بالرغم من التحديات الكبيرة استطاعت مغنيات مثل فتحية يحيى حسن، الملقبة "توحة"، أن تكون أول مطربة وملحنة سعودية على الإطلاق. تعلمت العزف على العود وكتابة النصوص الغنائية، وسبقت في ظهورها واحدة من رائدات الغناء السعودي التي دخلت تاريخ الغناء النسائي في المملكة العربية السعودية وهي خيرية قربان عبد الهادي كشاري، الشهيرة فنيًا باسم ابتسام لطفي، بالإضافة إلى المغنية عتاب التي حققت شهرة واسعة وعرفت كأول نجمة استعراضية سعودية، ولقيت دعمًا كبيرًا من المغنية الكويتية الشهيرة آنذاك عودة المهنا.
في الإمارات نجد المغنية موزة سعيد، وموزة خميس في عمان، ومثلهن أخريات من المغنيات اللواتي لم ينلن النصيب الوافي من الشهرة، ولم تصلنا الكثير من أخبارهن أو تسجيلاتهن، بالرغم من الأثر الذي تركنه.
الغناء النسائي الجماعي في الخليج العربي
وجدت المغنيات في الخليج العربي ملاذًا في الغناء الشعبي التقليدي، وأسسن فرقًا غنائية كان للكويت الحصة الأكبر فيها، خصوصًا مع وجود نجمة الغناء الشعبي الفنانة الكويتية عودة المهنا، والتي سبقتها في الظهور الفنانة العشبية الكويتية سعادة البريكي، وبرزت نجوميتها وسطعت في أوائل الثلاثينات حين كانت تقود فرقة شعبية من الطقاقات تمارس الغناء في المناسبات والأفراح، كما كان لها الفضل في اكتشاف الفنانة الشعبية عوده المهنا، التي كانت ضمن فرقة خالتها هدية المهنا.
مع ظهور تشكيل فرقة عودة المهنا الشهيرة وانتشارها، مهدت المهنا الطريق لمغنيات أخريات في الكويت من خلال انضمامهن لفرقة عودة سرًّا وجهرًا، وتأسيسهن لاحقًا مشروعهن الفني الخاص أمثال عائشة المرطة التي انتسبت إلى فرقة عودة المهنا بالسر، وهي في عمر الرابعة عشر حتى لا تثير المشاكل مع أهلها، وأجادت غناء العديد من الفنون الخليجية الشعبية مثل السامري والدوسري.. إلخ.
يشير الموسيقار يوسف دوخي في كتابه "الأغاني الكويتية" إلى أن الفرقة النسائية مارست غناء السامري والخماري واللعبوني بطريقة خاصة، وبمصاحبة الأطفال، ويشير أيضًا إلى أن الفرق الغنائية النسائية الكويتية ومنها: فرقة وريدة الثاقب، وخديجة الجيماز، والراوي. وتمارس النساء هذا النوع من الغناء بمصاحبة "الطيران" و"الطبول" إلى جانب كورس نسائي. وكانت الفرقة قد تصطحب معها بعض الراقصات ليشاركن في الرقص على غناء السامري، وهن من طبقة المرددات، يشاركن في الرد على المغنية، ويرقصن إذا ما طلب منهن.
في البحرين وقطر والعراق، كما هو الحال في الكويت، كان للغناء النسائي الجماعي تاريخ طويل أيضًا يعود إلى قدوم واستقرار القبائل العربية من أواسط نجد إلى سواحل الجزيرة العربية أواخر القرن السابع عشر الميلادي.
تطور هذا الفن ووجدت النساء مساحة أكبر فيه من الغناء المنفرد، بالرغم من وجود مغنية منفردة في أغلب الفرق وتشكيل تلك الفرق نواة للغناء النسائي المنفرد، إلا أن المجتمعات المحلية في البداية كانت أكثر قبولًا وانسجامًا مع حالة الغناء الجماعي، وخاصة فيما يتعلق بالغناء الشعبي -الذي تجاوزت فنونه العشرين نوعًا من الفنون الغنائية النسائية الشعبية- منها مع حالة الغناء المنفرد التقليدي، بالإضافة إلى أن تطور أداء هذه الفرق وانتعاشها كان في مجتمع ساحلي كالبحرين والكويت وقطر ومينة البصرة، أي في أمكنة أكثر انفتاحًا من مجتمع القبائل في الصحراء، أبرز تلك الفرق ومغنياتها في البحرين كانت مكية بنت زايد فاطمة، أم راشد، فرقة الفيروز، فاطمة الخضارية، عيدان السهالوة، سعيدة السهلاوي، طيبة الفيروز، بنت ادريس، وآخرهن فرقة النجمة هبة عبدالله.
ونذكر في العراق فرقة البصرة، وفرقة الخشابة النسائية الشعبية، والمغنية حمدية سبتي وفرقتها، وفرقة أم علي النسائية الشعبية، والمغنية الشعبية سليمة إسماعيل.
وفي قطر فرقة الفنون الشعبية، وفرقة الخور النسائية للغناء الشعبي للمغنية أم عبدالله.
لا شك أن تاريخ سيرة الغناء النسائي وأنواعه، في بلاد الشام والعراق والخليج العربي، سواء كان فرديًّا أو في فرق غنائية أو مجموعات أهلية.. هي سيرة غنية جدًّا وتراجيدية في أغلب الأحوال
بالمقارنة مع بلاد الشام، تعتبر حالة الغناء النسائي الجماعي في الخليج العربي والعراق أكثر تطورًا من حيث تشكيل الفرق، إن كانت نسائية فقط أو مختلطة، ومن حيث تأليف الأغاني، ومن حيث الاحترافية المتمثلة بإحياء المناسبات الاجتماعية والدينية وإقامة الحفلات وتسجيل الأغاني، وأيضًا من حيث انتشارها.
بينما لم تتطور التجربة في بلاد الشام في القرن العشرين إلى وجود فرق غنائية شعبية محترفة ووجود مغنيات يرأسن فرق من هذا القبيل، باستثناءات قليلة ومحاولات هنا وهناك، بل اقتصر الغناء الجماعي النسائي على المناسبات الاجتماعية الخاصة، وعلى الطقوس والمناسبات المحلية، من خلال أغاني الأعراس والزفة ومناسبات الطبخ والحناء والحصاد والمأتم والولادة.. وغيرها من طقوس الغناء والغناء ضمن كورالات مختلطة لفرق غنائية، لكن هذا الأمر لم يُفقد الغناء النسائي الشعبي في بلاد الشام زخمه تاريخيًّا، ولا حضوره في الوجدان الشعبي موسيقيًّا واجتماعيًا وسياسيًّا، كما هو الحال في فلسطين على سبيل المثال، وأغاني النساء في الفلكلور والتراث الشعبي التي شكلت جزءًا مهمًا من الحكاية الفلسطينية تاريخيًّا، حيث برز في شمال فلسطين لون غنائي نسائي شعبي سمي بالشلعيات ترويها النساء غناءً، وسميت بذلك لأنها "تشلع" القلب من شدة الألم وتحكي قصص الشباب الذين غادروا أمهاتهم في السفربرلك، وأغاني شعبية كثيرة غنتها النساء مثل: ع الأوف مشعل، ويا ظريف الطول.. وسواها.
بالرغم هذا التطور الكبير للغناء الشعبي النسائي في الخليج إلا أن العقدين الأخيرين شهدا شبه اندثار واختفاء للفرق الغنائية النسائية متأثرة بظهور ما يسمى الصحوة الدينية، باستثناءات قليلة لفرق من البحرين والكويت تلقت دعمًا حكوميًا للاستمرار في محاولة للحفاظ على هذا الإرث وتناقله وتعليمه، لكنها محاولة متأخرة أتت بجهود وشراكات غربية للحفاظ على التراث المادي لهذه الفنون.
لا شك أن تاريخ سيرة الغناء النسائي وأنواعه، في بلاد الشام والعراق والخليج العربي، سواء كان فرديًّا أو في فرق غنائية أو مجموعات أهلية.. هي سيرة غنية جدًّا، وتراجيدية في أغلب الأحوال، وتحتاج إلى جهود كبيرة وجبّارة للأرشفة والتوثيق والتدريس، بوصفها جزءًا مهمًا وأساسيًّا من تاريخنا الاجتماعي.