يقربك دينزل واشنطن من الشخصيات التي يلعبها بطريقة تجعلها مألوفة، تمامًا كما لو أنك التقيت بأحدٍ ما يحمل صفاتها. وهذا يعود إلى فهم واشنطن للتمثيل بوصفه طريقة للتواصل مع العالم. فبقدر ما تلتزم شخصياته بسياقها الحكائي والدرامي، يسعى واشنطن إلى إلزامها بعاطفته ومواقفه الأخلاقية والانفعالية من البشر.
وهو هنا لا يتبع تكتيكات أكاديمية شديدة التعمق في دراسته للعالم الداخلي للشخصية فحسب، بل يعمل أيضًا وبجهدٍ بيّن على إكسابها روحًا تنسجم مع أزمتها ودورها في الحكاية. وهذا بالضبط مايجعلها حية إلى أبعد الحدود، ومألوفة لمعظم المشاهدين في العالم على اختلاف ثقافاتهم وخلفياتهم الاجتماعية. إنه سر دينزل واشنطن الصغير الكبير في ضخ الدم وإكساء شخصياته لحمًا حيًا ومنطقًا ومنطوقًا لا يزيد ولا ينقص، بل يجعل الشخصية أقرب إلى الكمال لناحية إمكانية وجودها الواقعي وحضورها الرمزي الدلالي في سياق القصة السينمائية.
تسهّل موهبة واشنطن الفريدة هذه اقتراب المشاهد من الشخصية ومن الحكاية بسرعة، ذلك أنه يعي تمامًا قوة حضوره الطاغي الذي يوظفه كل مرة بالقدر المناسب لكل شخصية، فهو لايبحث فقط في الورق والمراجع لتقديم الشخصية، وإنما في الشارع، ومكاتب المحاماة، وشركات الطيران، والملاعب، والثكنات العسكرية، وبين أبنية الأثرياء، وفي شوارع الجريمة والموت العشوائي.
يُعتبر دينزل واشنطن، الذي فاز بجائزتي أوسكار من أصل 5 ترشيحات، فضلًا عن عشرات الجوائز والترشيحات الأخرى، قيمة كبيرة مضافة لأهم ممثلي القرن الحادي والعشرين، وهذا ما يجعل من اختيار 5 من أهم أفلامه التي تتجاوز الـ60 فيلمًا مهمة صعبة. لكننا سوف نحاول أن نقدّم لكم قائمة متنوعة نحاول فيها إظهار قدرته على لعب شخصيات من بيئات اجتماعية شديدة الاختلاف والخصوصية.
1- المجد
يُعيد الفيلم الذي تدور أحداثه خلال الحرب الأهلية الأمريكية، الاعتبار لكتيبة من المشاة المتطوعين أصحاب البشرة السمراء ويمجد ذكراهم التي تعمّد التاريخ تجاهلها لفترة طويلة من الزمن. كما يرصد أحداث تلك الحرب وما تعرضت له تلك الكتيبة من تهميش وعنصرية وحرمان في الوقت الذي كان يتمتع فيه أصحاب البشرة البيضاء بامتيازات هائلة.
ورغم سنه المبكرة، قدّم واشنطن في هذا الفيلم واحدًا من أجمل أدواره السينمائية، الذي استحق عليه جائزة الأوسكار لأفضل ممثل مساعد ويُعد مشهد الجْلد من أروع مشاهد الفيلم الذي قدّم فيه واشنطن أداءً عميقًا ومركبًا في لقطة قريبة، يرتكز على إظهار مشاعر الشخصية من خلال الصمت والنظرة المعقدة التي يجسّد فيها واشنطن شعور الشخصية بالظلم وإحساسها العالي بالكرامة وهي تُجلد.
أُنتج الفيلم عام 1989، ونال مراجعات نقدية إيجابية وصَفت الفيلم بالملحمي، وأشادت بأداء الممثلين العميق الذي اتصف بالهدوء والاتزان.
2- يوم التدريب
يُقدّم واشنطن في هذا الفيلم واحدًا من أكثر الأداءات السينمائية براعةً وحرفية تتجلى في جعل الغموض ثيمة طبع بها أداءه، وقدّم من خلالها شخصية الضابط ألونزو التي صارت طريقته في تقديمها جزءًا من حبكة الفيلم لشدة قدرتها على فتن المشاهد وإرباكه. إذ قدم واشنطن عبر هذه الشخصية فلسفة خاصة أوهم بها المشاهد أن عالم الشرطة لا بد أن يكتسب الكثير من صفات عالم الجريمة كي يستطيع مكافحتها، وأن التصورات المثالية هي مجرد ترهات أكاديمية. فلكي تمسك بالمجرم، عليك أن تفكر مثله وربما أن تصل إلى حافة الهاوية في سلوك حياتك اليومي كي تفهم هذا العالم وتقوى على مواجهته.
لقد كان هذا المنطق قويًا جدًا حتى نهايات الفيلم، وقد يصيب المشاهد بإرباك يجعله يتبنى فلسفة الضابط ألونزو الذي خبر الشوارع جيدًا، وهو إرباك يعزز بناء قصة الفيلم كلها على مسار زمني مدته يوم واحد يقوم فيه ألونزو بتدريب ضابط شاب آخر، ينظر إلى عمل الشرطة بطريقة مثالية جدًا تبسّط مفاهيم الخير والشر إلى أبعد الحدود.
يبقى الشاب مُربكًا ومتشككًا كما نحن المشاهدون. يمنحه ألونزو دائمًا سببًا ليطمئن لنزاهته، رغم أساليبه المخادعة وسلوكه المتطابق مع سلوكيات المجرمين، حتى يكتشف المتدرب في النهاية أن الضابط المخضرم غارق في عالم الجريمة، ويستخدم سلطته كضابط لتحقيق الثراء وأسلوب الحياة المترف.
تلقى الفيلم إشادات نقدية كبيرة تركّزت، بشكل خاص، على الأداء العبقري لشخصية ألونزو من قِبل دينزل واشنطن، الذي حقق أوسكاره الثاني عن هذا الأداء.
3- رجل عصابة أمريكي
يُلاحق المخرج البريطاني ريدلي سكوت في هذا الفيلم قصة صعود أحد أشهر رجال العصابات السود، وهو فرانك لوكاس الذي يؤدي دوره دينزل الذي يقدّم في هذا الفيلم أداءً تصاعديًا خلّابًا أساسه المزج بين الثقة بالنفس والبصيرة النافذة والإيمان بقيم الأسرة وأهمية العائلة، بالإضافة إلى قسوة غير محدودة تقول إن هذا الرجل يشبه الحياة نفسها بما تنطوي عليه من وحشية ومحبة وعاطفة في آن معًا.
تبدأ حكاية فرانك لوكاس بالعمل سائقًا لدى رجل عصابات في حي هارلم الخاص بالسود. وبعد موت زعيم العصابة، تبدأ قصة صعوده بسرعة خلخلت معها معايير وتقاليد سوق المخدرات، وخلقت لرجل العصابات الفطن الكثير من الأعداء. ويشير سكوت من خلال هذا الفيلم إلى أن الانتشار المهوّل للمخدرات في الشوارع، وسيطرة رجال العصابات عليها، وسهولة شراء ذمم القضاة وكبار المسؤولين؛ تزامن مع حرب فيتنام، وهو ما يعني أن الانحدار والانجراف الاجتماعي نحو التعاطي هو شكل من أشكال الاحتجاج على الحرب. بل إن الأمر إن يصل إلى حد اتهام الجيش نفسه بالفساد الذي يتجلى في مساعدته لفرانك لوكاس على ابتلاع السوق عبر تهريب المخدرات في توابيت الجنود الذين لقو حتفهم في فيتنام.
أُطلق على الفيلم اسم "العراب الأسود"، ويعد واحدًا من أقوى أفلام السيرة الذاتية المشحونة بالدراما والروح الروائية السردية.
4- مالكوم إكس
يُقدّم دينزل واشنطن في هذا الفيلم ثلاثة أطوار أدائية لسيرة ذاتية وفكرية صاخبة وعنيفة ومثيرة للجدل، وهي سيرة الناشط المدني مالكوم إكسالذي تحول إلى زعيم أفروأمريكي ذائع الصيت في الولايات المتحدة وفي العالم الإسلامي، وأصبح واحدًا من أهم المناضلين ضد الفصل العنصريفي أمريكا والعالم أجمع.
يروي الفيلم قصة مالكوم ليتل الأفريقي الأمريكي ذو البشرة الأقل قتامة من أقرانه بسبب تعرض جدته، والدة أمه، للاغتصاب من قِبل رجل أبيض، والذي قُتل والده على يد جماعة "الكوكلوكس" العنصرية. ففي الجزء الأول، يستعرض الفيلم محاولات مالكوم التشبه بالبيض وتأثير نمط حياتهم عليه، قبل أن ينتقل إلى مرحلة السجن الذي قضى فيه 10 سنوات من عمره، وتبلور داخله فكره وفخره بأصوله الأفريقية، فضلًا عن اعتناقه الإسلام على يد الداعية "الإيجاه محمد". ثم ينتقل إلى المرحلة الأخيرة التي أصبح فيها واحدًا من أكثر المؤثرين في مجتمع السود الأمريكيين، واكتسب فكره ورؤاه خلالها عمقًا وتسامحًا أكبر، ناهيك عن تركه الجمعية الإسلامية وتأسيسه حركة الوحدة الأفريقية الأمريكية، التي ترى أن قيم الإسلام هي وحدها القادرة على تذويب العنصرية والقضاء عليها.
قدّم واشنطن في هذا الفيلم أداءً رفيع المستوى رغم عدم وجود أي شبه بينه وبين مالكوم إكس الذي اهتم بتقديم تعقيدات حياته وتشريح عالمها الداخلي، ما جعل من مسألة التشابه في الشكل أمرًا ثانويًا غير مهم. وقد نال الممثل الكبير عن أدائه هذا ترشيحًا لجائزة الأوسكار. وتُعد هذه الشخصية، تحديدًا، علامة فارقة في مسيرته كممثل سينمائي.
5- اختطاف بيلهام 123
يُؤدي واشنطن في هذا الفيلم واحدًا من أكثر الأدوار صعوبة بالنسبة لأي ممثل سيكون هذا الدور بمثابة امتحان لقدراته وإمكانياته. ففي هذه الشخصية، يقضي واشنطن معظم أوقاته جالسًا على كرسي ويخاطب شخصًا عبر الهاتف، فضلًا عن التصوير في غرفة أو صالة واحدة، وهولذلك أكثر الأداءات الممسرحة التي قدّمها خلال مسيرته الفنية.
تدور قصة الفيلم حول موظف سنترال في شبكة أنفاق الميترو بمدينة نيويورك يلاحظ توقف عربة ميترو مفصولة وسط نفق، ما يعيق حركة القطارات التي تعبر منه، فيحاول التواصل مع السائق لكنه لا يتلقى إجابة، ثم يكتشف أن العربة مختطفة من قبل "برنارد رايدر" (جون ترافولتا).
يكتشف الموظف أن لديه موهبة في التفاوض، ويساعده هدوءه وسرعة بديهته في الحفاظ على حياة الرهائن ريثما يتم تحقيق مطالب الخاطفينالذين يريدون 10 ملايين دولار لإطلاق سراحهم. ومع الوقت، ينشأ إعجاب خفي مشوب بالاحترام لدى الخاطف تجاه موظف السنترال الذي ينجح في اكتساب ثقته، ثم يجد نفسه في مهمة بوليسية يلاحق فيها الخاطف ويرديه قتيلًا في نهاية الفيلم.
يُعد "اختطاف بيلهام" من أفلام الميزانيات المحدودة، لكن واشنطن وترافولتا قدّما فيه أداءً مشوّقًا يحبس الأنفاس.