هيمنت عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض على قمة المجموعة السياسية الأوروبية المنعقدة في بودابست، وكانت كلمة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، خلال فعاليات القمة لافتة للانتباه، حيث سعى إلى تثوير الأوروبيين ضد عودة ترامب بقوله مخاطبًا الحضور علينا "ألا نفوّض للأبد أمننا للأميركيين، كما يجب علينا الدفاع عن مصالحنا على نطاق واسع"، ليس في مواجهة الصين فحسب، بل أيضًا في مواجهة أميركا التي تعهّد رئيسها الجديد المنتخب بفرض رسوم جمركية على واردات جميع الدول بما فيها تلك الحليفة، كما توعد الحلفاء قبل الأعداء بسياسة خارجية تعتمد على "الضغط" وعلى رؤية "أميركا أولًا".
لحظة تاريخية حاسمة
بدا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وكأنه يهيئ الأوروبيين لأسوأ السيناريوهات بشأن العلاقات الأميركية الأوروبية، مؤكدًا أن اللحظة الراهنة لأوروبا هي لحظة "تاريخية حاسمة"، معتبرًا أن السؤال الذي يجب طرحه هو: "هل نريد كأوروبيين أن نقرأ التاريخ كما يكتبه الآخرون؟"، في إشارة إلى تميز المواقف الأوروبية للتبعية الأميركية، وإلى أنها محددة سلفًا كردة فعل على ما يفعله بوتين في أوكرانيا، أو النتائج المفاجئة في أميركا، أو الخيارات الصينية على الصعيد التجاري والتكنولوجي. الأمر الذي انتقلت أوروبا معه إلى وضع "المنفعل لا الفاعل"، وضع "التابع لا المؤثر". هذا ما استُشفّ من كلمة ماكرون الذي يبدو أنه يقدم أوراق اعتماده بوصفه زعيمًا للقارة العجوز، في ظل الأزمات السياسية التي تشهدها ألمانيا، وآخرها انهيار حكومة شولتز.
يخلص ماكرون من مرافعته التثويرية إلى أنّ الأوروبيين "يريدون أن يكتبوا التاريخ"، مضيفًا "أعتقد شخصيًا أن لدينا القدرة على كتابته".
يقدّم ماكرون نفسه زعيمًا للقارة العجوز في مواجهة ترامب في ظل الأزمة السياسية التي تشهدها ألمانيا
ولم يفت إيمانويل ماكرون تذكير الأوروبيين بما كان عليه الحال في ولاية ترامب الأولى (2016 - 2020)، قائلًا "هنّأت ترامب الذي كان بعضنا حول هذه الطاولة يعرفه، قبل أربع سنوات. لقد انتخبه الشعب الأميركي وسيدافع عن مصالح الأميركيين وهذا أمر مشروع وجيد. والسؤال هو هل نحن مستعدون للدفاع عن مصالح الأوروبيين؟"، مردفًا "أعتقد أن هذه هي أولويتنا. يجب ألا نعول على (التحالف) عبر الأطلسي وهو أمر ساذج، ولا التشكيك في تحالفاتنا، ولا التعويل على قومية ضيقة لن تسمح لنا برفع التحدي في مواجهة الصين والولايات المتحدة الأميركية".
وتابع إيمانويل ماكرون "بالنسبة لي، الأمر بسيط، العالم يتكون من آكلي الأعشاب وآكلي اللحوم. إذا قررنا أن نبقى آكلي أعشاب، فسوف ينتصر آكلو اللحوم وسنكون سوقًا لهم"، ويفهم من هذه الاستعارة السياسية، أن ماكرون يحرض الأوروبين على أن يكونوا، في أقل تقدير، "آكلي الأعشاب واللحوم معًا".
وأنهى ماكرون خطابه "التثويري" بالقول: "لا أريد أن أكون عدوانيًا، أريد فقط أن نعرف كيف ندافع عن أنفسنا في كل الجبهات".
ألمانيا تخسر الرهان
راهنت ألمانيا كثيرًا على فوز كامالا هاريس كحليف مرغوب فيه على ضفة الأطلسي الأخرى، وذلك لتعزيز العلاقات مع الولايات المتحدة. وعليه، يمكن القول إن فوز ترامب جاء بما لا تشتهيه سفن برلين، فتاريخ ألمانيا مع ترامب محفوف بالمشاكل والمصاعب، ولعل من أولى تداعيات عودة ترامب على برلين انفراط عقد حكومة أولاف شولتز، فاللحظة الراهنة تتطلب شخصيات سياسية لديها القدرة على مقارعة الساكن الجديد للبيت الأبيض بعد أقل من شهرين.
إنّ أوضاع ألمانيا السياسية الحالية تحد من كفاءتها في "مواجهة ترامب". فمنذ أسابيع، تتقلب برلين في خلافات بشأن التوجه الاقتصادي، الأمر الذي انفرط معه عقد الائتلاف الحاكم بعد إقالة وزير المالية كريستيان ليندنر، وإعلان المستشار الألماني أولاف شولتز إجراء تصويت على الثقة في منتصف كانون الثاني/ المقبل، الأمر الذي قد يُسفر عن تنظيم انتخابات سابقة لأوانها في آذار/مارس 2025.
يحتفظ دونالد ترامب بكثير من السلبية تجاه النموذج الألماني، بسبب "سياستها المتقبلة للاجئين، وسياستها في مجال الطاقة والمناخ التي تعتمد على الطاقات المتجددة بدلًا من الاعتماد على الفحم والنفط والطاقة النووية"، هذا فضلًا عن الخلاف حول "الناتو" الذي طالما شكك ترامب في "أهميته"، معتبرًا أن أميركا تتحمل الحماية العسكرية لدول الحلف دون أن تساهم تلك الدول بما يكفي من أجل الدفاع عن نفسها، ووصل الخلاف حد تهديده بـ"سحب القوات الأميركية من ألمانيا".
كما يطال الخلاف الملف الأوكراني، فليس معروفًا لحد اللحظة ما إذا كانت برلين ستساير إرادة ترامب في إنهاء الحرب ولو على حساب كييف، أم ستستمر في دعم "صمود أوكرانيا"، علمًا بأنّ برلين تعد "أهم مورّد أسلحة وممول لأوكرانيا، بعد واشنطن".
كما يعد تعهد ترامب بفرض رسوم جمركية على واردات جميع الدول سببًا آخر للتوترات المتوقعة بينه مع الأوروبيين، لا سيما ألمانيا التي تعتبر من أهم الشركاء التجاريين للولايات المتحدة. ويُخشى أن يتسبب ذلك في رفع أسعار المنتجات الألمانية، مع الإشارة إلى أن المتضرر الأكبر من تلك الرسوم سيكون قطاع صناعة السيارات والأدوية الألمانية.