25-أكتوبر-2023
مواقع التواصل

أنفق الاحتلال ملايين الدولارات على إعلانات تستجدي التعاطف (Getty)

بالتوازي مع قصفه لقطاع غزة بآلاف الصواريخ وأطنان المتفجرات، ينفق الاحتلال الإسرائيلي ملايين الدولارات على الحملات الدعائية المدفوعة في منصات التواصل الاجتماعي، حيث أطلقت حكومة الاحتلال حملة دعائية واسعة النطاق على الشبكات الاجتماعية الرقمية مُستهدفةً بشكل استراتيجي الدول الغربية، وذلك في جهدٍ مركّز لتشكيل رأي عام دولي مؤيد لحربه الوحشية على قطاع غزّة المُحاصر بعد عملية "طوفان الأقصى"، وحشد الدعم اللازم لتبرير الرد العسكري والعقاب الجماعي بحق الشعب الفلسطيني، غافلةً أن "طوفان الأقصى" جاءت في سياق الرد على اعتداءات الاحتلال الإسرائيلي المُستمرة منذ سنوات على الشعب الفلسطيني وانتهاكاته المتواصلة بحقه.

وتمثّلت استراتيجية الاحتلال بالإنفاق على عشرات الإعلانات التي تتضمن صورًا وحشية ومحتوى يستجدي التعاطف مع المستوطنين، كالإعلانات الرسومية المشحونة عاطفيًا عبر منصات مثل "إكس" و"يوتيوب" وفقًا للبيانات التي استعرضتها "POLITICO".

ساهمت عملية إغراق وسائل التواصل الاجتماعي بالصور المزيفة التي تزعم قتل "حماس" للأطفال في تشكيل رأي عام يتماهى مع السردية الإسرائيلية

ولأكثر من أسبوع، عرضت وزارة الخارجية الإسرائيلية 30 إعلانًا تمت مشاهدتهم أكثر من 4 ملايين مرة على منصة "إكس" (تويتر سابقًا) وفقًا لبيانات المنصة. وكانت مقاطع الفيديو والصور المدفوعة التي بدأت بالظهور في 12 تشرين الأول/ أكتوبر، تستهدف البالغين الذين تزيد أعمارهم عن 25 عامًا في بروكسل وباريس وميونيخ ولاهاي، وفقًا للبيانات نفسها.

صوّرت هذه الإعلانات "حماس" على أنها "جماعة إرهابية شريرة"، على غرار تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، وعملت على إظهار حجم كبير وأنواع متعددة من الانتهاكات، بما في ذلك صور مروعة مثل صورة امرأة عارية هامدة في شاحنة صغيرة. كما انتشر مقطع فيديو مدفوع آخر تم نشره على "إكس" مع نص متناوب بين "داعش" و"حماس"، وفيه صور تحتوي على عنف، تتسارع تدريجيًا حتى يتم دمج اسمي "المنظمتين الإرهابيتين" وفق المقطع، في اسم واحد.

وعلى موقع "يوتيوب"، نشرت وزارة الخارجية الإسرائيلية أكثر من 75 إعلانًا مختلفًا، بما في ذلك بعض الإعلانات المصورة بشكل خاص، تم توجيهها إلى الجمهور في الدول الغربية – بما في ذلك فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة – وتم بثها بُعيد هجوم "حماس" في 7 أكتوبر، وفقًا لقاعدة بيانات الشفافية الخاصة بغوغل.

ومن جهتها، أشارت صحيفة "لوتان" السويسرية إلى أن مقاطع فيديو دعائية إسرائيلية مدتها لا تتجاوز 30 ثانية تستهدف الولايات المتحدة و6 دول أوروبية، نُشرت عبر "يوتيوب" وتطبيقات الألعاب، تأتي على شكل إعلانات مدفوعة من وزارة الخارجية الإسرائيلية، وتهدف إلى تأمين الدعم الشعبي في الخارج لإسرائيل من خلال ربط حركة المقاومة الإسلامية "حماس" بتنظيم الدولة الإسلامية، وتدعو إلى دعم "إسرائيل" ضد "حماس" وينتهي المحتوى برسالة "قف مع إسرائيل".

يُشار إلى أنّها ليست المرة الأولى التي تقوم فيها "إسرائيل" بشراء إعلانات داعمة لمواقفها، فخلال عدوانها على غزة عام 2021،  أزالت "غوغل" من "يوتيوب" إعلانًا حكوميًا إسرائيليًا عرض 40 ثانية من الصور لعواقب إطلاق صواريخ "حماس"، لأنه اعتُبر "عنيفًا للغاية".

وبالعودة إلى العدوان الحالي على القطاع، أشارت الصحفية صوفيا سميث، في ثريد خاص بها على موقع "إكس"، إلى أن الحكومة الإسرائيلية أنفقت ما يقرب من 7.1 مليون دولار على إعلانات يوتيوب وحدها.

استندت سميث في بياناتها إلى الأداة التحليلية "Semrush"، وهي عبارة عن منصة تقدّر النفقات على الحملات الإعلانية، إلى جانب مركز شفافية الإعلانات التابع لشركة غوغل. ووفقًا لبحثها، استهدفت الحملة الدعائية الإسرائيلية بشكل صريح فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة من بين دول أخرى، إذ أصدرت ما مجموعه 88 إعلانًا في فترة قصيرة من 7 أكتوبر إلى 19 أكتوبر. ما يعني أن الدعاية موجهة بشدة نحو أوروبا، حيث تم توجيه ما يقرب من 50 إعلان فيديو باللغة الإنجليزية إلى دول الاتحاد الأوروبي.

في الوقت نفسه، تم عرض 10 و13 إعلانًا على التوالي للمشاهدين في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وقد تم تخصيص مبلغ 1.1 مليون دولار لاستهداف المملكة المتحدة وحدها. والجدير بالذكر أن مقطع فيديو واحد قد حصد أكثر من 3 ملايين مشاهدة في أربعة أيام فقط. ويشير التعمق في المقاييس إلى أن الحملة حققت انتشارًا هائلًا، بعد أن جمعت ما يقرب من مليار مشاهدة.

ينفق الاحتلال الإسرائيلي ملايين الدولارات على إعلانات تتضمن صورًا وحشية ومحتوى يستجدي التعاطف مع المستوطنين

وكشف تحقيق سميث أيضًا عن سلوك مثير للقلق يمكن استخلاصه من خلال مواقع التواصل الإجتماعي. فقد تظهر بعض مقاطع الفيديو وتختفي من مركز الإعلانات بشكل متقطع، مما يشير إلى انتهاكٍ محتمل لإرشادات إعلانات "يوتيوب".

من جهتها، ذكرت صحيفة "بوليتيكو" أن غوغل قامت بإزالة 30 إعلانًا من إعلانات الحكومة الإسرائيلية لأنها لم تمتثل لإرشاداتها. وتحتفظ الشركة بسياسات صارمة ضد الترويج للإعلانات التي تحتوي على لغة عنيفة، أو صور مروعة. وعلى الرغم من ذلك، فقد لوحظت دورة مستمرة لتحميل وتفعيل هذه الإعلانات الرسومية. على سبيل المثال، ادعى أحد الإعلانات المتكررة، أنه يصور تشريح جثة طفل إسرائيلي أُحرق حيًا مما يشير إلى استخدام مجموعة واسعة من استراتيجيات التلاعب العاطفي. وتراوحت الإعلانات بين تصوير أشكال حادة من العنف، ومناشدة الآباء للتعاطف مع أولئك الذين قُتل أطفالهم خلال الهجمات على إسرائيل وغيرها.

الدعاية الإسرائيلية بعد "طوفان الأقصى" وتأثيرها على الرأي العام الغربي

مما لا شك فيه أن الدعاية الإسرائيلية نجحت في الأيام الأولى التي تلت عملية "طوفان الأقصى" بتشكيل رأي عام رقمي انعكس على الشارع الواقعي الغربي إلى حدٍ ما. كما أن عملية إغراق وسائل التواصل الاجتماعي بالصور المزيفة التي تظهر قتل "حماس" للأطفال ومواد العنف الأخرى (اغتصاب، قتل، تنكيل..)، ساهمت في تشكيل رأي عام يتماهى مع السردية الإسرائيلية من خلال استقطاب المشاعر الإنسانية.

وفي مقابلته مع "التلفزيون العربي"، يقول المفكر العربي عزمي بشارة إنّ: "الفكرة الموجودة في الغرب هي تصديق إسرائيل فيما تقول، وتعريفها بأنها (منّا)"، وأنّه "من غير المعقول أن إسرائيل تقتل مدنيين، لكن الواقع أنها تفعل ذلك، وتاريخها منذ النكبة قائم على استهداف المدنيين وتشريدهم من أجل أن يهاجروا، وهذا ما يتكرر حاليًا".

ويمكن تلخيص الانعكاسات على الرأي العام الغربي وفق الآتي:

أولًا، عملية "طوفان الأقصى" عمل إرهابي: يتخلص هذا الأثر باعتبار أن "حماس" هي التي بدأت بـ"العدوان"، وأن هجومها غير مبرر، دون أي إشارة إلى مسؤولية السياسات الإسرائيلية والاعتداءات المُستمرة على الشعب الفلسطيني التي أفضت إلى "طوفان الأقصى"، وأنها بالتالي (أي "إسرائيل") لها كامل الحق في الرد على هذا الهجوم كيفما تشاء وبالطريقة المناسبه لها.

ثانيًا، حرب بين دولة "إسرائيل" وفصيل إرهابي: انعكست الدعاية الرقمية واقعيًا بتصوير الأحداث الراهنة على أنها حرب بين "حماس" و"إسرائيل" وليست حربًا بين "إسرائيل" والشعب الفلسطيني المحتل، بل هناك حرص على تصوير هذا العدوان على أنه صراع بين "دولة ديمقراطية" ذات سيادة من ناحية، و"جماعة إرهابية" من ناحية أخرى، مثلها مثل حرب الولايات المتحدة الأمريكية على تنظيم "القاعدة". أما القضية الفلسطينية أو مسألة الاحتلال الإسرائيلي، فهناك محاولات لوضعها بمعزل عن الأحداث الحالية.

ثالثًا، حماس لا تمثل الفلسطينيين أو القضية الفلسطينية: نشأت انطباعات غربية تعتقد أن حماس لا تعبّر عن تطلعات الشعب الفلسطيني وليست ممثلًا شرعيًا له، وأنها قامت باختطاف غزة وفرض إرادتها على سكان القطاع، وأن الهجوم الذي قامت به لا يمثل جزءًا من المقاومة الشرعية للاحتلال. بعد حرص الدعاية الإسرائيلية الرقمية أيضًا على إبراز الخلافات بين حماس والسلطة الفلسطينية، والتمييز بين سكان الضفة وسكان غزة.

مع مرور ثلاثة أسابيع على العدوان، بدأ المزاج العام الغربي يتغيّر بعد أن رأى وشاهد بأم عينيه وحشية الآلة الصهيونية، كما أن الحضور الفلسطيني الرقمي ساهم بدحض السردية الإسرائيلية رغم محاولات التضييق عليه ومحاصرته رقميًا في ظل تواطئ كُبرى الشركات التكنولوجية في تقييد المحتوى الداعم للقضية الفلسطينية، أو حتّى أي محتوى ينقل المعاناة الإنسانية والمجازر الوحشية للاحتلال الإسرائيلي في غزّة.

ذكر موقع "ذي إنترسبت" الأميركي أن مستخدمي تطبيقات التواصل الاجتماعي اشتكوا من تقييد تطبيقي "إنستغرام" و"تيك توك" المنشورات والحسابات أو حظرها بسبب محتواها المؤيد للفلسطينيين في أعقاب قصف إسرائيل المكثف على قطاع  غزة.

صوّرت الدعاية الإسرائيلية ما يجري في قطاع غزة بأنه صراع بين "دولة ديمقراطية" و"جماعة إرهابية"

ويقول الموقع إن استهداف المنصات للحسابات – التي تنشر تقارير عن فلسطين – يأتي في وقت يصعب فيه الحصول على معلومات من الناس في غزة وسط حصار "إسرائيل" الكامل لسكانها الذين يبلغ عددهم مليوني نسمة، وفي وقت تُبقي فيه إسرائيل وسائل الإعلام الأجنبية بعيدة عن هذا القطاع (المحاصر) حرصًا منها على عدم نقل الصورة الكاملة بواقعيتها، مع الإشارة إلى أن بعض الإعلام الغربي في مناطق غلاف غزة والمستوطنات الإسرائيلية تماشوا مع الدعاية الإسرائيلية من خلال فبركة بعض الروايات غير الحقيقية.

أهمية الشبكات الاجتماعية في تكوين الرأي العام

تصاعد دور وأهمية وسائل التواصل الإجتماعي بشكلٍ غير مسبوق في السنوات الأخيرة، وباتت من ضرورات الحياة إذ تؤدي دورًا بالغ الخطورة في تشكيل الرأي العام، وفي تعبئة الجماعات وحشدها حول أفكار وآراء واتجاهات معينة، مهما كانت هذه الجماعات متباعدة جغرافيًا أو غير متجانسة ديمغرافيًا. كما زادت التطورات التكنولوجية وسهولة استخدامها والولوج إليها من قدرة وسائل الاتصال الرقمية في التأثير على الجماهير وتوجيهها نحو أفكار معينة.

الكيان الصهيوني القائم أصلًا على مبدأ الدعاية، سارع منذ بداية صعود المنصّات الرقمية لتوظيفها ضمن إستراتيجياته المختلفة. فقد استطاع من خلال منظومته الرقمية باللغة العربية بث دعايته لاختراق الرأي العام العربي بأساليب متعدّدة، والدليل على ذلك هو حجم المتابعين العرب لصفحات كِيان الاحتلال على وسائل التواصل الاجتماعيّ، إذ تجاوزت أعدادهم الملايين.

كما أنّ حجم التّفاعل مع هذه الصفحات يوازي حجم المتابعين سواء أكان التّفاعل سلبيًا أو إيجابيًا، إلا أنّه وعلى الرّغم من ذلك، فإنّ مجرد التفاعل حتى لو كان بالسلب يعني وصول الرسالة التي يريدها الاحتلال. ومن خلال تكرارها وبثها باستمرار مع الوقت، يمكن أن تحدث تأثيرًا أو تغييرًا في الآراء. كما لجأت مخابرات الاحتلال إلى مواقع التّواصل لجمع المعلومات والإستفادة منها في الأعمال التجسسية على أساس أنّ المجتمع الافتراضيّ هو كالمجتمع الحقيقيّ، بالإضافة إلى لتعويض ما فقده من احتكاك مباشر مع المواطن العربي.

ناهيك عن أن هذه الوسائل توفر له فرصة التخفي تحت أسماء وهميّة وتحت مبررات مختلفة، فضلًا عن تعقب وملاحقة الناشطين الفلسطينين الحاضرين على المنصات الرقمية كما يفعل اليوم خلال عدوانه على غزّة، حيث تم اعتقال العشرات من المواطنين العرب في الأراضي المحتلة عام 1948 بسبب منشوراتهم على وسائل التواصل الاجتماعي حول الحرب على غزة، ومن بين هؤلاء الفنانة والمؤثرة المعروفة من الناصرة، دلال أبو آمنة.

وداهمت القوات الإسرائيلية متجرًا فلسطينيًا، وأمرت المحاسب بفتح هاتفه للتحقق من وجود أي منشورات تدعم غزة على صفحته على منصات التواصل، وبعد ذلك قامت باعتقاله وهذه الأمثلة تأتي ضمن عشرات الحالات الأخرى.

كما أن آلة البروباغندا في الكيان الصهيوني لا تفوّت أي فرصة للتفاعل مع أي أحداث كبرى تقع في بلاد العرب والمسلمين محاولةً إقحام نفسها في المشهد وتقديم نفسها على أنها الطرف الودود والإنساني، لتثبت حضورها عبر حساباتها المختلفة الرسمية وغير الرسمية على وسائل التواصل الاجتماعي، إذ تتقّن الخبرة في الاستفادة من نكبات ومصائب الآخرين. وأحدث الأمثلة على ذلك في ترويجهم لمشاركتهم في عمليات الإنقاذ بالمناطق التي ضربها الزلزال جنوب تركيا خلال شهر شباط الماضي.

ومن جانب آخر أيضًا، تستفيد الحركة الصهيونية من المنصّات الرقمية للتحريض على الشعب الفلسطيني، فقد رصد "مركز صدى سوشال"، أكثر من 8000 منشور تحريضي عبري وبلغات أجنبية، على منصات التواصل الاجتماعي للتحريض ضد الفلسطينيين، والدعوة إلى قتلهم وإبادتهم خلال شهر أكتوبر الحالي. وخلال حرب غزة 2021، وفقًا لصحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، فإن الجيش الإسرائيلي أدار حسابات تواصل اجتماعي وهمية لبث منشورات تعزز ثقة المستوطنين بضربات الجيش في غزة.

الدعاية في نشأة الصهيونية

تنبه مُخططو الحركة الصهيونية، ومنذ المراحل الأولى، إلى أهمية الدعاية حتى أننا نجد في الشكل التنظيمي للحركة الصهيونية في مؤتمر بازل 1897بسويسرا ، الارتكاز على وجود خمس تنظيمات أساسية تنبع من المؤتمر الصهيوني الأول. ومن بينها ما يسمى "مكتب التوجيه المركزي" (الدعاية والإعلام). وقد تعامل مؤسسو الكيان الإسرائيلي مع الإعلام كإحدى أهم أدوات بناء الدولة.

إن تحويل الضحية إلى مجرم أسلوب تستخدمه الدعاية الصهيونية والإعلام الإسرائيلي الموجه بحرفة عالية

إذا كان ثيودور هرتزل هو المؤسس الحقيقي للصهيونية الحديثة، وهو صحافي نمساوي يهودي، فهذا يفسر التأثير غير المفهوم بالنسبة للكثيرين، للإعلام الإسرائيلي. لقد كان الصحافي اليهودي أول من بدأ بفكرة دولة يهودية في فلسطين، ومن ثم راح يروج لها عبر وسائل الإعلام، ويجلب موافقات دولية من أجل هجرة اليهود الموعودة إلى هناك. كانت ثقته كبيرة بأهمية ودور الإعلام وتأثيره على الرأي العام عالميًا.

وفي هذا الإطار، اعتمدت الحركة الصهيونية على فلسفة دعائية ذات أبعاد سياسية تقوم على أسس أيديولوجية، ووظّفت وسائل إعلامها لخدمة استراتيجيتها القائمة على الخداع وغسل الأدمغة، من الصحافة المكتوبة والإذاعة والتلفزيون ووكالات الأنباء والسينما ومواقع التواصل الاجتماعي، لنشر وبث سرديتها معتمدةً في ذلك على أسلوب التكرار والكذب والشائعات ضمن خطاب موجّه إلى العالم بأسره من أجل كسب التأييد الدولي وخلق شعور جمعي مؤيد للكيان الصهيوني، وكسب شرعية زائفة. ومع تصاعد دور الشبكات الإجتماعية والمنصّات الرقمية، ركّزت الأخيرة بشكل كبير على هذه الساحة.

تعتبر وزارة الخارجية الإسرائيلية هي الجهة المسؤولة عن تخطيط وتنسيق نشاطات الإعلام الإسرائيلي عامةً في دول العالم الخارجي، ولذلك أُسس ملحقًا تابعًا لها يسمى "دائرة الإعلام" عام 1970.

ويعرّف المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد الدعاية الصهيونية بأنها أرهب جهاز دعاية في العالم يقوم بمسخ صورة شعب بأكمله، وذلك بانتهاج الإعلام الإسرائيلي لأسلوب الإغراق الإعلامي والتكرار في الرسالة (أسلوب طلقات المدفع)، واستعمال أسلوب التباين والثنائية الاختزالية بتقديم إسرائيل المتقدمة الرائدة في الشرق الأوسط، مقابل تقديم معلومات ودراسات وتقارير وإحصائيات عن التخلف في العالم العربي ونسبة الأمية، وحالة التعصب الديني والأعمال الإرهابية، وقمع السلطات وسوء معاملة الأقليات.

ويقول جيمس رستون رئيس تحرير جريدة "نيويورك تايمز" السابق: إن الدعاية الصهيونية تسبق الأحداث والدعاية العربية تلهث وراءها. ويقول دبلوماسي هولندي: إن الدعاية الصهيونية مثل أوركسترا متفاهمة، بينما يعزف العرب كل على هواه نغمة فردية مختلفة تشوش على النغمات العربية، حتى لا يجمعها قائد واحد، فالصهيونية العالمية ركزت منذ قيام الكيان الإسرائيلي، وبشكل هائل على الدعاية لتكبير الدور الحضاري لليهود في المنطقة العربية بالذات وفي العالم على وجه عام.

ويقول المؤرخ ويلز في كتابه "تاريخ العالم": ليست سوى سطور قليلة متناثرة في كتاب حضارة الشرق الأوسط الضخم الذي سطره العرب. ويؤكد ذلك الباحث حماد ربيع بأن الدعاية الصهيونية عرفت كيف تخاطب الناس حسب مستوياتهم الاجتماعية والاقتصادية، أو حسب توجهاتهم الفكرية والعقائدية، منتهجة أساليب متنوعة لتحقيق أهدافها كالمناورة والمراوغة والتهديد، والاستعطاف والتزوير والتعظيم والتكرار والتشبه بالشعوب وعقدة الذنب ومخاطبة مراكز النفوذ واستغلال الحوادث.

يقول الباحث الفرنسي دونيس سيفير في كتابه "الحرب الإعلامية الإسرائيلية": ''يجب أن يكون ثمة إعلام كامل يؤدي ذات الدور الذي تؤديه البندقية والطائرة النفاثة والقنابل التي تسقط آليًا على الضحايا، لأن الحرب سوف تكون مخططًا مدروسًا يجب التحكم من خلاله والذي يرتبط فيما بعد بالعامل النفسي للصهاينة ومن ثم المجتمع الدولي الذي لا يجب أن يرى الحرب كما هي حقيقة، بل كما يبثها له الإعلام الصهيوني فقط، أي حربًا ''نظيفة'' لا يموت فيها سوى الإرهابيين''.‏

ويوضح سيفير الدور الخبيث لهذا الإعلام، وكيف أنه يعتمد على مبدأ "كذب حتى يصدقوك" والذي بكل أسف، كما يقول الكاتب، انحازت إليه دوائر إعلامية غربية كثيرة صدقت الخبث الصهيوني القائل إنه يدافع عن نفسه من الإرهاب حتى أيدته في حربه هذه كل الوسائل الإعلامية وغير الإعلامية الأميركية.

تسعى حكومة الاحتلال عبر حملتها الدعائية واسعة النطاق إلى تشكيل رأي عام دولي مؤيد لحربه الوحشية على قطاع غزة

كما يرى العديد من الباحثين أن الحركة الصهيونية من أقوى الحركات التي استخدمت سلاح الإعلام والدعاية، وأحد أسباب قوتها أنها تمتلك دعما ماليًا غير محدود من اليهودية العالمية التي تشرف عليها مجموعة من الخبراء المختصين في شتى مجالات العلم وبكل اللغات، وتدعمها أجهزة صهيونية إعلامية.

إن تحويل الضحية إلى مُجرم أسلوب تستخدمه الدعاية الصهيونية والإعلام الإسرائيلي الموجه بحرفية عالية، فعمليات الاغتيال للشخصيات الفلسطينية مُبرّرة بالكامل لأنها جاءت في سياق رد على أعمال عنف طالت مدنيين وأبرباء، وألحقت أضرارًا بالشعب الإٍسرائيلي وفق سرديّتهم. مع إستخدام أسلوب الألفاظ ذات الوقع الخفيف للتعبير عن عمليات الإغتيال مثل "الدفاع الإيجابي" و"التصيفة الموضوعية".

ويبرّر الإعلام العمليات بأنّها وفق قاعدة "من يريد قتلك اقتله" من دون تفرقة بين مدني وعسكري ورجل وإمرأة وحتى طفل. في حين تعمد الدعاية الصهيونية إلى التشكيك بمقتل بعض الفلسطينيين على أيدي جنود الإحتلال الإسرائيلي أو المستوطنين، من خلال تلفيق الأكاذيب حول ظروف استشهادهم، كما صرّح الرئيس الإسرائيلي الأسبق شمعون بيريز بأن الإعلام الفلسطيني يبث صورًا لأشخاص أصيبوا في حوادث طرق ويعرضهم وكأنهم أصيبوا بجراح خلال الإشتباكات مع قوات الإحتلال الإسرائيلي.

السياسات والتكتيكات نفسها التي اعتمدتها إسرائيل في عملها الدعائي الإعلامي سواء على مستوى الصحافة المكتوبة أو الإعلام المرئي والمسموع، امتدت إلى الإعلام الرقمي الذي يتميزّ بسرعة إنتشار المعلومة واتساع شعاعها، فالحملة والإعلانات التي ينفق عليها الاحتلال الإسرائيلي ملايين الدولارات ما هي إلا إستكمالًا للنهج الدعائي الذي تأسس عليه الكيان الصهيوني.