حسبت طويلًا أن هاجس الخروج قد راود كل من حولي. وهذا ما يفسّر أن الأحاديث التي تُعنى به كانت تختفي ثم تعاود الظهور، زمنًا طويلًا، بصيغٍ صارخة أحيانًا، وبتسوياتٍ هادئةٍ غالبًا. ولم أفهم توجسي من كتابتها حتى اللحظة.
يقوم موراكامي في روايته "كافكا على الشاطئ" بتشريح البعد النفسي لحالة صراع يمر بها فتىً مراهق
في ساحة المدرسة التي أعمل فيها، عندما كنت أتربع مع طفل في السادسة من عمره، قررت أن أبدأ مسودتي عن الخروج. كان هذا الطفل الذي لا يسعني التصريح باسمه، يخلّف عاصفةً من الفوضى والصراخ كل صباح. تتوحش طبيعته فيضرب كل من يصدف أن يكون في طريقه، ثم يختار ركنًا قصيًا، حيث لا يراه أحد، ويبكي.
لا يحب أن يشاركه أحد الطاولات الست في مجموعته، فقد كان يزيحهم بالقوة لينفرد. سألته مرة: ما الذي حدث؟ فقال: أكره أبي. أجبته: أنا أيضًا أكرهه، فابتسم ابتسامة شقية. لقاؤنا الأول وسِمَ بعضّة على معصمي، ليفرّ بعدها هاربًا عندما أمرته بأن يجلس هادئًا. وفي لقاءٍ آخر لا يقل عنفًا، كدت أصدمه بسيارتي وهو مستلقٍ على الشارع بجانب بيته. يفيض هذا الطفل بغضبٍ خام، ولا يحكي عمّا فيه، إلا أن ما عرفته أنه طفل لأبوين منفصلين.
في نهاية دراستي الجامعية، كنت مرتعبةً من فكرة مغادرة الجامعة. تشبه الحياة الجامعية الانتقال من سور ضيق إلى سور أوسع بقليل، لكنني استطعت بحيلة ما أن أبقى لفصل آخر. أهداني القدر حينها رواية بعنوان "كافكا على الشاطئ"، وهي رواية ذات طابع وجودي عن فتى يقرر الخروج من المنزل، وفي جيبه ولّاعة، ليذهب إلى مدينة بعيدة ويعمل في مكتبة. فكيف لي ألا أتوحد مع رواية كهذه؟ علمت كذلك أن هاجس الخروج شغل كل أصدقائي المقربين. يربط رشدي تجربة الخروج بثنائية التمسك بالجذور أو الرحل، بما نعتقد أنه خير وشر. فالوطن خير والمنفى شر، البقاء تضحية والسفر أنانية(1).
مع خربشةٍ صغيرة على زاوية الورقة لغراب يقف على غصن، يفتتح هاروكي موراكامي روايته المكونة من 620 صفحة بسؤال: "لقد حللت مشكلة المال إذًا؟". ثم يدور حوار بين صوتين أحدهما للراوي والآخر لفتى يدعى "كرو" (الغراب). وكلاهما يبدو وكأنه يخطط للسرقة ثم الفرار. نكتشف بعد بضع صفحات أن هذا ليس سوى حوارٍ بين الراوي وصوته الداخلي. حوارٌ يشبه حوار الوردتين المتردد في مسرحية "المحطة"، والجملة اللحنية التي أدندنها كلما شعرت أن عليّ اتخاذ قرار حاسم: "وهيك نضل، وردة تبقى، ووردة تفل، وردة تبقى، ووردة...؟".
يبدأ موراكامي، بشعرية فذة، بتوصيف قد يعد الأكثر اقتباسًا لعاصفة رملية ميتافيزيقية تلاحق الراوي وتراوغه كرقصة مشؤومة. يقول الصوت الداخلي: "هذه العاصفة ليست شيئًا يهب فجأة من بعيد. إنها أنت، ولتنجو عليك أن تكتشف ماذا يعني أن تكون قويًا".
يسرد موراكامي في روايته سيرة شاب يبحث عن صوته الخاص بعيدًا عن ماضيه وخارج محيطه
ينقش موراكامي هذه الكلمات كوشمٍ أرزق. يشير إلى رفرفة أجنحةٍ واهنة، ويأتي على ذكر بحيرةٍ مظلمة من الحزن المخبأ. ومن خلال هذه الصور الشعرية، يقوم بتشريح البعد النفسي لحالة الصراع التي يمر بها الفتى "كافكا تامورا"، فهو يبدو كمراهق مستلب يمارس حيلًا نفسية فيغرق في داخله ليبقى متماسكًا وقويًا تجاه واقعه، الذي يتضح بالتدريج أن من يرسمه ويتحكم به هو والده. وفي الصباح، ينتقي كافكا مقتنيات والده الأثيرة ليفر من المنزل، ويكون سيد الموقف والمتكم في هذا المشهد.
إن معظم من يقدس هذه الرواية إنما قرأها في مرحلته الجامعية. ينجح موراكامي في سرد سيرة الشاب الباحث عن صوته الخاص في أقصى نقطة بعيدًا عن ماضيه، منفصلًا عن المحيط وخارج كل ما يألفه. وأكاد أجزم أن خروجنا في تلك المرحلة لا يقل تطرفًا عن سطوة الواقع، ذلك أنه خروجٌ صريحٌ غاضبٌ ومتوحش. وعندما أعود بذاكرتي أنا وأصدقائي إلى تعريفاتنا الخاصة حول أنفسنا في تلك الفترة، نجد أننا أطلقنا على أنفسنا أسماء من قبيل: اللامنتمي، الغريب، الغجري.. نتخفف أحيانًا من اسم القبيلة وثقله.
يلخص موراكامي في هذه الرواية حالة الاغتراب في اسم "كافكا"، الذي اختاره الراوي لنفسه. فلربما نتخيل هنا نهاية أخرى لانمساخ غريغور سامسا. ماذا لو قرر أن يرحل من بيته دون عودة؟ تستاء صديقتي "الحرة جدًا" التي أقنعتني يومًا أن الكتابة ممكنة، من تطويع موراكامي للرواية ليفرض عليها الشعور والفكرة بدقة فيرسمه ويقودها قسرًا لتلمسه، مصرةً أن في صور الواقع ما يكفي من المجاز لنقرأه. وربما أفهم وجهة نظرها الآن، فبنفس الطريقة التي يمسرح فيها طفل الساحة عاصفته الأليمة على مرآنا جميعًا كل صباح، وبقدر هذا العنف الشاخص، كنت أستطيع كبت عاصفتي الخاصة وابتلاعها لأوهِم الجميع أنني خرجت من باب جيراننا، قبل أن أعتلي حافة المدرسة.
في غمرة عواصفنا ونحن منخرطون في الواقع، قد نضل الطريق، تصبح الذاكرة انتقائية ومركَّزة، ولا تعود معادلة الحب والاستحقاق مفهومة. نربّي فينا القدرة على مقاومة الانكشاف والتحكم به، ولا نعرف ما هي حدود قدرتنا على التعبير. ما يؤكده موراكامي لنا، في هذا السياق، أننا بعد العاصفة لن نكون نفس الأشخاص. وما تؤكده لي القراءة في كل يوم أن البشر عواصف كامنة. أما في عمر النضج، فيستوجب علينا جميعًا أن نتجاوز ونتنكر لعواصفنا، وننخرط ببساطة في قصص الآخرين، وهنا نبدأ في اختراع أسمائنا من جديد.
للكاتب الأرجنتيني ألبرتو مانغويل مقولة عظيمة تبرر ما تفعله القراءة بنا: "في هذا الحقل الملتبس بين التملك والإدراك، بين الهوية المفروضة والهوية المتخيلة، يكمن فعل القراءة". تخرجنا العوالم الداخلية بدايةً خارج الواقع المدقع، الرتيب، القاسي، والشحيح. من يقبضون على ذلك الخيط الرفيع بين ما هو شاخص في الخارج، وما هو مخبوء في الداخل، هم أكثر الأشخاص حساسية. لكن وجود الحساسية لا يكفي، فالوعي بها هو ما يحولنا إلى آلهة.
وجدت مؤخرًا رواية يابانية غارقة في الواقعية إلى درجة تجعلها شبيهة بما تصبح عليه الحياة بعد أن نرتبط بوظيفة وعلاقات وأدوار اجتماعية تقلّص من احتمالاتنا. تبدأ الرواية التي تحمل عنوان "مدرسة الحرية"، وهي من تأليف شيشي بونروكو، بالخروج من المنزل، عندما تكتشف كاماكو أنها عالقة في زواج بدأ قبل الحرب بعشرين يومًا.
تمخَض عن هذه الحرب دستور جديد وأحاديث متداولة عن الحرية، وتغيّرات اجتماعية طالت وضع المرأة في اليابان، ووجدت طريقها إلى هذا البيت الياباني الهادىء الذي يضم زوجين تقليديين في عقدهما الثالث. بثلاث أسطر، يلخص الراوي التاريخ الاجتماعي للمرأة في فترة الحرب ومابعدها، وذلك عبر مشهد غارق في الاعتيادية لزوجة تدوس على آلة الخياطة بحنق، ومن خلفها مكتبة وإلى جانبها كتلة هامدة كما تسميها، وهو زوجها المدعو إيسوكي.
يقول بونروكو في روايته إن استقرار بيوت اليابانيين يعود إلى وجود علب الخياطة والإبر اليدوية فيها
يمثّل أزيز آلة الخياطة طريقة احتجاها اللبق لتدفع بزوجها إلى الخروج للعمل. كما أن هذه الآلة شكلت مصدر دخلهما. وهنا يعزو الراوي استقرار بيوت اليابانيين لوجود علب الخياطة والإبر اليدوية. أما غزو آلات الخياطة للبيوت، فقد تسبب في علو صوت المرأة. شعرت هنا برعشة وأنا أتبين أن معظم البيوت التي تبدو سعيدة، هي في حقيقتها قائمة على صمت النساء.
تنتمي "مدرسة الحرية"، وفق مترجمها، إلى نماذج الهزل الراقي في الأدب الياباني الحديث، حيث استعار الكاتب اسمها هزليًا لينشر روايته عندما قرر أن يعيش حياة رتيبة بعيدًا عن طوكيو ليتعافى من وفاة زوجته.
تطلب كاماكو، ككل الزوجات، من زوجها الخروج إلى العمل. لكن الأخير ينتصب فجأة ويعترف لها بأنه استقال من عمله. لم تستوعب كاماكو أن زوجها البليد إيسوكي كان بالفعل يفكر بالحرية والاستقالة من وظيفته.. كيف يجرؤ؟ وبنبرةٍ هادئة، تطلب منه الخروج.
تمثّل كاماكو جيل نساء ما قبل الحرب، فهي سيدة محافظة وزوجة مثالية لأنها تستطيع توفير بيتٍ هادئ لزوجها. ولأنها نشأت في عائلة غنية، حيث هناك من يرعاها دائمًا، لم تدرك تحولها إلى امرأة غاضبة تبعًا لشعورها بأنها تقدّم شيئًا خارقًا بإعالة زوجها، ولم تدرك بالضرورة أن زوجها سيخرج دون عودة، فانتظرته.. لكنه لم يعد.
خرج إيسوكي بتسليمٍ تام، وعاش متشردًا تحت الجسر، فاستعاد كل منهما صوته الخاص. بحثت كاماكو عن ذاتها المهدورة فقررت أن ترافق الجيل الأصغر، علّها تعود بالزمن. أما إيسوكي الذي ينحدر بدوره من عائلة غنية، فقد قرر العمل كجامع نفايات.
تنتمي رواية شيشي بونروكو "مدرسة الحرية" إلى نماذج الهزل الراقي في الأدب الياباني الحديث
تسمرح "مدرسة الحرية"، بعمق ورقّة وتريّث، أصوات الصراع التي تبدو تافهة، لكنها تشكل بؤر حياتنا اليومية، حيث تأتي القراءة هنا بوصفها حالة تعاطف. كما أن قارئها يجد المبررات الكافية لكل منهما، فيتخذ جانب الراوي على مسافة ووعي ليحرر شخوص الرواية من سطوته كقارئ.
تُخلق وتكبر أتعس القصص بسبب أشخاص عاجزين عن التعاطف وقراءة الآخر. الأشرار هم من يسمعون صدى أصواتهم، ويستحيل أن يسمعوا غيرها. من يستلبون أصوات ضحاياهم، هم من لم يخرجوا يومًا عن الفكرة والشعور، فتحولوا من ضحايا إلى جلادين. وهم من يبنون الأسوار المرئية وغير المرئية في الطرقات، والحارات، والمدن. من يعتقدون أن للحقيقة صوتًا وشكلًا واحدًا، لذلك لا يخرجون بحثًا عنها. نعم، يمكن أن يتجسد الشر المحض في من يمنح الحياة، ليستلب بموجب تلك المنحة ما يتبقى من الحياة. يمكن أن يتجسد الشر في من ينعم عليك ليشتري صمتك، ومن يخلق خوفك ليحميك. انتبهوا، فالأشرار لا يخرجون عن ذواتهم يومًا.